أرسى داعية الإيمان فتح الله كولن أسس الخدمة الدعوية، وأعطاها الطابع النهضوي المناسب لروح العصر، باعتراف الخصوم الذين اضطرتهم جلائل الأعمال التي طفقت خدمته تدشنها على مستوى تركيا وأقطار أخرى تركمانية وإسلامية أولا، ثم بما أخذته من أبعاد توسعية عبَرَت إلى بقاع عدة في القارات، وهي لا تزال تتوسع بحركة دينامية ذاتية،  مستلهما همة الأسلاف الأفاضل من بني وطنه، متحسسًا الأماني التي تاقت إليها الأجيال وطمح إليها المصلحون، فتبنّاها، وأضاف إليها ما هدته إليه عبقريته التأطيرية من استشرافات وتفتيقات في مجال النهضة…

حملت الخدمة مشعل الخير، لا لتغزو وتحقّق السؤدد الشخصي الزائل، ولكن لتُرسي كلمة الله في العالم أجمع.

فتح الله كولن والفتح الدعوي الجديد

من طيّ الضلال الأيديولوجي الذي يكبّل القطاعات الواسعة، ويسدّ الطريق في وجوههم أن يسهموا في البناء، بدعوى أن الدين ينافي التقدم، ويوقع الجماهير في التخلف، بزغ كُولن فتحا دعَويا مبينا، يكفل للجماهير المهيّأة للعمل الخدمي والدعوة إلى الله، أن تشق الطريق، وتسدد نحو النهضة التي تولّد المرافق الروحية والمؤسسات الاجتماعية والمجاميع التكوينية والتنويرية التي ينهض صرح الإيمان على أرضيّتها من جديد، ويستأنف مساره نحو العالمية.

التأسيس للحراك النهضوي المعاصر

على نفس الأرض التي حرّرها الفاتح من ليل التخلّف، وعبر بحرها بجيش البناء إلى أعماق أُوربا، رابط كُولَن، وانتصب يحقّق فتوحا في مجال خدمة الإيمان ونشر رسالته إلى العالمين؛ بل هي مسيرة كمسيرة إسكندر أو مسيرة ذِي القَرنَين، تنطلق من ذات الصعيد البرزخي، لكنّها تحمل في هذه الجولة مشعل الخير، لا لتغزو وتحقّق السؤدد الشخصي الزائل، ولكن لتُرسي كلمة الله في العالم أجمع.

إستراتيجية اللاعنف

مما تميزت به رؤية كُولن الدعوية، تجنّبها للمواجهات العنيفة، ومجافاتها للغلظة الإجرائية في المنهج الدعوي وفي الحياة التي تربي عليها الأجيال.

مما تميزت به رؤية كُولن الدعوية، تجنّبها للمواجهات العنيفة، ومجافاتها للغلظة الإجرائية في المنهج الدعوي وفي الحياة التي تربي عليها الأجيال. فهي دعوة رزينة، متّزنة، بقدر ما حرصت على الدينامية والاستثمار الحاسم للوقت والفرص والإمكانات في بث الدعوة ونشر برامجها، بقدر ما هي حريصة على التوثق لخطاها والتثبّت لخططها، والتبصر لمشاريعها التبليغية والتكوينية. ذلك لأن كُولَن يرى أن الإسلام دين الله الذي لا تزحمه المواعيد ولا تربكه الرزنامات، فلا ميقات محددًا لانتشاره، ولا أجل مضبوطًا لاستتبابه على البسيطة، فهو دين ليس مرتبطا بجيل بعينه ملزم باستكمال نشره في الآفاق وبين العالمين، إنما الإسلام عقيدة هيّأتها المشيئة الإلهية لأن تكون دين الإنسانية. ولقد اقتضت السنن الإلهية أن الهداية الروحية تستقطب البشر كلما ازداد شعورهم بالحاجة والضياع واللاّأفق.

فبهذه القناعة يرجح كولن النشاط الدعوي الهادئ الدؤوب، على العمل المنفعل المعرض للتقطع والتعطل.. فلئن تستمر في التقدم بريث وثبات ومردودية، أفضل من أن تقفز بعجلة لكن بمجازفة ومن غير ما طائل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: من كتاب “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts