هذه الدراسة مُلخصٌ لأحد أجزاء كتابٍ عنوانه بالإنجليزية: (A Dialogue of Civilizations)، وقد ترجم إلى العربية تحت عنوان: “محاورات حضارية.. حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني”. والدراسة من إعداد صاحبة الكتاب ذاته وتعرض فيه الفرضية الأساسية للكتاب، وما توصَّلتْ إليه من التحليلات في فصلين من أبرز فصوله.
توضح الكاتبة أن مهمتها في هذا الكتاب أن تضع أفكار الأستاذ كولن داخل السياق الأكثر رحابةًً للحركة الإنسانية؛ فهي تسعى إلى إقامة حوارٍ نصيٍّ بين بعض المختارات من مقالات وخطاباتٍ وكلماتٍ الأستاذ كولن، وبين بعض نصوص مفكرين أو كُتَّابٍ أو فلاسفةٍ أو مُنظِّرين ينتمون إلى الخطاب العام للحركة الإنسانية، مثل: كونفوشيوس وأفلاطون وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل وجان بول سارتر.
وقناعة الكاتبة أن أعمال كلٍّ من الأستاذ كولن وهؤلاء المفكرين الإنسانيين تدور حول القضايا المركزية للوجود الإنساني. فهم منشغلون بالأسئلة الرئيسية التي تتناول الحياة البشرية والدولة والأخلاق.
يُدرِج عددٌ متزايدٌ من البحوث التي أُجريت مؤخرًا أفكارَ الأستاذ كولن ضمن سياقات التصوف والحركة النورسية والإسلام التركي والدين الإسلامي عمومًا، وضمن البيئة والمناخ الفكريَّيْن للحوار بين الأديان. لكن ما لم تقم به هذه البحوث حتى الآن هو إدراج أفكاره ضمن السياق الأكثر رحابة للخطاب الإنساني العام.
والإنسانية هي –من بين أمور أخرى– كلُّ فلسفةٍ أو عقيدةٍ أو وجهةِ نظرٍ تُعطي الأولوية لازدهار الإنسان وتقدمه وإنجازاته وجَماله ومسؤوليته وقيمه؛ وثَمَّة أشكالٌ متعددةٌ منها قد تواجدت لآلاف السنين في جميع أنحاء العالم؛ من ذلك –مثلًا لا حصرًا– أفكار وكتابات: كونفوشيوس، وقُدامى الإغريق كسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكثرةٍ من لاهوتيِّي وفلاسفة العصور الوسطى، ومُفكري عصر التنوير مثل لوك وكانط وهيوم، ومفكرين حداثيين كنيتشه وميل، وأعلام وجوديين كجان بول سارتر، وغيرهم.
يُعدُّ تمتع الإنسان بالحرية غورًا مهمًّا من أغوار قوة إرادته، وبابًا خفيًّا قد يدلف منه كثيرون إلى أسرار الذات. ومَن لا يستطع بلوغَ هذا الغور والمرورَ من خلال هذا الباب لا يُمكن تسميته إنسانًا”
ورغم أن أيًّا من هؤلاء الكُتَّاب لا يُقارب منتوجَه الإنساني من منظورٍ إسلامي، إلا أن النظرة الفاحصة لأعمالهم ولأفكار الأستاذ كولن تكشف عن وجود خطوط عريضةٍ من التجاوب بين أعمالهم وفكره. لا سيما أنه وعديدًا من هؤلاء المفكرين الإنسانيين الآخرين في المقابل يُعنون أنفسهم بأهمية التعليم في كلا جانبيه المهاراتي والقيمي، وحاجة الضمير للحرية، وما تُمثله الكرامة البشرية من قيمةٍ أخلاقيةٍ لكل المجتمعات العادلة الكريمة، وغرس الفضيلة في نفوس الأفراد باعتبارها عنصرًا ضروريًّا للحياة السعيدة ولخلق مجتمعٍ مدنيٍّ بحقٍّ في آن، والاضطلاع بمسؤوليةِ (واعتقادِ إمكانيةِ) إقامةِ مجتمعٍ بشريٍّ مُطردِ الرُقيِّ من أجل المستقبل.
وستَعرِض هذه الدراسة بإيجازٍ لموضوعين من هذه الموضوعات كما يتبدَّيان في أعمال كولن وكانط وميل؛ بُغيةَ توسيع معالم “الحوار” الذي أصبح الأستاذ كولن بسببه ذائعَ الصيت؛ فهذه الدراسة مُلخصٌ لأحد أجزاء كتابٍ يحمل العنوان نفسه وهدفي من ورائها هو عرض الفرضية الأساسية للكتاب، ومن ثَمَّ إيضاح ما توصَّلتُ إليه من التحليلات في فصلين من أبرز فصوله.
وأنا أشد على أيدي القراء لقراءة الكتاب بأكمله؛ للاطلاع على مُقتطفاتٍ أكثر إسهابًا وأدق عمقًا في معالجةٍ للتحليلات المعروضة ها هنا؛ إذ ستكتفي هذه الدراسة بمجرد استعراض النقاط الرئيسية لقسمين من أقسام الكتاب، وكذا مُؤدَّى الوجهة العامة للأطروحات التي تناولتُها.
ومهمتي في هذا الكتاب أن أضع أفكار الأستاذ فتح الله كولن داخل السياق الأكثر رحابةًً للحركة الإنسانية؛ وعلى وجه التحديد، فأنا أسعى إلى إقامة حوارٍ نصيٍّ بين نصوصٍ مطبوعةٍ من بعض المقالات المختارة، وخطاباتٍ وكلماتٍ ألقاها الأستاذ كولن من جهة، وبين بعض نصوص مفكرين أو كُتَّابٍ أو فلاسفةٍ أو مُنظِّرين ينتمون إلى الخطاب العام للحركة الإنسانية من جهةٍ أخرى، مثل: كونفوشيوس وأفلاطون وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل وجان بول سارتر.
وقناعتي في الكتاب أن أعمال كلٍّ من الأستاذ كولن وهؤلاء المفكرين الإنسانيين إنما تدور حول القضايا المركزية للوجود الإنساني. وبعبارةٍ أخرى، فإنهم منشغلون بالأسئلة الرئيسية التي تتناول الحياة البشرية والدولة والأخلاق. أضفْ إلى ذلك أنهم يصلون إلى استنتاجاتٍ متشابهةٍ فيما يتعلق بكثيرٍ من هذه القضايا والأسئلة بعد استقصائها من داخل تقاليدهم وسياقاتهم الثقافية الخاصة.
وفي قولي بالتشابه بين النتائج هنا، لا أقصد إلى تأكيد “التطابق”؛ فهؤلاء المفكرون ينتمون إلى خلفياتٍ وفتراتٍ زمنيةٍ وسياقاتٍ ثقافيةٍ/قوميةٍ وتقاليد دينيةٍ/روحيةٍ –وغير ذلك– بالغةِ التعدد، وهم مختلفون عن بعضهم البعض في مناحٍ بارزةٍ، إلى حدِّ أنه في مقاطع معينةٍ من أعمال كلٍّ منهم ينتقد بعضهم بعضًا (في حالة الكُتَّاب الأكثر معاصرة)، أو قد يُخال إلى المرء أنهم سيعيبون على بعضهم البعض كثيرًا من المسائل حالَ انخراطهم في حوارٍ فعلي “وليس في مجرد حوارٍ مُختلَق”؛ فالأستاذ كولن ينتقد سارتر والوجوديين وغيرهم من “الملحدين” انتقادًا صريحًا عدة مراتٍ في جميع أعماله، وميل يدافع عن نوعٍ من الحرية كان أفلاطون ليعتبره مقيتًا في مدينته الفاضلة، وعلى النقيض، ربما نظر ميل إلى جمهورية أفلاطون المثالية على أنها دكتاتوريةٌ قمعيةٌ في أغلب مناحيها. وسارتر ينسف كل تصورٍ يقول بوجود “عالمٍ للمُثُل” شاملٍ ومُتعالٍ، سواءٌ عبَّر عنه أفلاطون أو كانط أو كولن. أما أفكار كونفوشيوس الذي يصدُر عن منظورٍ صينيٍّ يعود إلى القرن السادس فليس ثَمَّ قواسمٌ مشتركةٌ بينها وبين تصورات المفكرين التنويريين أو ما بعد التنويريين الغربيين مثل كانط وميل إلا القليل.
بيد أن ما يُثير اهتمامي هو الحوار بين الأشخاص ذوي الرؤى بالغة التباين. وكذلك فإنني أعتقد بضرورة مثل هذا الحوار في عالم اليوم الذي دفعت العولمةُ ووسائلُ الاتصالات والتكنولوجيا أفرادَه وجماعاتِه معًا إلى ارتياد طرقٍ لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل؛ فالأشخاص الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين يتفاعلون مع غيرهم من الجماعات والأشخاص المختلفين عنهم ويتأثرون بهم أكثر من أي وقتٍ مضى، ونحن نقابل بشكلٍ متزايدٍ أفرادًا وجماعاتٍ تختلف رؤاهم عن رؤانا بصورةٍ كاملةٍ، وهم يُشكِّلون دائرةَ جيراننا وزملائنا في العمل ورفاق أطفالنا في المدارس وأصهارنا وعملائنا وأرباب أعمالنا وغير ذلك.
إن مما يجب علينا في عالم اليوم فعلُه أن نُنمِّي من قابليتنا للحوار وأن نعقد أواصرَ بيننا مع الأشخاص المختلفين عنا إلى حدٍّ كبير.
ونحن غالبًا ما نحاول الحد من اتصالنا بأولئك “الأغيار”؛ مخافةَ اضطرارنا إلى الشعور بما يُحتِّمه علينا وجودُهم من ضرورة “الانبساط”؛ فقد نعزل أنفسنا ونَقْصُر حياتنا على ما نألفه من دوائر الأشخاص الذين يدينون ويفكرون ويتحدثون ويؤمنون ويُصَلُّون بنفس طريقتنا. غير أن مثل هذه العزلة أو تحجيم الاختلاف لن يُجدي نفعًا بمرور الوقت، أعني ليس في هذا العصر، بما فيه من أسلحة الدمار الشامل، ومع قدرتنا المطردة ليس على إنهاء حياة الملايين فحسب، بل وعلى إفناء الحياة ذاتها، أو الحياة كما نعرفها.
إن مما يجب علينا في عالم اليوم فعلُه أن نُنمِّي من قابليتنا للحوار وأن نعقد أواصرَ بيننا وبين الأشخاص المختلفين عنا إلى حدٍّ كبير. ولعل جانبًا من هذا الطرح يتمثل في إيجاد الأفكار والمعتقدات والغايات والأهداف. إلخ التي يُمكننا أن نحقق بصددها التجاوب بعضنا مع بعض.
وليس التطابق ما أقصد إليه، بل التجاوب؛ أي ما يكفي من التجانس بحيث يُمكننا –عند نقطةٍٍ معينةٍ في الطريق– أن تتشابك الأيدي كمسافرين رفقاء في هذه الحياة، واعين أبدًا بما بيننا من اختلافاتٍ تفوق الحصر.
لقد نافح الأستاذ كولن عن الحوار بوصفه التزامًا وحراكًا ضروريًّا لعالمنا المعاصر، وذلك خلال مسيرته كإمامٍ رسمي في تركيا وكعالِمٍ ومُعلِّمٍ ألهم نحو جيلٍٍ بأكمله من الشباب في جميع أرجاء البلاد وخارجها. ومن ثَمَّ فإنه من المناسب أن نُدخِله –من خلال نصوصه– “في حوارٍ” مع غيره من مفكرين وكُتَّاب شربوا من معين مختلف عن معينه؛ علَّنا –كقراء– نتأسى بهذا الطرح فنصبح أكثر استيعابًا للاختلاف.
لكنَّ الأهم من ذلك أن من شأن مثل هذا الحوار بين أفرادٍ يشتهرون بالمعرفة والموهبة أن يساعد كلَّ واحدٍ منا من المهتمين بمثل هذه الأمور على أن يُركز بشكلٍ أكثر عمقًا على القضايا الكبرى الخالدة في الحياة البشرية؛ فبينما تختلف حياة الإنسان في سماتها من عصرٍ إلى عصر، فإن طبيعتها العميقة –وما تثيره من قلقٍ وتساؤلاتٍ– لم تتغير؛ فنحن نطرح اليوم نفس الأسئلة التي طرحها أسلافنا عن معنى الوجود وقيمته وكيفية إقامة المجتمعات وحدود الحرية.
وأنا آمل أن يُمثِّل هذا الحوار المتخيل بين الأستاذ كولن والمذكورين أعلاه فرصةً لأولئك الذين يقوم على أكتافهم المستقبلُ من بيننا اليوم لتحمُّلهم الجاد لمسؤولية صوغ أنفسنا والمجتمع والعالَم وفقًا للمُثُل الأكثر سموًّا، وعلى أفضل نحوٍ ممكن.
وقد أقمتُ الحوار بين الأستاذ كولن وغيره من المفكرين الإنسانيين حول خمس مباحث بارزةٍ تتناول مسائل وقضايا جوهريةً تخصُّ وجود الإنسان في العالم(1)، ألا وهي:
– القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية
– حرية الفكر
– غرس الفضيلة في الأفراد
– أهمية التعليم
– المسؤولية الإنسانية
وهذه المباحث يعرفها كافة دارسي الخطاب الإنساني العام، سواءٌ من العصور القديمة أو المعاصرة، من أوروبا أو آسيا أو إفريقيا، سواء أكان ذلك من منظور ديني أو منظورٍ علماني.
وخلال كل مبحث، حددتُ مفكرًا رئيسيًّا أدخلتُه مع الأستاذ كولن في حوارٍ نصي، وقد اخترت هؤلاء المفكرين الرئيسيين على أساس ما بين أطروحاتهم المتعلقة بالموضوع المحدد من تجاوبٍ مع طرح الأستاذ كولن المتعلق بنفس الموضوع، لكن بمنظورٍ إسلامي. وقد كان بوسعي انتقاء مفكرين إنسانيين آخرين، لكنني آثرتُ المذكورين أدناه لأنني شعرتُ ببراعتهم الخاصة في التعبير، وكذا –لأكون صادقًة– نظرًا لإعجابي وتقديري العميقَين لنِتاجاتهم، بعد عكوفي على تدريس أفكارهم داخل قاعات الجامعة لمدة خمسة عشر عامًا حتى الآن.
وخلال الصفحات المتبقية من هذه الدراسة أعالج المبحثين الأولين المذكورَين أعلاه كما يتناولهما كولن وكانط وميل في أعمال كلٍّ منهم. وكما أشرتُ سابقًا، تُمثِّل هذه الفقرات نصوصًا مختصرةً لفصول الكتاب؛ بيد أنها –بصورتها المختزلة تلك– تمدنا بأمثلةٍ لنوع “المحاورات” التي أرغب في عقدها بين الأستاذ كولن وغيره من المفكرين الإنسانيين. وعلاوةً على ذلك، فإنها تتناول بالنقاش موضوعاتٍ أعتقد بأهميتها القصوى لبحوثنا الأكاديمية والمدنية.
المبحث الأول: القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية
إن الحركة “الإنسانية” تضع الإنسان –فردًا وجماعةً ونوعًا وشكلًا من أشكال الوجود– في مركز اهتماماتها؛ ولذا كان أكثر ما نادت به هو أن الحياة البشرية عمومًا، وحياة كل إنسانٍ بشكلٍ أخص، تتمتع –على نحوٍ ما– بقيمةٍ إنسانيةٍ متأصلة. وإلى جانب ذلك فإن احترام هذه القيمة المتأصلة إنما يُمثِّل –في كثيرٍ من المناهج الإنسانية– نقطة البدء أو الأساس الذي ترتكز إليه منظومة الأخلاق الرئيسية.
لقد نافح الأستاذ كولن، خلال مسيرته كإمامٍ رسمي في تركيا وكعالِمٍ ومُعلِّمٍ ألهم نحو جيلٍٍ بأكمله من الشباب في جميع أرجاء البلاد وخارجها، عن الحوار بوصفه التزامًا وحراكًا ضروريًّا لعالمنا المعاصر.
وفي رأيي، فإن أحدًا لا يُعبِّر عن هذه الحقيقة على نحوٍ يتسم بالقوة والتماسك مثلما يُعبِّر عنها فيلسوف القرن الثامن عشر، الألماني إيمانويل كانط؛ ففي كتابه “أساس ميتافيزيقا الأخلاق”، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1785، يسعى كانط إلى توضيح “المبدأ الأسمى للأخلاق”(2)، وهو يقصد إلى إيضاحه على أساسٍ عقلانيٍّ –لا إمبريقي (تجريبي)– بحتٍ؛ حتى لا يخضع الفعل الأخلاقي للملابسات أو المشاعر البشرية أو الأهواء أو الظروف.
ولعل المساحة المتاحة ها هنا لا تكفي لاستعراض خصائص منهج كانط أو استنتاجاته، أو لإيجاز مُجمل نقاشاته في ذلك الكتاب إيجازًا ملائمًا. ولذا؛ سأكتفي بتلخيص النقاط وثيقة الصلة بنقاشه حول الإنسان كغايةٍ في ذاته، ومن ثَمَّ ككائنٍ ذي قيمةٍ مُتأصلةٍ لا ينبغي لها أن تُعاب.
لقد ارتكز الطرح الكانطي في “التأسيس” إلى ثلاثة مفاهيم أساسية، هي: العقل والإرادة والواجب. وباختصار، فإنه يقول إن الإنسان يختلف عن الحيوان في تمتعه بصفة العقل.
وقد حبَتنا الطبيعة بهذا العقل؛ لا لتجلبَ لنا السعادة أو لتساعدَنا في تأمين الرفاهية أو البقاء، بل بالأحرى تتكفل الغريزة التي بداخلنا –فيما يذهب كانط– بمثل هذه الأمور أفضل كثيرًا من العقل، مثلما هي الحال في حالة الحيوانات. وبدلًا من ذلك، يختص العقل فينا بتنمية الإرادة، التي لا غنى عنها –لا سيما الخيِّر منها– لأي مفهومٍ عن الأخلاق.
إن الأشياء الخيِّرة لا يُمكن أن تتأتَّى دون الإرادة الخيِّرة، وذلك بغض النظر عن غيرها من المواهب أو القدرات التي قد يتمتع بها الفرد؛ فهي خيرٌ في ذاتها وضروريةٌ للفعل الأخلاقي. ويُضيف كانط أن الإرادة الخيِّرة إنما تُتَلمَّس بالأساس في القدرة على التصرف صدورًا عن الواجب وحده، لا وفقًا للظروف والمشاعر. وهو يُكرس أغلب أطروحته لتوضيح هذه المفاهيم الأساسية الثلاث للعقل والإرادة والواجب وعملها داخل ميتافيزيقا أخلاقيةٍ يُمكن للإنسان أن يصوغ من خلالها مبدأً أسمىً للأخلاق يُوجِّه كافةَ تفكُّراته وأفعاله. هذا المبدأ الأسمى يُسميه كانط بـ “الأمر المطلق”، وهو يتخذ عدة أشكالٍ في أطروحته، أكثرها شيوعًا هو: “لا ينبغي لي التصرفُ مُطلقًا إلا بالطريقة التي يُمكنني معها أن أريد لمبدئي أن يصبح قانونًا عامًّا”(3).
يرى كانط –إذن– أن الإنسان يمتلك العقل لِيُنمِّيَ داخل نفسه الإرادةَ الخيِّرة التي تصدُر في أفعالها عن الشعور بالواجب تجاه القانون الأخلاقي، بغض النظر عن الظروف أو المشاعر أو الأهواء أو المنفعة الشخصية. وهكذا تشتمل طبيعته، ككائنٍ عقلاني، على أسس الأخلاق ذاتها، ويتسم –من ثَمَّ– بقيمةٍ مُتأصلة. أما خارج الإنسان، الذي هو كائنٌ عقلاني، فلا يوجد مفهومٌ واقعيٌّ للخير الأخلاقي؛ إذ ليس ثمة شيءٌ يُمكنه تحديد ما هو خيِّرٌ أخلاقيًّا بصورةٍ عقلانيةٍ وإكسابُه صفةَ العموم سوى الإنسان ذاته.
ويضيف كانط بأن الإنسان –من حيث هو كذلك– يمتلك قيمةً متأصلةً، لا قيمةً سوقية؛ فقيمته لا تقبل المساومة، وهي ليست شيئًا يُمكن بيعه أو شراؤه، أو شيئًا ذا قيمةٍ نسبيةٍ يتوقف على مُعطيات السوق.
وبذا تُسوِّغ رؤيته تلك “النظرَ إلى الحالة الإنسانية بوصفها مرادفًا للكرامة وتضعها بشكلٍٍ مطلقٍ فوق كل ثمن، ما يعني عدم إمكانية وضعها موضع المنافسة أو المقارنة البتة دون انتهاك ما لها من قداسةٍ، إذا جاز التعبير”(4).
ثم ينتقل إلى القول بأن “الطبيعة العاقلة تتميز عن باقي أشكال الطبيعة بحقيقة أنها تجعل من نفسها غاية”(5). وبذا يكون بعدٌ آخر من أبعاد “الأمر المطلق” هو أنه “يَلزمُ للكائنِ العاقلِ ذاتِه أن يكون الأساسَ الذي تصدُر عنه كافةُ مباديء السلوك، وبالتالي لا يجب التعامل معه مطلقًا على أنه وسيلةٌ محضة، بل على أنه الشرط الأسمى الذي يُحكِم استخدام جميع الوسائل، أي أنه دائمًا ما يكون غايةً في الوقت نفسه”(6).
إن الإنسان غايةٌ في ذاته، لا محض وسيلةٍ لغايةِ شخصٍ آخر. ولذا لا يُمكن استخدامه كأداةٍٍ لتحقيق أهداف غيره أو أجنداتهم أو أيديولوجياتهم وحسب؛ فرغم أنه قد يُوظَّف في سبيل هذه المساعي، إلا أنه لا يُمكن اعتباره مجرد أو محض خادمٍ لأيٍّ من هذه المخططات؛ فهو دائمًا ما يكون غايةً في ذاته، حاملًا قيمةً وكرامةً متأصلتين، بغض النظر عن أي ميزةٍ أو منفعةٍ يقدمها لصالح أهداف وأجندات أي شخصٍ آخر.
لقد دافع التنوير الغربي، الذي كان كانط جزءًا منه، عن مفاهيم الكرامة الإنسانية المتأصلة تلك، ما أحدث تغيراتٍ جذريةً في المجتمع خلال القرن الثامن عشر وما تلاه. وبطبيعة الحال، فإن هذه الأفكار ليست حكرًا على حركة التنوير الغربية؛ فقد تناولها مفكرون وكُتَّاب من شتى أنحاء العالم في إطار مبادئهم الثقافية أو الدينية أو الفلسفية الخاصة. فعلى مدار قرون، ومن داخل أجزاء عديدةٍ من العالم، دأب العلماء المسلمون –مثلًا– على تأوُّل القرآن باعتباره مُعبِّرًا عن مثل هذه المفاهيم حول القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية.
ولعل أعمال الأستاذ كولن أن تكون مثالًا للثقافة الإسلامية التي تُكرِّس لـ “النداء” القرآني الذي يؤكد على جمال الإنسان وقيمته البارزَين؛ إذ يُحيلنا إلى مثل هذه النصوص القرآنية ويوضحها بصورةٍ متكررةٍ لدى معالجته للتساؤلات حول الجهاد والعنف والإرهاب واحترام حياة الإنسان بصفةٍ عامة “لا حياة الإنسان المسلم وحده”. وخلال هذه الأجزاء من أعماله، يظهر واضحًا تجاوبُه مع أفكار كانط، رغم أن كلًّا منهما يؤسس آراءه عن القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية اعتمادًا على رؤىً مختلفةٍ تمامًا.
في قطعةٍ بعنوان “البشر وطبيعتهم الخاصة”، يتحدث الأستاذ كولن عن القيمة المتعالية للإنسان، فيبدأ القطعة بهذه العبارة النابضة بالحياة: “البشر، المرآة العظمى لأسماء وصفات وأفعال الله تعالى، مرايا وضاءة، ثمرةٌ مدهشةٌ من ثمار الحياة، ينبوعٌ للكون كله، بحرٌ يبدو كقطرةٍ صغيرة، شمسٌ تشكَّلت كبذرةٍ وديعة، لحنٌ جليلٌ رغم مكانتهم المادية المتدنية، ومصدر الوجود الذي يتجمَّع بكامله داخل جسمٍ ضئيل. إنهم يحملون سرًّا مقدَّسًا يجعلهم ندًّا للكون بأكمله، بكل ما لديهم من خصوبةِ الشخصية، خصوبةٍ يُمكن تعهدُها حتى تبلغ الكمال”(7).
ألا عسانا –بتوجيهِ كولن وكانط– نُجدد أنفسنا وفقًا لأطروحاتهم؛ تجنبًا لارتكاب مزيدٍ من الفظاعات التي قد تكون أكثر بشاعة مما ارتكبناه سابقًا في حق أسرتنا الإنسانية؟
ويواصل قائلًا إن: “الوجود بأكمله يصبح كتابًا يُمكن قراءته بفضل الفهم والبصيرة الإنسانيَين وحدهما. إن البشر –بكل ما فيهم وما حولهم– شهودٌ مَلَكِيُّون على عظمة مَلكهم الله”(8). ثم يُنهي هذا الخط الفكري بقوله: “عندما يندمج هذا الكونُ اللامحدود جميعُه –بكل ما فيه من ثرواتٍ ومكوناتٍ وتاريخ– بالإنسانية تتضح غاية سمو قيمة النوع البشري على قيمة كل شيء. إن البشر أرفع مقامًا في الإسلام لمجرد كونهم بشرًا”(9).
وهكذا يعزو الأستاذ كولن –في هذه المقتطفات– أعظم قيمةٍ وأسماها للإنسان؛ لِما يتمتع به من القدرة على مشاهدة الكون وتفسيره؛ فكونه شاهدًا هذه صفتُه يجعله مرآةً تنعكس فيها صفات الله، وسطحًا عاكسًا للكتاب الإلهي المُتمثِّل في الكون؛ فبدون الإنسان، لا يُعرَف الكون، ولا يكون هناك من يدركه.
وفي قطعةٍ أخرى، يعيد الأستاذ كولن القول بأن البشر هم مركز الكون ومعناه، وأنهم –لذلك– يحوزون مرتبةً أعلى حتى من مرتبة الملائكة؛ فهم الذين يُضفون على الحياة –من خلال حراكهم وفهمهم– ماهيتها:
مع أخذنا بعين الاعتبار كل هذا التقدير الذي خُلع على الإنسانية، مقارنةً ببقية الخلائق كافة، فإنه ينبغي النظرُ إليها باعتبارها الصوت الذي يُعبِّر عن طبيعة الأشياء، وطبيعة الأحداث، وبالطبع طبيعة الواحد القدير الذي يُدبر الأمر كله، وفهمُها على أنها القلب الذي يشتمل على جميع الأكوان؛ فبوجود البشر، عثرت الخليقة على من يُفسرها، وقُطِّرت المادة من خلال مصفاة الإدراك البشري فتبيَّنتْ وجهَها الروحاني.
إن القدرةَ على رصد الأشياء خاصةٌ بالإنسان وحده، وأهليتَه لقراءةِ كتاب الكون وتفسيرِه امتيازٌٌ يختص به، ونسبتَه كل شيءٍ إلى الخالق نعمةٌ هائلة، وتفكُّرَه الذاتي المطْمئن تأمُّل، وكلامَه حكمة، وتفسيرَه النهائي لكافة الأشياء محبة.(10)
إذن، ففي حين يذهب كانط إلى أن القيمة المتأصلة في الإنسان إنما تستند إلى كونه كائنًا عقلانيًّا يخرج القانون الأخلاقي من خلاله إلى حيز الوجود الواقعي في العالم، يُدافع الأستاذ كولن عن قيمةٍ إنسانيةٍ تنبع من مكانة البشر بوصفهم الكائناتِ الوحيدةَ التي يُمكن من خلالها معرفةُ كتاب الله من الخلائق والتعبيرُ عن عجائب الوجود.ما يعني –في كلتا الحالتين– أن البشر –كأفرادٍ وجماعاتٍ– لا غنى عنهم بالنسبة للمقومات الأساسية للوجود، والتي تتمثل –في إحدى الحالتين– في الأخلاق، وفي الأخرى في كلٍّ من المعرفة والحكمة والمحبة.
وفوق ذلك، فإن الأستاذ كولن –شأنه في ذلك شأن كانط– ينظر إلى القيمة والكرامة الإنسانيتين باعتبارهما أساسَ تحديد السلوك المشروع من غير المشروع تجاه الآخرين داخل المجتمع؛ ففي إحدى كتاباته التي تتناول حقوق الإنسان في الإسلام، يذهب الأستاذ كولن إلى أن الدين الإسلامي يتضمن التصور الأمثل للحقوق العامة للإنسان، وأنه ليس ثمة دينٌ أو نظامٌ أو جهةٌ أخرى تفوقه في هذا المضمار. يقول: “يَعتبر الإسلام أن مَن قتل نفسًا واحدةً فكأنما قتل الناس جميعًا؛ ذلك أن قتل شخصٍ واحدٍ يُعدُّ مدخلًا لفكرة إمكانية قتل أي إنسان”(11). وفي موضعٍ آخر يقول إنه من وجهة النظر الإسلامية: “يتمتع كل إنسان، رجلًا كان أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا، أبيض أو أسود، بالاحترام والحماية وصون الحرمة؛ بحيث إنه لا يجوز نزع ممتلكاته، ولا المساس بعِرضه، ولا إخراجه من موطنه، ولا جحود استقلاليته، ولا الحيلولة –كذلك– بينه وبين أن يحيا وفقًا لمبادئه. وفوق ذلك، يُحظر عليه ارتكاب مثل هذه الجرائم بحق الآخرين بالمثل؛ فلا يحق له إلحاق الأذى بهذه العطية الربانية [أي الإنسانية] التي لا يحوزها إلا بشكلٍ مؤقت؛ فالله وحده مالك كل شيءٍ على وجه الحقيقة. ويجب على الإنسان الدفاع عن هذه العطية والحفاظ على سلامتها؛ فهي عطيته المقدسة التي لن يضر بها ولن يسمح بوقوع الأذى عليها، وعليه –إذا لزم الأمر– أن يقاتل ويموت من أجلها”(12).
وكما هو واضح، يتردد صدى روح التحليل الكانطي لدى الأستاذ كولن رغم صدور هذا الأخير عن إطارٍ فكريٍّ مُغايرٍ بالكُليِّة، أي عن نظرة الإسلام الدينية الفلسفية إلى العالم. وهكذا نجد أن القيمة –أو حتى القداسة– المتأصلة في البشر تتطلب حماية الإنسانية حمايةً شاملةً وتحظر انتهاكها بشكلٍ قاطع. كما نجد أنه بالنسبة إلى كلٍّ من كانط وكولن، فإن الإنسانيةَ –كشكلٍ من أشكال الوجود– وأفرادَ النوع البشري وكائناتِه مُذهلون بحق.
لقد اكتسبت مختلف الآراء حول القيمة المتأصلة للكرامة الأخلاقية للإنسان –سواء قال بها مفكرو التنوير الغربي أم علماء إسلاميون يتأوَّلون القرآن أم غيرُهم من أي خلفيةٍ ثقافيةٍ كانت– أهميةً بارزةً في عالم اليوم. بيد أن الآراء في ذاتها لا تُحقق شيئًا، وإنما تصبح الثقافات والمجتمعات أقل همجيةً ودمويةً ووحشيةً ساعةَ يُلزِم الإنسانُ نفسَه بهذه الآراء ويجعلها أساسًا لسلوكه.
ونحن نتعلم من التاريخ أن المجتمعات التي تُبقي على القيمة الإنسانية المتأصلة في صميم وجودها السياسي والثقافي تُتيح لكافة أبنائها وساكنيها قدرًا من الاستقرار والسلام، لكنها حين تنزلق إلى مستنقع الاضطهاد والإبادة الجماعية يكون ذلك في الأغلب بسبب تخليها عن مبدَأَي القيمة المتأصلة والكرامة الأخلاقية.
وفي الأخير، ألا عسانا –بتوجيهِ كولن وكانط– نُجدد أنفسنا وفقًا لهذه الأطروحات؛ تجنبًا لارتكاب مزيدٍ من الفظاعات التي قد تكون أكثر بشاعة مما ارتكبناه سابقًا في حق أسرتنا الإنسانية؟
المبحث الثاني: حرية الفكر
يضع التفكير الإنساني، وبخاصةٍ في أنماطه الحديثة، حريةَ الفكرِ والتعبيرِ عن التصوراتِ موضعََ الصدارة من أطروحاته، سواء من الناحية الفلسفية أو من الناحية الاجتماعية السياسية؛ حيث تمخضت فكرةُ الحرية التي نصت عليها الأشكال الحديثة من النزعة الإنسانية عن كافة صور حرية الصحافة وحرية التظاهر السلمي العلني والحق في التجمع وغيرها من الصيغ المماثلة. ومن الوجهة الفلسفية، تعود فكرة الحرية بجذورها إلى العالم القديم حين جابه الفلاسفةُ أنفسَهم والآخرين بكل تجليات الفكر وأخذوا على عواتقهم تفنيدها في الأسواق بحضرة كل الراغبين في الإنصات. وهكذا انحدرت بعضُ أعظم معارفنا الكلاسيكية في الغرب عن هؤلاء الفلاسفة الذين أباحوا لأنفسهم حريةَ التأمل والبَوْح، ولو أوردهم ذلك –في نهاية المطاف– موارد الهَلَكَة أو النفي، رافضين تكبيل عقولهم وأصواتهم، حتى وإن صدر ذلك عن الدولة.
أما في الغرب المعاصر، فإن فلاسفةً وكُتَّابًا عديدين يوضحون مفهوم الحرية هذا بكل ما أُوتوا من قوة، وإن لم يُعبِّر أحدٌ –فيما أرى– عن هذا المفهوم بشكلٍ أكثر تحديدًا وجذريةً من المُنظِّر الاجتماعي السياسي البريطاني جون ستيوارت ميل الذي عاش في القرن التاسع عشر.
أدعو القراء إلى قراءة الكتاب بأكمله؛ للاطلاع على مُقتطفاتٍ أكثر إسهابًا وأدق عمقًا في معالجةٍ للتحليلات المعروضة هنا؛ فهذه الدراسة تستعرض النقاط الرئيسية لقسمين من أقسام الكتاب فحسب.
وفي هذا القسم من أقسام البحث، أعقد حوارًا بينه وبين الأستاذ كولن حول مفهوم حرية الفكر رغم ما بينهما من بونٍ شاسعٍ في نواحٍ بارزة؛ فأنماط الحريات التي يُجيزها ميل داخل المجتمع ربما تفوق كثيرًا تلك التي يُقرها الأستاذ كولن، لدرجة أن الرؤية الاجتماعية التي يُعبر عنها كلٌّ منهما ستتمخض عن مجتمعٍ يُباين مجتمع الآخر في مناحٍ متعددة. لكن من الناحية الأخرى، سيتسم كلا المجتمعَين –ولو من الناحية النظرية– بالتسامح في مسائل العقيدة والممارسة الدينية، وسيُبيح كلاهما الخوض في التساؤلات والنقاشات الحيوية حول القضايا المتصلة بالحقيقة في معظم –إن لم يكن في كافة– المجالات. وقد يرجع السبب في وجود هذه التشابهات بين “تصورَيهما” للمجتمع إلى التزامهما المشترك بقيمة الحرية، وبخاصةٍ في مسائل الفكر والضمير.
ولعل أكثر ما يشتهر به ميل هو كتابه “النفعيّة” Utilitarianism الذي يتناول فيه فلسفة الأخلاق. ومع ذلك، أود لو أسلط الضوء على عملٍ آخر من أعماله المهمة، وأعني بذلك كتابه “عن الحرية” الذي نُشر عام 1859؛ ففي هذا الكتاب، يحدد ميل مشروعه بوصفه إيضاحًا للحريات الاجتماعية أو المدنية، وبعبارةٍ أخرى “طبيعة السلطة المشروعة التي يُمكن للمجتمع فرضها على الأفراد وحدود هذه السلطة”(13).
يقول ميل: “إن جيلًا متأخرًا زمنيًّا من الأجيال السابقة في تاريخ الغرب قد انشغل بمسألة طغيان الحكام، فابتدع شكل الحكم النيابي الذي أطاح بالقوى الاستبدادية للملوك مُدَّعِي الحق الإلهي ومَن لفَّ لفَّهم”. ولَمَّا كان ميل ومعاصروه قد أفادوا من هذا النضال السابق، فإنهم ما عادوا مضطرين –في الأغلب– إلى مقاومة هذا الشكل من أشكال الطغيان. بيد أنه يعود فيؤكد أنه يَلزم للجيل الحالي، أي معاصريه في بريطانيا القرن التاسع عشر، أن يناضلوا ضد نوعٍ آخر من الطغيان يتمثَّل في استبداد الأغلبية. يقول: “من ثَمَّ، لا تكفي حماية الأفراد من طغيان الحكام، بل يجب حمايتهم كذلك من طغيان المشاعر والآراء السائدة، ومن مَيْل المجتمع إلى أن يفرض –بوسائل أخرى غير العقوبات المدنية– أفكارَه وعاداتِه بوصفها قواعدَ للسلوك على الذين يعارضونها، فيعوق بذلك نمو الشخصية الفردية التي لا تتوافق وأساليبَه، بل يحاول –لو أمكن– منع تكوُّنها من الأساس، ويُجبر جميع الأفراد على التقولب بقالبه؛ فهناك خط يرسم حدود التدخل المشروع للرأي الجمعي في استقلالية الفرد، وترسيمُ حدود هذا الخط وحمايتُه من الانتهاك مسألةٌ لا غنى عنها لصلاح الأحوال البشرية، تمامًا كما أنه لا غنى عن حماية الأفراد من الاستبداد السياسي”(14).
أي إن ميل يضع يده على تجلٍّ خفيٍّ من تجليات الاستبداد يوجد في المجتمع حتى مع تطبيق النظام النيابي في الحكم. هذا الاستبداد ذو طابعٍ اجتماعيٍّ أو مدني، وهو يبرز كضغطٍ يمارسه المجتمع على أفراده ليتوافقوا ومعتقداتِه وعاداتِه “الطبيعية” في كافة مجالات الحياة؛ لمجرد أن المجتمع يرى هذه المعتقدات والعادات بوصفها “طبائع الأمور”، ولمجرد أن أغلبية أفراده يتبنُّونها. وبذا ينبغي على كل فردٍ –تأسيسًا على هذا المنطق– أن “يفعل المتوقع منه” أو يتم إجباره على ذلك، وهو الشيء الذي يرفضه ميل فيشرع في إرساء المبدأ الذي يُمكننا من خلاله تحديد مدى مشروعية تدخل الدولة أو ممثلي المجتمع في حرية الأفراد؛ بما أن هذا التدخل لا يقوم إلا على أساس التفضيلات الشخصية أو العرف.
وهكذا يُفصح عن مبدئه الخاص بالحريات المدنية منذ مُفتتح كتابه فيقول: “إن الغاية الوحيدة التي تُبيح للبشر التعرضَ –بصفةٍ فرديةٍ أو جمعيةٍ– لحرية تصرف أي مجموعةٍ منهم هي حماية النفس؛ فالغرض الوحيد الذي يُمكن لأجله فرضُ السلطة بشكلٍ مشروعٍ على أي فردٍ من أفراد المجتمع المتمدن –ولو ضد رغبته– هو منع الضرر عن الآخرين؛ وليس يُسوِّغ فرضَ السلطة إنفاذُ ما ترى الدولة أو المجتمع أنه يصب في مصلحته الشخصية، ماديةً كانت أو معنوية؛ فالإنسان سيد نفسه وجسده وعقله”(15).
ذاك مبدأٌ راديكاليٌّ في الحرية؛ فهو يجعل من الضرر الجسيم المباشر الأساسَ الشرعي الوحيد تقريبًا الذي يُمكن للدولة أو السلطات المدنية أن تتدخل بمقتضاه في سلوك الأفراد. ورغم أن الأستاذ كولن سيجد هذا المبدأ بالغ الليبرالية بلا شك، إلا أن هناك تجاوبًا بين الرجلين فيما يتعلق بفكرة الحرية هذه، خصوصًا في مجال الفكر والنقاش، الذي يُكرِّس له ميل فصلًا كاملًا من كتابه(16).
بشكلٍ لا لبس فيه يُناصر ستيوارت ميل حرية الفكر والنقاش، حتى لو اتضح أن الأفكار التي يناقشها المجتمع ويُعبِّر عنها أفكارٌ خاطئة، ويذهب إلى أن المقولاتِ المؤكدةَ التي تُطرَح على المجتمع للتباحث بشأنها إما أن تكون صحيحةً أو خاطئةً أو بين بين أي صحيحة من جانبٍ وخاطئة من جانبٍ آخر. وأيًّا ما كان الأمر، فإن أسمى مصالح المجتمعات إنما تتحقق حين يُسمَح بحريةِ التعبير وتفنيدِ المفاهيم؛ فلو ثبتت صحة الفكرة، سيستشعر المواطنون تقديرًا متجددًا تجاه أصالتها بعد أن ناقشوها وأعادوا النظر في الحجج الداعمة لها ودافعوا عنها ضد مُناوئيها. وبهذه الطريقة تظل الأفكار الصائبة حيةً نابضةً في أعين الأفراد، بدلًا من أن تُبتذل وتخمل جرَّاء قبولها المجرد كمُسلَّمةٍ على مدى أجيال. ولو ثبت خطؤها، يكون المجتمع قد أفاد من طرحها للنقاش العام بالمثل؛ إذ يُعاد النظر إلى أدلة بطلانها، أو تُصبح هذه الأدلة واضحةً أمام كل المعنيين؛ فيدينون بالحقيقة عن اقتناعٍ أكثر من ذي قبل. أما الأرجح –فيما يرى ميل– فأن تشتمل الفكرة المطروحة على مزيجٍ من الصواب والخطأ؛ فالواقع أن أحدًا لا يمتلك الحقيقة المطلقة عن أي شيء، وليس بوسع العقل البشري أن يتصور الحقيقة بتمامها عن أي شيء؛ لأننا لا نعرف الأشياء في ذاتها، بل مجرد تصوراتٍ تتوقف على موقعنا منها. لذلك، ينبغي التعبير عن كافة الأفكار بحريةٍ داخل المجتمع؛ ليتسنَّى للحقائق الجزئية أن تترسخ بمزيدٍ من اليقين عبر آليات المشاركة والنقاش المدنيَين.
الديمقراطية نظامٌ يمنح كل مَن يدخل تحت مظلته فرصةَ أن يعيش ويُعبِّر عن مشاعره وأفكاره الخاصة؛ وكذلك التسامح يتضمن في ثناياه شيئًا من ذلك؛ ويُمكننا أن نزعم أن الديمقراطية لا توجد حيثما لا يوجد التسامح.
إن الفوائد التي تعود على المجتمع جرَّاء حرية الفكر والنقاش واضحةٌ بما فيه الكفاية، غير أن ميل يزيد من تعمقه في دراسة تأثيراتها الفعلية على الأفراد المُكوِّنين للمجتمع؛ إذ تلجأ المجتمعات في الأغلب إلى حظر حرية الفكر والنقاش في سعيٍ منها إلى محاربة البِدَع، إلا أن مثل هذا الحظر لا يُصيب المُبتدع بقدر ما يُصيب كل مَن عداه. يقول ميل:
“لعل أفدح الأضرار هي تلك التي تلم بمَن ليسوا من المبتدعة، ومَن أعاق خوفُ التورط في البِدَع نضوجَهم العقلي بأكمله وشلَّ تفكيرَهم. فمن ذا الذي بوسعه حصر مقدار ما يخسره العالم من نتاجات قرائح المثقفين الواعدين ذوي الشخصيات الخائرة الذين يجبُنون عن تبنِّي كل فكرٍ جسورٍ حيويٍّ مستقلٍّ؛ مخافةَ التورط فيما قد يُعتَبر تجديفًا أو زندقة؟”(17).
وبيتُ القصيد في كلام ميل السابق هو أن الخوف المفرط من البِدَع لا يكبح المبتدعين وحدهم، بل وكذلك مَن بوسعهم طرح أفكارٍ جسورةٍ وجديدةٍ ومبتكَرةٍ حول أي شيء، بما في ذلك التقاليد الموروثة التي تنضوي هي الأخرى تحت لواء القداسة فلا يُسمح بالمساس بها.
وحين يكون التهديدُ بالعقوبة على الابتداع بالغَ الصرامة داخل أحد المجتمعات، أو حين يُهدد أحدُها بإنزال عقوباتٍ مدنيةٍ بأولئك الذين يُعبِّرون عن تصوراتٍ مُغايرةٍ لما تسمح به “السلطات” المدنية صراحةً، فإن هذا المجتمع يعاني برمته؛ إذ من شأن الحدة الذهنية ألا تتأتَّى إلا بالمِراس والمجابهة، ولذا يتحول المجتمع الذي يُضيِّق على الفكر والنقاش إلى مجتمعٍ ضعيفٍ وهزيل. ويُضيف ميل:
“ليس بوسع مَن لا يدرك أن أول واجباته كمُفكِّرٍ أن ينقاد وراء عقله وصولًا إلى ما قد يستشف من نتائج، أيًّا كانت طبيعتها، لكي يكون مُفكِّرًا عظيمًا؛ إذ من شأن الحقيقة أن تفيد حتى من أخطاء أولئك الذين يُفكرون لأنفسهم، شريطة الدراسة والإعداد الوافيين، أكثر مما تفيد من الآراء الصحيحة لأولئك الذين يكتفون بتبنِّي هذه الآراء دون تكبدهم مشقة التفكير”.(18)
وهكذا يُشير مرةً أخرى إلى أن الأفكار الصائبة تتحول إلى أفكارٍ جامدةٍ هزيلةٍ حين لا يُدفع بها على نحوٍ منتظمٍ إلى ساحة النقاش والجدل. كما أن التزام مُعتنقيها بها لن يصبح التزامًا حقيقيًّا حتى يسمحوا لأنفسهم بحرية التفكير، وهو ما قد يعني وضعَ الحقائق التي طالما اعتُقد صحتُها موضعَ المساءلة. إلا أنه يعود فيؤكد أن الغاية ليست مجرد إيجاد مفكرين آحاد، فيقول:
“على أني لا أقصد أن يكون الغرض الوحيد أو الأساسي من حرية الفكر هو إيجاد مفكرين عظماء؛ بل على النقيض من ذلك، فإن حرية الفكر ضروريةٌ بالمثل، أو حتى أكثر ضروريةً لتمكين الأفراد العاديين من بلوغ المستوى العقلي الذي يُمكنهم بلوغه. وقد ظهر فيما مضى، وربما سيظهر ثانيةً فيما بعد، مفكرون آحاد بارزون في جوٍّ عامٍّ من الاستعباد العقلي، بيد أنه لم يظهر قط، ولن يظهر أبدًا، في تلك الأجواء شعبٌ حيُّ التفكير”.(19)
وهنا نرى ميل يُوضِّح قيمة الحرية تأسيسًا على دوافع بالغة الإنسانية جنبًا إلى جنب دوافع منفعية. وهنا أيضًا يُمكننا استحضار الأستاذ كولن إلى ساحة النقاش؛ كَوْنه غالبًا ما يتحدث عن مفهوم الحرية من كلتا الوجهتين الإنسانية والمنفعية؛ إذ طالما تناول في كتاباته مسألة التحرر من الاستبداد، وفي غير ما سياقٍ يُشير إلى الطغاة الذين رزحت مجموعاتٌ مختلفةٌ من المسلمين تحت أنيارهم خلال السنوات الأخيرة في إطار قوى العلمانية والاستعمار. بيد أنه يتحدث بشكلٍ أكثر عمومية –في سياقاتٍ أخرى– عن الحرية التي يتمتع بها كل فردٍ بحكم كونه إنسانًا، لدرجة انعكاس مبدأ ميل عن الحرية “المذكور آنفًا” في تأكيده أن “الحرية تُتيح للأشخاص فعلَ ما يحلو لهم، شريطة ألا يؤذوا الآخرين، وأن يظلوا مخلصين للحقيقة بكُلِّيَّتهم”.(20)
وربما كانت هذه العبارة الأخيرة –”وأن يظلوا مخلصين للحقيقة بكُلِّيَّتهم”– ستستوقف ميل باديء الأمر، غير أنه قد يرد قائلًا إن مَن ضلُّوا طريقهم فوقعوا في الأباطيل أو آمنوا بها مخلصون بكُلِّيَّتهم للحقيقة كذلك، وإن أخطأوا فهمها فحسب؛ فأن تتحدث أو تتصرف بطريقةٍ لا تكون معها “مخلصًا للحقيقة بكُلِّيَّتك” يُمكن أن يعني –بالنسبة إلى ميل وكولن على حدٍّ سواء– أشياء من قبيل القذف والتشهير والصراخ داخل قاعةٍ مزدحمةٍ قائلاً: “حريق!” حين لا يكون ثمة حريقٌ بالفعل.
إن انتصار الأستاذ كولن للتسامح لا يُمكن تصوره دون الالتزام بحرية الفكر والنقاش؛ وذلك –في المقام الأول– لأنه يصبح غير ذي ضرورةٍ إذا لم يُفسَح المجال لحرية الفكر والنقاش والاختيار الشخصي وما أشبه، كما أنه لا يُعدُّ من الفضائل إلا لأن البشر أحرارٌ وبمقدورهم اختيارُ معتقداتٍ وأديانٍ ونشاطاتٍ شتى، وهو ما يعاود الأستاذ كولن تأكيده غير مرة، غالبًا خلال مناقشته للديمقراطية وحدها، أو خلال مناقشته للديمقراطية والإسلام الذين لا يرى بينهما أي تعارضٍ على الإطلاق.
وفي إحدى كتاباته عن فضيلة العفو، يربط الأستاذ كولن بين التسامح والديمقراطية من خلال مفهوم الحرية، فيقول: “الديمقراطية نظامٌ يمنح كل مَن يدخل تحت مظلته فرصةَ أن يعيش ويُعبِّر عن مشاعره وأفكاره الخاصة؛ وكذلك التسامح، فإنه يتضمن في ثناياه شيئًا من ذلك؛ ففي الحقيقة، يُمكننا أن نزعم أن الديمقراطية لا توجد حيثما لا يوجد التسامح”(21).
إلا أن هذه العبارات لا تحمل الصرامة الراديكالية التي تحملها مقولات ميل عن ضرورة الحرية وعن الحماية التي يحتاجها المواطنون ضد استبدادية المجتمع. وفقط حين يستعرض الأستاذ كولن مفهومه عن البشر المثاليين، أو “ورثة الأرض” كما يُسميهم في أحد أعماله، يُمكننا أن نرى ليس فقط التزامَه العميق بالحرية، بل وكذلك الأساسَ المنطقيَّ الذي يقوم عليه مثلُ هذا الالتزام، وهو أساسٌ منطقيٌّ إنسانيٌّ بحق؛ ففي كتابه “ونحن نُقِيم صرح الروح”، يطرح الأستاذ كولن رؤيةً شاملةً لمجتمعٍ –بل عالمٍ– يقوده أشخاصٌ متفوقون روحيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا، ويُسميهم “ورثة الأرض”، ثم يستطرد بعض الشيء في وصف شخصياتهم وصفاتهم(22). وأثناء تعداده لسماتهم الأساسية، يُحدِّد الخامسة منها على أنها “القدرة على التفكير بحريةٍ واحترام حرية الفكر”(23)، ثم يُتابع قائلًا:
“يُعدُّ تمتع الإنسان بالحرية غورًا مهمًّا من أغوار قوة إرادته، وبابًا خفيًّا قد يدلف منه كثيرون إلى أسرار الذات. ومَن لا يستطع بلوغَ هذا الغور والمرورَ من خلال هذا الباب لا يُمكن تسميته إنسانًا”(24).
وبذا تكون حرية الفكر أمرًا جوهريًّا لاكتساب الصفة الإنسانية كما للبشرية ذاتها؛ فبدون حرية الفكر، ليس فقط بوصفها مبدأً اجتماعيًّا أو سياسيًّا، بل أيضًا باعتبارها قدرةً داخل الفرد، لا يُمكن للمرء أن يُسمَّى إنسانًا بحق. أي أن إنسانيته لا تتحقق دون حرية الفكر. يقول الأستاذ كولن مُفصِّلًا:
“في بيئةٍ تُفرَض فيها القيودُ على القراءة والتفكير والشعور والحياة، يصبح من المستحيل على المرء أن يحتفظ بملكاته البشرية، ناهيك عن تحقيقه النهضةَ والتقدم. وفي مثل هذه الحالة، يكون من الصعب جدًّا الإبقاء ولو على مستوى الرجل العامي العادي، ناهيك عن تنشئة شخصياتٍ عظيمةٍ تتوثب بروح التجديد والإصلاح فيما تتطلَّع عيونهم صوب اللانهاية. وفي مثل هذه الظروف، لا يكون ثمة وجودٌ لغير النفوس الضعيفة التي تعاني انحرافًا في هويتها، ولغير الرجال ذوي الأرواح الخاملة والحواس المُعطَّلة”(25).
إن تحقيق النهضة البشرية ومن ثَمَّ النهضة المجتمعية والنمو، بل كافة أشكال الإصلاح والتقدم، رهينٌ بحرية الفكر والمعيشة؛ فالمجتمع الذي لا يتمتع بمثل هذه الحريات لا قِبَل له باحتضان الأفراد ذوي الهِمم والرؤى القادرة على دفعه قُدُمًا صوب آفاق جديدة؛ وربما كان الأسوأ من ذلك عدمَ تعهده للعامة حتى يبلغوا أقصى ما لديهم من طاقاتٍ إنسانية. وفي ذلك يتجاوب الأستاذ كولن مع ميل في دفاعه عن الحرية لما لها من منفعةٍ مجتمعيةٍ ولما لها من قيمةٍ إنسانية. وفي الواقع، فإن جذور المنفعة المجتمعية منغرسةٌ في القيمة الإنسانية للحرية؛ أي أن الحرية تفيد المجتمع بفضل ما تمارسه من “دورٍ” في تكوين البشر وتنميتهم كأفراد. وكما سبق أن رأينا في المبحث الأول، فإن البشر هم الأعلى قيمة. وهو ما يعني –إذن– أن تطوير القدرات الإنسانية أو “الكينونة” البشرية له نفس هذه القيمة الرفيعة.
علينا أن نجد طريقةً يُمكن من خلالها لذوي الآراء والديانات والمعتقدات ووجهات النظر المتباينة أن يعيشوا في سلام؛ فلن يحدث أبدًا أن تتفق الآراء على رؤية واحدة أو معتقد واحد أو أن يفكروا جميعًا بالطريقة نفسها.
لقد رثى الأستاذ كولن حال التاريخ الحديث لتركيا وغيرها من المناطق الإسلامية، حيث خضع السكان –وما زالوا في بعض الحالات– لتركيباتٍ مجتمعيةٍ تحظر حرية الفكر والمعرفة، سواءٌ من خلال التجريم المباشر أو من خلال الأيديولوجيات السائدة التي تتبناها الدولة. وفيما يتعلق بمجال التعليم الإسلامي على وجه الخصوص، يُشير الأستاذ كولن إلى ماضٍ نابضٍ بالحياة من الدرس والاطلاع، منفتحٍ على شتى فروع المعرفة والبحث العلمي. بيد أن روح الدرس هذه ما لبثت أن أفسحت المجال لضيق الأفق والاستظهار الأعمى للأعمال المـُعتمَدة. وفي هذه المرحلة، بدأت كافة الإمكانات البشرية في الاضمحلال البطيء؛ لتتحول الأمة من ثَمَّ إلى لقمةٍ سائغةٍ في أفواه الطغاة الانتهازيين والمؤدلجين والمستعمرين.
إنه يتوق إلى حركة تجديدٍ داخل صفوف المسلمين؛ ليتسنَّى للحضارة الإسلامية احتلال مكانةٍٍ بارزةٍ على صعيد القيادة العالمية من جديد، مثلما كانت الحال خلال القرون الماضية حين انحدرت عناصر كثيرةٌ من تلك التي أسهمت في تشكيل “الحضارة” من أصول إسلامية. ولِيحدثَ ذلك، يقول:
“علينا أن نتمتع بحريةٍ أكبر في الفكر والإرادة. وما أحوجنا إلى تلك القلوبِ الكبيرة التي يُمكنها أن تتسع للتفكير الحر النزيه، القلوبِ المنفتحة على العلوم والمعارف والبحث العلمي، القلوبِ التي بوسعها استيعاب التوافق بين القرآن وسنة الله في ذلك المدى الفسيح الممتد من الكون إلى الحياة”(26).
فبدون تجديد قدرتنا على حرية الفكر، فُرادى وجماعات، ستتبدد الحضارة الإسلامية، بل الحضارة بمجملها في واقع الأمر؛ إذ دون حرية الفكر، لا إمكانية لقيام إنسانيةٍ تتسم بالأصالة والقوة؛ وبدون إنسانيةٍ تتسم بالأصالة، لا إمكانية لقيام حضارةٍ عظيمة.
وكما ذكرت من قبل، فإن كلًّا من كولن وميل ينحدران من سياقَين اجتماعيين وسياسيين ودينيين شديدَي التباين، ومن ثَمَّ يتصوران مجتمَعَين يختلف أحدهما عن الآخر اختلافًا كبيرًا. فميل يقول بنوعٍ من الحرية في طريقة الحياة والسلوك يعتبره الأستاذ كولن ذا خطورةٍ وأثرٍ مدمرٍ على المجتمع ككل. كما أن ميل سيرى في مجتمع كولن المثالي مجتمعًا أساسه دينيٌّ أكثر من اللازم، وبالتالي سيراه عُرضةً لخطر “استبدادية الأغلبية” إلى حدٍّ كبير، وهو الخطر الذي يُصر ميل على أن يبقى المجتمع بمنأىً عنه. غير أنهما يتفقان على إحدى النقاط التي أعتبرها فائقة الأهمية لحياة البشرية وازدهارها، وهي حرية الفكر والتعبير؛ إذ يجب أن يكون بمقدور الأفراد أن يُفكروا بحريةٍ وأن يُعبِّروا عن أفكارهم علانيةً دون خوف العقاب؛ فمجرد الإفصاح عن الأفكار –شفاهةً أو كتابةً– لا يُلحق الضرر بالآخرين، بل على النقيض من ذلك، يتمتع الأفراد والمجتمع ككل بموفور الصحة والمنفعة حين تتم هيكلة المجتمع ذاته بطريقةٍ تُقر حرية الفكر والتساؤل والتعبير.
إن ميل وكولن يستشعران التزامًا متساويًا تجاه قيمة الحرية كلًّا في نطاق مجتمعه؛ كونهما –في المقام الأول– مفكرَين إنسانيَّين، بأوسع معاني الكلمة؛ وكما نعلم فإن مفهومَ الحرية مفهومٌ محوريٌّ في الفكر الإنساني. ولا مفر لأي شخصٍ يجد داخل نفسه حبًّا للبشرية وإيمانًا بعظمتها من مناصرة حرية الإنسان مثلهما، خصوصًا في مجال الفكر والتساؤل والتعبير.
ما أحوجنا إلى تلك القلوبِ الكبيرة التي تتسع للتفكير الحر النزيه، المنفتحة على العلوم والمعارف والبحث العلمي، والتي تستوعب التوافق بين القرآن وسنة الله في ذلك المدى الفسيح الممتد من الكون إلى الحياة.
خاتمة
ليس النقاش الوارد أعلاه لأفكار الأستاذ كولن وهي “في حوارٍ” مع أفكار كانط وميل سوى نموذجٍ لنوع التحليل الذي أقدمه في كامل الكتاب الذي يعرض بالنقاش للمباحث الإنسانية الخمس الرئيسية جميعِها ويعقد حوارًا بين الأستاذ كولن من جهةٍ وبين كانط وميل وكونفوشيوس وأفلاطون وسارتر من جهةٍ مقابلة. وأنا أعتقد بأهمية هذه المحاورات للباحثين في الحركة الإنسانية وكذلك للمهتمين من مواطني عالم اليوم ذي الطبيعة العولمية.
إن من الواجب علينا أن نعثر على طريقةٍ يُمكن من خلالها للأشخاص ذوي الآراء والديانات والمعتقدات ووجهات النظر المتباينة أن يعيشوا سويًّا في سلام؛ فلن يحدث أبدًا أن يصبح كل سكان العالم من المسلمين أو المسيحيين، أو أن يمارسوا جميعُهم الديمقراطيةَ بالطريقة نفسِها، بافتراض ممارسة الجميع لها أصلًا، أو أن يؤمنوا بذات الرب، بافتراض إيمان الجميع بربٍّ أصلًا؛ ففي كل وقتٍ وكل بقعةٍ من بقاع الأرض سيختلف البشر في رؤاهم حول أشياء تفوق الحصر. بيد أن بوسعنا العثورَ على نقاط اتصالٍ وتلاقٍ وسط خلافاتنا يُمكنها أن تقوم مقام أرضية مشتركة تَضُمُّنَا معًا كأسرةٍ إنسانيةٍ واحدةٍ من خلال وضع القيم الأساسية الضرورية لحياة البشرية وازدهارها في بؤرة اهتمامنا. كما أن من الواجب علينا إيضاحَ نطاقِ هذه القيم الأساسية التي أشرت إليها هاهنا باعتبارها قيمًا إنسانيةً عامةً والعيشَ داخل هذا النطاق؛ فقد أصبحت حياةُ كلٍّ منا على المحك، والحياةُ ذاتُها –كما نعرفها– على المحك.
________________________________
الهوامش
(1) أُصنِّف الأستاذ كولن كأحد المفكرين الإنسانيين رغم حقيقة أنه قد يرفض إطلاق هذا المصطلح على نفسه؛ فهو يُميِّز بين الإنسانية الغربية والرؤية الإسلامية في قدرٍ كبيرٍ من أعماله، قائلًا إن الأولى مجرد أيديولوجية أو فلسفة بينما الأخيرة وحيٌ إلهي. وأنا أعتبره مفكرًا إنسانيًّا إسلاميًّا؛ لأن الإسلام –وفقًا لرؤيته– هو رؤيةٌ شاملةٌ للحياة والوجود الإنسانيين بأكملهما. هذا التركيز على الإنسان هو ما يَسِمُ كلًّا من الدين الإسلامي والأستاذ كولن نفسه بـ”الإنسانية”، وذلك بأوسع معنىً ممكنٍ للكلمة.
(2) إيمانويل كانط، أُسس ميتافيزيقا الأخلاق، الطبعة الثالثة. ترجمة جيمس دبليو إلينجتون (إنديانابوليس، إنديانا: شركة هاكيت للنشر، 1993).
(3) 5 المصدر السابق.
(4) 14 المصدر السابق.
(5) 41 المصدر السابق.
(6) 42 المصدر السابق.
(7) 43 فتح الله كولن، “البشر وطبيعتهم الخاصة”، نحو حضارةٍ عالميةٍ من المحبة والتسامح، تحرير إم إنِس إيرجين (نيو جيرسي: ذا لايت للنشر، 2004)،
(8) 112. المصدر السابق
(9) 112. المصدر السابق
(10) 113 فتح الله كولن، “العمق الداخلي للنوع البشري”، نحو حضارةٍ عالميةٍ من المحبة والتسامح، تحرير إم إنِس إيرجين (نيو جيرسي: ذا لايت للنشر، 2004).
(11) 117. فتح الله كولن، “حقوق الإنسان في الإسلام”، نحو حضارةٍ عالميةٍ من المحبة والتسامح، تحرير إم إنِس إيرجين (نيو جيرسي: ذا لايت للنشر، 2004)، 169. يُقيِّد الأستاذ كولن هذه العبارة بطريقةٍ شائعةٍ لدى أغلب المفكرين الدينيين والفلسفيين؛ أي أنه ربما يكون من السائغ قتل أولئك الذين يقتلون غيرهم، والساعين في خراب المجتمع. إلخ. ففي هذه الحالات، لا يُعدُّ القتل شكلًا من أشكال الفتك، بل عقوبة أو دفاعًا عن النفس.
(12) “البشر وطبيعتهم الخاصة”.
(13) 114.جون ستيوارت ميل، عن الحرية، طبعة نقدية من شركة نورتون للنشر. تحرير ألان ريان (نيويورك؛ دبليو دبليو نورتون، 1997).
(14) 41. المصدر السابق.
(15) 44 المصدر السابق.
(16) 48. يُحرِّم الإسلامُ –شأنه في ذلك شأن فلسفاتٍ دينيةٍ عدةٍ– الانتحارَ وغيرَه من الأفعال المماثلة في إيذائها للنفس، على أساس أن جسمَ الإنسان أو نفسَه هبةٌ من الله، أو أنها ليست ملكه ليعود عليها بالضرر.
(17) المصدر السابق.
(18) 67. المصدر السابق.
(19) 67. المصدر السابق.
(20) 67. محمد فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، المجلد 1. ترجمة على أونال (نيو جيرسي؛ ذا لايت للنشر).
(21) 55 محمد فتح الله كولن، “العفو والتسامح والحوار”، نحو حضارةٍ عالميةٍ من المحبة والتسامح، تحرير إم إنِس إيرجين (نيو جيرسي: ذا لايت للنشر، 2004).
(22) 44 محمد فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح. ترجمة محمد جيتين “نيو جيرسي؛ ذا لايت للنشر، 2005″، 5-10، 31-42. يُناقَش مفهوم “ورثة الأرض” وكذا رؤية الأستاذ كولن الاجتماعية بتعمقٍ أكبر خلال جزءٍ لاحقٍ من أجزاء الكتاب الذي يُعد هذا البحث ملخصًا لفصليه الأولين فحسب.
(23) 38 المصدر السابق.
(24) 38 المصدر السابق.
(25) 39 المصدر السابق.
(26) 39 المصدر السابق، 400. تُشير “سنة الله” إلى الأنماط الثابتة لفعل الله في الكون.
Leave a Reply