لا شك أنه لا يمكن التهوين من الخسائر التي تعرضت لها تركيا في الآونة الأخيرة بسبب أخطائها الجسيمة في سياستها الخارجية بتبريرات من قبيل “إننا في حرب مع القوى العالمية من أجل استقلال الوطن” أو “إننا لن نخضع لمطالب القوى العالمية وسياستنا الخارجية مبنية على هذا الأساس”، بل إن هناك مغالين في حزب العدالة والتنمية يقولون: لقد انتهج “أربكان” كذلك سياسة خارجية اعتمدت على فكرة الاستقلالية، هل أخطأ هو الآخر؟ ويريدون بمثل هذه الأقوال تضييق الخناق على منتقديهم في سياستهم الخارجية، ولكن في حقيقة الأمر إن مثل هذه الأقوال لا تنفع صاحبها إلا في الميادين من أجل تهييج الجماهير وكسب مؤيدين للسياسة المحلية.
الحزب الحاكم لا يملك كفاءة انتهاج “سياسة خارجية مستقلة”، كما لا يملك تصورًا معرفيَّا أو رؤية سياسية أو أفقًا اجتماعيَّا من أجل ذلك.
وهنا أود أن أصحح بعض الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء بشكل موجز:
أولًا: حكومة حزب العدالة والتنمية لم تجرؤ منذ أن وصلت إلى سدة الحكم على إخبار المنظومة التي تحالفت معها أقصد بذلك حلف “الناتو”، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، أنها سوف تتبع “سياسة مستقلة” في المنطقة بمفردها، بل انطلقت منذ البداية بوعود مثل “تأمين أرضية أكثر استقرارًا للغرب في الشرق الأوسط، ونقل الاتحاد الأوروبي إلى العالم الإسلامي والجمهوريات التركية من خلال الانضمام إلى الاتحاد، وإقرار نظام جديد في الشرق الأوسط بناء على الرؤية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أراد أن يوثّق لما نقوله يمكنه أن يرجع إلى الأرشيفات، فسيجد العديد من الوثائق والمعطيات التي تؤكد ما نقوله.
ثانيًا: إن المشروع الذي حلم به الراحل “أربكان” هو الاتحاد الإسلامي الذي يتمثل في “مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية”، لكنه لم يتورط في أي وعود أو تعهدات مع الغرب، ولم ينطلق في مساره معتمدًا على أموال الدول الغربية ودعمهم الدبلوماسي والسياسي، ولأنه لم يكن يملك القوة الكافية والدعم لتحقيق أحلامه، فقد أقصوه عن كرسي الحكم، ويجدر التنبيه إلى أنه لا يوجد أدنى تشابه في السياسة الخارجية التي اتبعها “أربكان” وتلك التي يتبعها حزب العدالة والتنمية.
ثالثًا: توهَّم حزبُ العدالة والتنمية أنه يستطيع أن يبسط سيادته في المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا بمفرده، متجاهلًا حلفاءه الإستراتيجيين والقوى العالمية الكبرى التي أعلنت دعمه ووقوفها معه منذ وصوله إلى سدة الحكم، ولكن هذه الخطوة التي لم تستند في الأساس إلى استراتيجية متينة سرعان ما فشلت فشلًا ذريعًا، وفي هذه الحالة كان أمام هذا الحزب خياران لا ثالث لهما؛ إما أن يعلن رفض دعم القوى العالمية منذ البداية كما فعل الزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” وهذا ما لم يفعله وإما أن يتحمل بنفسه عاقبة نقضه من جانب واحد الاتفاق الذي أبرمه مع القوى العالمية التي ناصرته سياسيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا ولوجستيًّا منذ لحظة وصوله إلى سدة الحكم، وليس من حقكم -وأنتم تواجهون تبعات أوزاركم- أن تزعزعوا استقرار البلد كله، وتغتالوا هدوءه وسكينته، وتُحمّلوا فاتورة آثامكم حركات بريئة وجماعات نقية.. وإن ذلك لعمري ظلم عظيم.
توهَّم أردوغان أنه يستطيع أن يبسط سيادته في المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا بمفرده، متجاهلًا حلفاءه الإستراتيجيين الذين دعموه منذ وصوله إلى الحكم.
رابعًا: إن حزب العدالة والتنمية لا يملك كفاءة انتهاج “سياسة خارجية مستقلة”، كما لا يملك تصورًا معرفيَّا أو رؤية سياسية أو أفقًا اجتماعيَّا من أجل ذلك، ويلخّص الكاتب الصحفي “جنكيز أكتار” هذه الحالة بعبارة وجيزة كتبها في إحدى مقالاته التي نشرت في صحيفة “طرف” التركية بتاريخ 17 يناير (2014م) حيث يقول:
“إن الحكومة لم تتبع سياسة مغايرة للغرب، بل رغبت في تأسيس إمارة إقليمية واستخدمت في هذا السبيل الأساليب الغربية المألوفة، أضف إلى ذلك أن كافة المقوّمات التي شكلت أساس قوتها مثل فلسفة الرأسمالية، والإنشاءات، والتنمية، والاستهلاك، والقومية.. نجد أن جذورها غربية سواء من الناحية المادية أو المعنوية، كما أن نموذج التنمية الذي سعت الحكومة إلى تحقيقه، ما هو إلا نسخة رديئة قد تخلى عنها الغرب منذ وقت طويل، فلو نجحت تركيا في تحقيق تميز بالفعل، لاستفادت هي أولًا، ولاستفاد منها الآخرون حتمًا، ولكن أنى لها ذلك؟!”
خامسًا: أليس من الجدير بكم -حين قلتم للعالم إننا نحن الدولة الوحيدة التي بإمكانها تأسيس وحماية النظام في منطقة الشرق الأوسط، وإعلانكم للعالم بأسره أننا سنستعيد جميع أراضي الدولة العثمانية التي تبلغ مساحتها حوالي 20 مليون كم مربع وذلك في عام (1911م)- أن تعدوا العدة لمواجهة ما يقرب من 50 دولة كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية المذكورة أعلاه بالإضافة إلى الدول العظمى ذات التأثير والكلمة النافذة في المنطقة كالولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ومن الجدير بالذكر هنا أيضًا أنه يوجد على الأراضي التركية -التي هي عضو في حلف “الناتو”- 28 قاعدة عسكرية تابعة لحلف “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يؤكد أن الدولة التركية خاضعة للرقابة العسكرية الدولية، إذن فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا والذي نريد أن نوجهه إلى هؤلاء: بأيّ قوة ستستعيدون الأراضي التي ضاعت منكم فتؤسسون دولة عثمانية جديدة ما دامت تركيا -لا نريد أن نصف هذه الحالة بالاحتلال العسكري- تحت رقابة مشددة من قبل الدول العظمى، كانت الحكمة تقتضي التحرك الأخوي المتدرج مع الدول الشقيقة في المنطقة لتقليص دور القوى الدولية في المنطقة مع الوقت، لكنكم تسرعتم فسعيتم إلى بسط هيمنة جديدة على دول المنطقة، مما أدى إلى ابتعاد تلك الدول عنا كليًّا.
وليس من حقكم -وأنتم تواجهون تبعات أوزاركم- أن تزعزعوا استقرار تركيا وتغتالوا هدوءها، وتُحمّلوا فاتورة آثامكم حركات مدنية بريئة.
وبينما كان الحزب الحاكم يعيش حالة من السكر بشعاراته مثل “الكل في انتظار زعامة تركيا” إذ عمت الفوضى والدمار منطقة الشرق الأوسط كما هي الحال في سورية التي سقطت في بحر من الدماء.
هذا وإننا سوف نتعرض للطمتين كبيرتين.. الأولى تلك التي ستنزل علينا من قبل القوى العالمية، والثانية لطمة إلهية تحيق بنا بسبب أنّات الأبرياء في سورية.. سورية التي أسهمنا في مأساتها الحالية بسبب سياستنا الخاطئة تجاه قضيتها.. وعلينا أن نخاف من اللطمة الثانية!
ملاحظة: نشر هذا المقال في 25 يناير 2014 بصحيفة زمان التي أغلقتها الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا. كما أن الكاتب علي بولاج تم اعتقاله ووضعه في السجن بعد الانقلاب بناء على حالة الطوارئ التي أعلنت.
Leave a Reply