مؤلف الكتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي جعلته أول ما أقرأ من كتب في هذا الشهر الكريم، مفكر وفيلسوف من تركيا، هو الأستاذ محمد فتح الله كولن، وفّقه الله توفيقًا ملموسًا، في تطبيقه في الواقع المعيش، على نحوٍ بالغ الإبهار يستحق كل تقدير.
كان أول عهدي بالقراءة لكتابات الأستاذ محمد فتح الله كولن، قبل سنتين؛ حيث بدأتُ أقرأ مقالاته الافتتاحية التي ينشرها في مجلة “حراء” الراقية التي هي أول مجلة تصدر باللغة العربية في تركيا. ثم قادتني قراءتي لمقالات “حراء” إلى كتاب “النور الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية” الذي صدرت طبعته العربية في مجلد ضخم من 757 صفحة ترجمه من التركية إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي. قرأتُه بتأثّر شديد وانجذاب طاغ، فإذا بي أمام كتاب في السيرة النبوية ليس كالكتب التي قرأتُها في هذا الموضوع، سواء منها كتب التراث الإسلامي، أو الكتب التي أصدرها المؤلفون المحدثون من نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. وجدته نمطًا فريدًا في فهم السيرة النبوية، والتعمق في وقائعها وأحداثها، وفي تحليل موضوعاتها ودروسها، وتقديمها إلى القارئ في أسلوب مقنع مبهج ينفذ إلى القلب والعقل بتلقائية.
قرأتُ كتاب “النور الخالد” للأستاذ فتح الله كولن بتأثّر شديد وانجذاب طاغ، فإذا بي أمام كتاب في السيرة النبوية ليس كالكتب التي قرأتُها في هذا الموضوع.
ينهج الأستاذ محمد فتح الله كولن في كتابه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي ترجمه من التركية إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي، وقدم له الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ نهجًا جديدًا غير معهود في الكتابات الإسلامية. فهو كما قال الدكتور سعاد يلدرم في تقديمه له: “فهم خاص للقرآن الكريم”. فالكتاب حول تفسير القرآن، فهو يتناول بعض الآيات -حسب تسلسلها في المصحف- ويشير إلى الدقائق الموجودة فيها. ويتبين من النظرة الأولى أن المؤلف ملمّ إلمامًا جيّدًا بالتفاسير القديمة والتقليدية، ولكنه يفتح مجالات أخرى، و”يقدح شرارات ويومض ومضات تفسيرية دون المساس بأي مقياس من مقاييس علم التفسير أو الإخلال به”، حسب تعبير الدكتور سعاد يلدرم. وهذه الشرارات والومضات هي التي أسمّيها “فتوحات إلهية” حَبَا الله بها هذا المؤلف الذي أشهد صادقًا أنه طراز فريد ونسيج وحده بين جمهرة المؤلفين في مثل هذه الموضوعات الإسلامية، على كثرتهم وتعدّد مدارسهم وتنوّع مشاربهم.
يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن في المقدمة التي كتبها لكتابه هذا: “القرآن هو الضوء اللامع للكلمات والحروف في عالم الأزل والأبد. هو صوت الملكوت الذي يخاطب فكر الإنس والجن. وعندما يتحول إلى لؤلؤة خارقة الجمال داخل صدفة لامعة، يرى فيه أبطال البلاغة والأدب جمالاً لا يبهت وحسنًا لا يزول”. ويبدو لنا منهج المؤلف ونَفَسُه الإيمانيُّ المشرق، في تفسيره قوله تعالى: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ”(الشرح:7-8) على هذا النحو: “تقدم هذه الآية الكريمة للمسلم فلسفة حركية مهمة ودستورًا للحياة. أجل يجب أن يكون المؤمن في حركة دائبة في كل حين؛ في حركة عندما يعمل، وفي حركة عندما يرتاح. وبعبارة أخرى عليه أن ينظّم نفسه وفق خطة لا يوجد فيها أي فراغ في حياته. صحيح إنه كإنسان يحتاج إلى الراحة، لذا من الطبيعي أن يرتاح، ولكن يجب أن تكون هذه الراحة راحة نشيطة وإيجابية؛ فمثلاً من يتعب من القراءة والكتابة يستطيع أن يرتاح بالنوم أو بتغيير وتبديل الجو كأن يقرأ القرآن أو يصلي أو يلعب الرياضة أو يتسامر أو يمزح مع الآخرين المزاح المقبول شرعًا…إلخ. وعندما يتعب من هذا يرجع مرة أخرى إلى القراءة، أي يكون في حركة مستمرة ودائبة، يترك مشغلة من المشاغل لمشغلة أخرى. أي يستريح وهو يعمل، ويعمل وهو يستريح”.
“النور الخالد” نمط فريد في فهم السيرة النبوية، والتعمق في وقائعها وأحداثها، وفي تحليل موضوعاتها ودروسها، وتقديمها إلى القارئ في أسلوب مقنع مبهج ينفذ إلى القلب والعقل بتلقائية.
ويقول في تفسير مطلع سورة البقرة: “إن كلمة “هُدًى“ الواردة في الآية الكريمة “ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ“(البقرة:2) هي بصيغة المصدر، وتحمل معنى أن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى الهداية وإلى الهدف المنشود وراءها دون جهده الخاص. وبتعبير آخر فإننا إذا أخذنا التنوين أيضًا بنظر الاعتبار، نعلم بأن هذا الكتاب -الذي لا توجد فيه ذرة واحدة من الشكّ والريبة- هو مصدر الهداية للمتّقين.. لـ”المتّقين” فقط؛ لأن نفوسهم خلتْ من الشبه والريب، وتوجّهت قلوبهم وأرواحهم لتقبل الحق ورعاية سنن الفطرة الإلهية وشريعته الغراء، وصفتْ نفوسهم واستعدت لقبول الهداية والاستفادة منها دون أن يمنعهم عن ذلك فكر أو حكم مسبق”. ثم يضيف المؤلف فيقول: “ولكن كلمة “هُدًى“ الموجودة في آخر الآية “أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ“(البقرة:5) مذكورة بصيغة المصدر، أي أن الله تعالى قد يتكرم على عباده بالهداية دون وجود علاقة السبب والنتيجة التي خلقها الله وجعلها من أسباب الهداية. وباب التقوى هو الباب الذي يوصل وينفتح على هذا الكرم والعطاء. والمرتبة الأولى لمثل هذه التقوى هو الإيمان والمعرفة الحقة، والمرتبة الثانية هي الوصول إلى مرضاة الله تعالى”.
وعند تفسيره للآية الخامسة والثلاثين من سورة النور “اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ“(النور:35)، يفيض المؤلف في بيان أخّاذ، في شرح البعد الإيماني في هذه الآية الكريمة وتبيان المعاني الدقيقة التي تنطوي عليها، فيقول: “الله تعالى هو الذي أظهر الوجود للعيان، وأخرج الكون بوجهه الحالي إلى الوجود وجعله معرضًا أمام البصائر وكتابًا يقرأ، وهو الذي أعطى النور للأبصار والانشراح للقلوب. بدون نوره لا تبصر العيون، ولا تدرك البصائر، وتختلط الأوهام بالعلوم والفرضيات بالحقائق، وينقلب الوجود كله إلى فوضى لا معنى لها، فلا تحصل هناك فلسفة علوم في الأدمغة، ولا ضياء معرفة في الصدور، ولا يمكن التوصل من نقطة اللقاء بين الآفاق والأنفس من العلم إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الإحساس العميق بالعبودية، إلاَّ بالله تعالى نور السماوات والأرض، ونور مَن في السماء والأرض، منوّر الأنوار”.
ويواصل المؤلف شرح هذه الآية الكريمة واستخلاص قانون الحياة منها، فيقول: “بهذا النور يتحقق وجود الشمس أو الشموس في السماء، والألوان وصور الجمال على الأرض، وتنمو البصيرة والإدراك في القلوب، والمعرفة والمحبة والعشق والشوق، والتفكير والتحليل والمنطق في العقل وفي الدماغ. والذين يهتدون إلى الحقيقة عن طريق الاستدلال يهتدون بفضل هذا النور”.
عندما يتعامل فتح الله كولن مع النص القرآني يقدح شرارات ويومض ومضات تفسيرية دون المساس بأي مقياس من مقاييس علم التفسير أو الإخلال به. وهذه الشرارات والومضات “فتوحات إلهية” حَبَاه الله بها.
ويقف المؤلف عند الآية الثالثة والخمسين من سورة فصلت “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ“(فصلت:53)، فيشير إلى أن الآية تذكر أولاً بأن الآيات الدالة على صدق هذا القرآن وكونه حقًّا لا مراء فيه، ستظهر الواحدة بعد الأخرى في الآفاق وفي الأنفس، وأن التناغم الموجود بين الآفاق والأنفس يشير إلى الله تعالى ويعلن عنه، وتبشّر المؤمنين الذين كانوا آنذاك في ضيق شديد، بأن قلوب أهل مكة ومن في خارجها ستنفتح، وسينتشر نور الإسلام في الشرق وفي الغرب، وأن الروح المحمّدي سيفرش جناحه على العالم، وتومئ إلى أن الجو خارج مكة سيكون أفضل وأكثر ملاءمة لهم”.
ويضيف مستخلصًا الدرس والعبرة والمغزى من هذه الآية، فيقول: “إن أسلوب هذه الآية يفتح أمامنا أفق تفكير واسع جدًّا، ويهيّئ لنا إمكانية رصد الحقائق. وكما هو معلوم فإن الأدلة المقدمة لإثبات الحقيقة تنقسم إلى مجموعتين: الأدلة الآفاقية المستقاة من الكون وما يتعلق به من حوادث، أي الأدلة من خارج النفس؛ ثم الأدلة المتعلقة بالعالم الداخلي للإنسان من فكر وحس وحدس، والتقييم الشخصي لها”.
وينبغي أن نتذكر دائمًا أن المؤلف يكتب باللغة التركية، ولكنه يقرأ بالعربية ويتبحّر في التراث العربي الإسلامي. وهذا الفيض من إشراقاته وإشاراته وومضاته، هو من أثر الفهم المستنير المتعمق للقرآن الكريم والحياة الطويلة في ظلاله الوارفة. وقد صدرت للمؤلف خلال الفترة الأخيرة، مجموعة من المؤلفات في ترجمتها العربية عن دار النيل في القاهرة، تحت يدي منها الجزء الأول من كتاب “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح” بترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي الذي ترجم “كليات رسائل النور” لسعيد النورسي في عشرة مجلدات كبيرة، و”طرق الإرشاد في الفكر والحياة”، و”حقيقة الخلق ونظرية التطور”، و”ترانيم روح وأشجان قلب”.
حقًّا إنها نفحات قرآنية منعشة للروح من نسمات تركية مبهجة للوجدان مغذية للفكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: نور وفتح، عبد القادر الإدريسي، دار النيل للطباعة والنشر
Leave a Reply