استخلف الله عز وجل الإنسان على هذه الأرض لإعمارها، وزوَّده بمؤهلات لهذه المهمة، وأول ذلك العلم، وفي هذا دلالة على أولوية العلم في مهمة الإعمار. وأول ما نزل من الوحي على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم هو “اقرأ” لا “احكم”، وأول مؤسسة أقامها المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت مؤسسة تعليمية وليست اقتصادية أو عسكرية، إذ إن مهمة الإصلاح تتأسس على التعليم، وهي سنة متبعة قام بها الأنبياء من قبل، وسار على نهجها ورثة الأنبياء من العلماء من بعد. فقد كانت الدعوة للتعليم تتصدر اهتمامات جل المصلحين والمجددين والدعاة، ويبرز من هؤلاء -في واقعنا المعاصر- شخصيتان استطاعتا ترجمة أفكارهما في الإصلاح إلى واقع ملموس، وهما الطاهر بن عاشور في تونس وفتح الله كولن في تركيا، وسوف تُبرز هذه الدراسة أوجه التشابه بين هاتين الشخصيتين، وقدرة كل منهما على تحويل أفكارهم الإصلاحية إلى مشاريع مؤسسية وبرامج مجتمعية، كان لها صداها في بلدانها وسائر بلدان العالم الإسلامي.
مقدمة
هل يتم الإصلاح بقرار، أم يجب أن تسبق القرار عملية تهيئة للناس، من خلال إعادة بناء قناعاتهم، عبر عملية تثقيفية تعليمية تربوية تبني قيمًا ومفاهيمَ وتتجسد سلوكًا لدى أبناء المجتمع المستهدف بالإصلاح؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي منا مراجعة التجربة التاريخية لمسيرة الإصلاح على وجه الأرض، خاصة سير أنبياء الله ورسله، أئمة الهدى والإصلاح الذين بعثوا على فترات لتصحيح انحرافات البشرية على الأرض، وإصلاح مجتمعاتها كلما فسدت. وعلى وجه أخص سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بُعث للبشرية كلها، موضحًا لها طريق صلاحها، كما أراده لها خالقها، الذي استخلف بني آدم في الأرض وكلفهم بإعمارها.
فكم منا تأمل دلالات حكمة الله عز وجل عندما جعل أول الوحي على خاتم الأنبياء المبعوث للعالمين بآخر الرسالات التي فيها صلاح البشرية إلى يوم الدين حديثًا عن العلم بشقيه القراءة والكتابة بقوله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ “(العلق:1-5) ألا تقول لنا هذه البداية للوحي الإلهي الذي نزل بدستور لإصلاح واقع الدنيا إلى يوم الدين أن التعليم هو أول خطوات إصلاح واقع الناس ومجتمعاتهم، وأساس هذا الإصلاح؟
التعليم والفكر
إن التعليم -كما هو معلوم- هو أساس الثقافة والمكوّن الرئيس للفكر، وعلى ضوء نوع التعليم يتحدد نوع الثقافة والفكر، ومن ثم السلوك بل وهوية المجتمع. من هنا نفهم إصرار بعض الدوائر على إفساد مناهج التعليم في بلادنا. ذلك “أن الأمة تؤخذ من عقول أبنائها قبل أن تؤخذ بسيوف أعدائها”. فهناك نوعان من التعليم؛ أحدهما صالح يقود إلى سعادة الدنيا والآخرة، وآخر يقود إلى الفساد والدمار المادي والمعنوي، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:”وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ* فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً#فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ “(البقرة: 78-79). وقوله تعالى:”ومَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ “(الأنعام: 91).
التعليم هو أساس الإصلاح، فعندما تُربّي إنسانًا صالحًا، فإنك تُربّي سياسيًّا صالحًا واقتصاديًّا صالحًا ومثقفًا صالحًا ومن ثم مجتمعًا صالحًا.
مقومات الاستخلاف
إن بداية الوحي الرباني بالحديث عن التعليم قراءة وكتابة تضع أمامنا أهم أسس الإصلاح وقواعده وهو التعليم الذي يُعيد صياغة الإنسان، وبناءَ مفاهيمه، ويؤهله لخلافة الله على الأرض لإعمارها، وهو الإعمار الذي كان التعليم أولَ أدواته التي زوَّد الخالقُ بها خليفته على الأرض. ولأن الخليفة يجب أن يكون مؤهلًا للقيام بما استخلف فيه، فقد زوَّد الخالق خليفته على الأرض بما يعينه على أداء مهمته. وأول ما زُوّد به هو العلم الذي هو من صفات الله التي تدخل في الكثير من صفاته الأخرى .
ويكفي أن نتوقف عند آية الكرسي التي اعتبرها الكثيرون من المفسرين أعظم آيات القرآن الكريم، استنادًا إلى ما رواه أبو هريرة عندما قال: إن رسول الله قال: “لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن، آية الكرسي” (أخرجه الترمذي) لنجد أن أكثر ما تتحدث عنه آية الكرسي هو علم الله. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الكرسي المذكور في هذه الآية هو العلم؛ وهذا ما ذهب إليه ابن عباس كما روى الطبري في تفسيره.
الدولة العادلة صاحبة الرسالة
كثيرة هي الآيات القرآنية التي تتحدث عن علم الله وتفرده بعلم كل شيء، من هذا كله نفهم دلالة أن يكون أول ما أنزل على رسولنا حديث عن العلم، ونفهم أنْ لا تكون أول مؤسسة أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤسسة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية، بل مؤسسة تعليمية ممثلة بدار الأرقم بن أبي الأرقم. وهو توجيه منه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المصلحين وقدوتهم إلى أنَّ صلاح الناس وتغيير واقعهم نحو الإصلاح والأفضل، إنما يكون بتعليمهم.
وقد أكد عليه السلام هذا التوجيه عندما أرسل مصعب بن عُمير رضي الله عنه بعد بيعة العقبة إلى يثرب ليعلم الناس أي ليثقفهم ويعلمهم دينهم الجديد، ويعيد صياغة مفاهيمهم عبر إعادة بناء فكرهم، ومن خلال التعليم يتم تحضير البيئة التي ستشهد ولادة أول دولة للإسلام في إشارة تقول: إنه مثلما أنّ التعليم هو شرط إصلاح واقع الناس وتغييره إلى الأفضل، فكذلك لا تقوم الدولة العادلة صاحبة الرسالة إلا بالتعليم. وهذه حقيقة برهنت عليها كل تجارب التاريخ البشري؛ فقد طوى الزمن الساسة والعسكر، في حين خَلَّد العلماء، وظلت آثارهم المادية ملموسة في حياة الأمم فقهًا يرشد أو قوانين تحكم، أو كتبًا تقرأ أو مخترعاتٍ تستخدم، وقد ظل العلم على مدار التاريخ البشري مصدر قوة ورفعة ومنعة وتحضّر وصلاح للمجتمعات التي أخذت بأسبابه وعملت بنتائجه.
وكثيرة أيضا الإشارات النبوية الدالة على أن التعليم هو أساس الإصلاح ومدخل تغيير واقع الناس، وقاعدة بناء الدولة العادلة، ومن بين تلك الإشارات فداء أسرى بدر بتعليم المسلمين؛ بل إن القرآن الكريم أمر المسلمين بتعليم غيرهم حتى ولو كانوا مشركين، قال تعالى:”وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ “(التوبة:6)، وهذه الآية الكريمة تشير من بين ما تشير إليه إلى أنَّ التعليم هو وسيلة من وسائل إصلاح الإنسان عبر تبليغه دعوة الله.
مهمة الأنبياء الأولى
إن هذه الإشارات النبوية تقودنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة؛ أولها: كم منا تساءَل عن الحكمة بأن يكونَ أول الوحي على خاتم الأنبياء “اقرأ” لا “احكم”؟ ولماذا كانت أول مؤسسة أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤسسة تعليمية ولم تكن اقتصادية أو عسكرية؟ ولماذا لم يُرسل رسول الله إلى يثرب مدرِّبًا عسكريًّا بدلاً من أن يُرسل معلِّمًا؟
سعى الأستاذ كولن إلى بناء منظومة تعليمية تربوية متكاملة، من رياض الأطفال إلى الجامعة. وبفضل إصراره حققت حركة الخدمة نجاحات كبيرة في بناء هذه المنظومة.
إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة تكمن في فهمنا لأول مهمة للأنبياء والرسل، وهي تعليم الناس لقوله تعالى:”كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ “(البقرة: 151). ولأن الرسل بعثوا لتعليم الناس وإصلاح مجتمعاتهم، كان التعليم هو أول الإعداد الإلهي للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، الذين بعثوا على فترات لإصلاح واقع البشرية وإعادتها إلى نهج الإعمار المكلَّفة به.
فمن تأملنا لآيات الكتاب المبين نجد أن التعليم هو أول وأهم ما زوّد به الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعدوا به لمهمتهم في إصلاح البشرية، ابتداء من أول الأنبياء آدم عليه السلام الذي علمه ربه الأسماء كلها، مرورًا بأنبياء الله ورسله جميعًا.
إن هذا الإعداد الرباني للرسل عليهم صلوات الله وسلامه الذين أُنيطت بهم مهمة إصلاح البشرية كلما فسد أمرها بالتعليم، ليس بالمستغرب؛ ذلك أن تعليم بني البشر لإصلاح أمرهم هو المهمة الرئيسة للأنبياء والرسل، وهو ما أكدته الكثير من آيات القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى:”لقد مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ “(آل عمران: 164)، وكذلك قوله :”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ “(الجمعة: 2).
وهنا لا بد من أن نتأمل كثيرًا في تكرار تعليم الحكمة في الآيات التي تحدثت عن إعداد خاتم النبيين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم واقترانها بالتزكية وبتعلم ما لم يكن ولم نكن نعلم. ألا يدخل هذا في معنى الإعداد النفسي والفكري والثقافي وليس مجرد العلم للعلم، ودلالات ذلك كله على دور الفكر والثقافة في إصلاح واقع البشرية؟ لأنه بغير هذا الإعداد لا يمكن أن يتغير واقع الناس، وهو ما أشار إليه قول الله تعالى: “إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ “(الرعد:11).
لذلك جعل الله عز وجل العلم مقياسًا من مقاييس التفاضل بين الناس بقوله تعالى:”يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ “(المجادلة: 11). وقوله تعالى:”قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ “(الزمر: 9).
أولويات المصلحين في كل زمان
لما كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أصحاب الألباب، كان مما يتذكرونه على مدار التاريخ، دور التعليم في الإصلاح. لذلك كانت الدعوة للتعليم تتصدر اهتمام جلّ المصلحين من أبناء الأمة الإسلامية، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين وهذا القرن الذي نعيشه. دعا إلى ذلك الأفغاني، ومحمد عبده، والثعالبي ومحمد رشيد رضا، والطاهر بن عاشور وفتح الله كولن وغيرهم كثير. غير أَن قلة منهم استطاعت أَن تترجم أفكارها إلى واقع ملموس، يبرز منهم الطاهر بن عاشور، وفتح الله كولن.
بين الطاهر بن عاشور وفتح الله كولن
لعل نجاح الطاهر بن عاشور، وفتح الله كولن في تطبيق دعوتهما لإصلاح التعليم أساسًا لإصلاح المجتمع ناتج عن التشابه الكبير في الظروف التي عاشها كل منهما، وصاغت ثقافتهما وفكرهما ورتبت أولوياتهما.
فكلاهما تتشابه أصوله والرحلة التاريخية لهذه الأصول، حيث جاءت أسرة الطاهر من الأندلس إلى تونس، وتنقلت أسرة فتح الله في الأناضول حفاظًا على دينهما ووجودهما. وكلاهما وُلد وترعرع في بيئة علمية تحرص على تعليم أبنائها، خاصة علوم الشرع واللغة العربية، فكلاهما درس في طفولته القرآن وعلومه واللغة العربية وفنونها التي هي أساسُ وخزَّانُ الثقافة الإسلامية، وكلاهما درس الفقه وتفرعاته، وكلاهما اهتم بالأدب خاصة الشعر، فكلاهما امتلك ذائقة أدبيةً وحسًّا مُرهَفًا، وكلاهما عاشَ وترعرعَ في محاريب المساجد، وكلاهما عمل بالتعليم، وكلاهما درس السيرة النبوية واستوعبها وحاول إحياءَها في السلوك العملي بهدف إصلاح المجتمع، وكلاهما واجه الحكم العلماني الإلحادي المستبد، وكلاهما سُجن وشُرد وتعرض لحملات تلويث السمعة، وكلاهما آمن بالإعلام كوسيلة للوصول إلى الناس وتعلميهم وتثقيفهم، وكلاهما آمن بالتجديد المبني على الإسلام بعد أن عاش كلاهما واقع الناس وتعاملا مع علل هذا الواقع وسعيا إلى علاجها من خلال فهمهما لهذا الواقع وسُبل تخليصه من علله.
كما عمل كلاهما: الطاهر، وفتح الله، على ردم الهوة بين تيار الأصالة وتيار المعاصرة؛ وامتلك كلاهما نظرة عالمية منفتحة على الثقافات الأخرى ومجتمعاتها في علاقة تبادلية من الأخذ والعطاء والإفادة والاستفادة العلمية والثقافية. لذلك كان لكل منهما شخصية ثرية متعددة الجوانب بسبب هذا الانفتاح على ثقافات الآخرين ورفضهما للتقليد والجمود، وسعى كل منهما إلى بناء نموذج معرفي غير تقليدي، خاصة في مجال التعليم. وآمن كلاهما بالمدخل القيمي لإحداث الإصلاح في المجتمع، خاصة من خلال التعليم وفي إطار المدخل القيمي للإصلاح جاء اهتمامهما بتعليم المرأة، فكان الطاهر أول من فتح فرعًا لتعليم المرأة في جامع الزيتونة. كما يعكس كتابه “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” إيمانه بالإصلاح الاجتماعي كأساس للإصلاح الشامل للمجتمع، وهو ما يلتقي به مع فتح الله كولن وحركة الخدمة.
وهذا التشابه الكبير في النشأة وظروفها لا بد من أن يقود إلى نوع مشترك في المفاهيم وترتيب الأولويات، ومن ذلك جَعْلُهُما التعليمَ أولويةً في اهتمامات كل منهما ومدخلاً لإصلاح واقع الناس وتغييره من خلال السعي لبناء جيل جديد، وكلاهما لم يتوقف عند حدود الدعوة النظرية لإصلاح التعليم، بل ذهب إلى التطبيق العملي.
استلهم الأستاذ كولن فكرة عبقرية من تجربة دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث أسس بيوتا للطلاب ذات برامج محددة في التعلّم والتربية والسلوك. وقد أعادت هذه البرامج صياغة شخصية الطلاب الذين التحقوا بها.
فتح الله كولن في ميدان التطبيق
يبرز الأستاذ فتح الله كولن كواحد من أبرز الداعين إلى إصلاح المجتمع من خلال التعليم. ولكنه يتميز بصدارة التطبيق العملي لهذه الدعوة والنجاح الباهر في نتاجها. فقد آمن الأستاذ فتح الله كولن مبكرًا بأن أعداء الأمة الحقيقيين ثلاث آفات، هي: الجهل والفقر والفرقة. فنذر حياته لمحاربة هذا التلوث الذي يفتك بالأمة جاعلاً من محاربة الجهل أولويته الأولى باعتباره من أهم العقبات أمام بناء الإنسان الصالح، ومن ثم المجتمع الصالح النظيف المنتج، فوضع نصب عينيه هدفًا لا يحيد عنه هو بناء جيل جديد، مستلهمًا بذلك السيرة النبوية، ودور دار الأرقم بن أبي الأرقم التي علَّمت ورتَّبت ذلك الجيل القرآني الفريد.
سعى الأستاذ فتح الله كولن إلى بناء منظومة تعليمية تربوية متكاملة، تبدأ من رياض الأطفال، وصولاً إلى الجامعة. وبفضل إصراره حققت حركة الخدمة نجاحات كبيرة في بناء هذه المنظومة. إذ صار الآن لدى الحركة شبكة من المدارس من مختلف المراحل منتشرة في تركيا(1)، وعلى امتداد جغرافيا العالم تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليم أبناء المجتمعات الموجودين فيها، ويقود هذه المنظومة كوكبة من الرجال والنساء، جلُّهم من خريجي مدارس حركة الخدمة. وهذا من فضل الله على الأستاذ فتح الله أن أراه نتائج جهوده لتطمئن نفسه.
فلسفة التعليم في حركة الخدمة
تُترجم المؤسسات التعليمية لحركة الخدمة فلسفة التعليم التي وضعها الأستاذ فتح الله كولن. فالمتمعن في هذه الفلسفة يلمس أنها تجسّد شخصية الأستاذ وروحه المستندة إلى فهمه للإسلام، وأولها الانفتاح على ثقافات العالم وعلومه وأجناسه وديانته. لذلك لا غرابة في أن تجد في مدارس الحركة وجامعاتها أبناء كل الثقافات والأجناس والأديان، وهذا تجسيد لمفهوم عالمية الإسلام، باعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث لكل الناس، مثلما أنه تطبيق عملي لقوله تعالى: “لتعارفوا”.
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، ولذلك فالإسلام دين جاء لخيري الدنيا والآخرة؛ من هنا تجمع فلسفة التعليم التي وضعها الأستاذ كولن لمؤسسات الحركة التعليمية بين علوم الدين وعلوم الدنيا، كما تمزج بين العلم والإيمان المبني على الأخلاق من خلال المعلم القدوة في السلوك والالتزام الذي يهدف إلى بناء الإنسان على قواعد السلوك الإنساني القويم، ويبني لديه منظومة قيمية متكاملة، من خلال الحنان والمتابعة والدقة والأناقة والنظافة، والتفاني والإخلاص التي هي عنوان المسلم بعيدًا عن مفهوم المعلم الموظف.
وهذه الفلسفة التعليمية التربوية مبنية على التعليم بالحب من خلال نيل حب وثقة الطالب وأهله لبناء عملية تربوية تعليمية متكاملة تشارك بها الأسرة والمدرسة، لإنقاذ الطالب من مخاطر الانفصام بين المدرسة والأسرة التي تعاني منها جلُّ المدارس في هذا العصر. وهذا النوع من التعليم يخرج إنسانًا محبًّا لعائلته ومدرسته ووطنه وأمته، يتمتع بحسّ وطني وتاريخي، ويعمل لخدمة مجتمعه. وتبرز أهمية ذلك أنه يتم في زمن مادي تُخرِّج فيه جلُّ المؤسسات التعليمية إنسانًا يتقن فَنَّ الأخذ، ولا علاقة له بروح البذل والعطاء.
كذلك فإن المتأمل في فلسفة التعليم كما تطبقها مدارس الخدمة يلمس بوضوح مفهوم التعليم المستمر؛ أولاً من خلال الكم الهائل من النشاطات –خارج إطار المنهج الدراسي- التي تطبقها هذه المدارس، بهدف بناء شخصية متكاملة متوازنة للطالب، بعيدًا عن التلقين والحشو، وأول هذه النشاطات أن طالب مدارس الحركة مُلزمٌ بقراءة أربعين ألف صفحة خلال فترة دراسته، بالإضافة إلى إتقانه ثلاث لغات، مما يعني بناءً ثقافيًا متينًا للطلاب، وحماية لهم من مفسدة الفراغ، وتساهم في هذا البناء وهذه الحماية نوادي الأنشطة التي تُقام للطلاب، وكذلك المعسكرات الصيفية، بالإضافة إلى مساهمتهم في أنشطة الدعوة. فالفلسفة التعليمية للخدمة كما وضعها الأستاذ تهدف من بين ما تهدف إليه تنمية الإبداع في مختلف المجالات، بهدف بناء شخصية متكاملة لدى طالبها.
ويبرز مفهوم التعليم المستمر في فلسفة التربية والتعليم التي وضعها الأستاذ لمؤسسات التعليم في الخدمة في أنَّ علاقة الطالب لا تنقطع مع مدرسته وجامعته مدى الحياة عبر العديد من القنوات؛ وهي فلسفة مستمدة من مفهوم دار الأرقم التي بنت الإنسان على المثال الذي يريده خالقه، وكما جاء بها الإسلام والتي تحييها الآن فلسفة التربية والتعليم التي وضعها الأستاذ فتح الله كولن، وآتت أكلها في إصلاح الكثير من المجتمعات، و قدمت برهانًا عمليًّا على أن التعليم هو أساس الإصلاح، فعندما تُربّي إنسانًا صالحًا، فإنك تُربّي سياسيًّا صالحًا واقتصاديًّا صالحًا ومثقفًا صالحًا ومن ثم مجتمعًا صالحًا.
محضن غير تقليدي
لم تقتصر جهود الأستاذ فتح الله كولن لإصلاح المجتمع من خلال التعليم عند حدود المؤسسات التقليدية للتعليم، فقد انطلقت مسيرته في مجتمع شديد المحافظة، حيث كانت الأسر التركية المحافظة تمتنع عن إرسال بناتها إلى المدارس، خوفًا عليهن من الانحلال والإلحاد. مثلما لم تكن ترسل أبناءها الذكور إلى الجامعات، لنفس السبب، مما يعني تفشي الجهل والتخلف وهما الأرضية الخصبة للفساد، الذي تصدى له الأستاذ فتح الله بإقامة المؤسسات التعليمية التي يطمئن إليها الناس فاستلهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرة عبقرية استلهمها من تجربة دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث بدأ تجربته بتأسيس بيت للطلبة، حيث كان الطالب فيه يخضع لبرنامج محدد في التعلّم والتربية والسلوك.
استوعب الأستاذ تجربة أغنياء الصحابة في تسخير أموالهم لخدمة الدعوة، فجعلهم نموذجًا يَقتدي به طلابه من رجال الأعمال الذين علّمهم كيف يسخّرون أموالهم ويطهرونها بالإنفاق في مناشط الخدمة.
وقد أعاد هذا البرنامج صياغة شخصية الطلاب الذين التحقوا به، مما يؤكد أن التعليم المشبع بالثقافة والفكر هو أساس إصلاح الإنسان ومن ثم مجتمعه، حيث لمست أسر هؤلاء الطلاب حجم التغيير في سلوك أبنائها وانضباطهم، وإيجابيتهم نحو مجتمعهم، من حيث احترامهم لمن هو أكبر منهم، وتفوقهم الدراسي ونشاطهم الاجتماعي، مما ساعد على انتشار فكرة بيوت الطلبة، التي أسستها حركة الخدمة في كل أنحاء تركيا.
وقد أسهمت هذه البيوت في تحقيق الهدف الذي سعى إليه مؤسسها، وهو بناء جيل جديد من الشباب المؤمن بدينه وأمته. كما أسهمت هذه البيوت والمنتسبون إليها في إنقاذ الجامعات التركية من الفكرَين الماركسي والقومي المتعصبين، وهي نتيجة تؤكد ما ذهبنا إليه عن دور التعليم المشبع بالثقافة والفكر. كل ذلك من خلال العمل الجاد الصامت والذي يقدم نموذجًا عمليًا عن دور التعليم في إحداث الإصلاح الحقيقي للمجتمع، ولواقع الناس من خلال تغيير نفوسهم بعيدًا عن الاستفزاز وعن الخطابة والموعظة الخشنة.
الإعلام والتعليم
أدرك الأستاذ مبكرًا، وبحكم تجربته التي مكنته من معرفة عوامل التأثير في المجتمع، وتفهمه لقضايا مجتمعه ومشكلاته، أن الأسرة والمدرسة لم تعودا وحدهما عنصري التربية والتعليم الرئيسيين. فقد صار الإعلام هو الآخر شريكًا أساسًا في تعليم الإنسان وفي صياغة مفاهيمه وقناعاته وسلوكه، مثلما صار وسيلة أساسية من وسائل نشر الفكر والدعوة. ولأن الأستاذ فتح الله كولن داعية حريص على نشر دعوته، مثلما هو ابن عصره، كان لا بد له من أن يوجه تلاميذه إلى امتلاك أدوات العصر، من هنا كان التوجه بأن يكون للخدمة وسائلها الإعلامية التي تسهم في تعليم الناس عبر تزويدهم بحقائق واقعهم فترشدهم إلى السلوك القويم نحوها.
صحيح أن إعلام الحركة بدأ بدايات متواضعة تمثلت في مجلة “الرشحة”، لكنها بداية كانت تملك الإيمان والإصرار والوضوح، لذلك نجحت الحركة في بناء منظومة إعلامية متكاملة، من بينها مجموعة “زمان” أكبر الصحف التركية وأكثرها انتشارًا(2)، إذ توزع يوميًا حوالي مليون نسخة، و”زمان” ليست صحيفة تقليدية كالصحف التي نعرفها لكنها صحيفة ذات رسالة، لذلك تختلف حتى في طريقة توزيعها، حيث يتم تسويقها على قاعدة الاشتراك بهدف بناء علاقة حميمة مع الأسرة، تحقيقًا لهدفها الرئيس، وهو تقديم حلول إسلامية للمشاكل التي يواجهها المجتمع. كما تقوم بإصدار ملاحق دراسية للطلبة تعزيزًا لدور الحركة في التعليم؛ ويأتي ذلك كله انسجامًا مع فلسفة حركة الخدمة في الإصلاح من خلال العمل، وأوله العلم النافع وفق رؤية الإسلام التي هضمها الأستاذ فتح الله كولن.
لا يتوقف التعليم عبر إعلام حركة الخدمة عند مجموعة “الزّمان”، فهناك أيضًا مجموعة “كايناك” للنشر(3)، التي هي بدورها منظومة فكرية متكاملة تؤدي دورها في تعليم المجتمع وتنويره، بدأت بمجلة “الرشحة” التي صدرت بهدف تربية جيل على أساس علمي إيماني، باعتبار أن كل ما في الكون آية من آيات الله في العلوم، وقد صار “للرشحة” الآن أكثر من ثلاثين أختًا، هي مجلات تصدر بعدد من اللغات، من بينها مجلات متخصصة بالطفل والمرأة.. الخ. وتقف في طليعة هذه المجلات مجلة “حراء” التي تصدر باللغة العربية، والتي لم تعد مجرد مجلة، لكنها تحولت إلى جسر للتواصل بين أبناء الحضارة الإسلامية وثقافتها وأهل الفكر فيها، مما يذكرنا بعروة الأفغاني ومنار محمد رشيد رضا، ولواء مصطفى كامل، يوم كانت الصحف والمجلات مشاريع نهوض حضاري أو تعبيرًا عن هذه المشاريع.
بالإضافة إلى مجموعة المجلات، التي تصدرها مجموعة “كايناك”. فإنها تمتلك دورًا للنشر، تصدر كتبًا بلغات مختلفة، منها العربية. كما تمتلك المجموعة موقعًا إلكترونيًا، بلغات مختلفة. كما تصدر كتبًا مدرسية متطورة، وكل هذه المطبوعات من مجلات وكتب لا تأتي عفو الخاطر ولا تصدر منبتَّة عن بعضها، لكنها تشكل عقدًا متكاملاً تقف وراءَها عقول مستنيرة يواصل أصحابها من طلاب الأستاذ كلالة الليل بكلالة النهار ليقدموا للأمة بل وللعالم خلاصة ما يصل إليه العقل المؤمن المستنير؛ وأولئك هم مجموعة “الأكاديمية”(4) ذات الدور المتميز في التعليم الذي يصلح العقول لتصلح البيئة التي يصل إليها نتاج هذه العقول، كما علمهم الأستاذ فتح الله.
أدرك الأستاذ مبكرًا أن الإعلام صار شريكًا أساسًا في تعليم الإنسان وفي صياغة مفاهيمه وقناعاته وسلوكه، من هنا كان التوجه بأن يكون للخدمة وسائلها الإعلامية.
إضافة للإعلام المكتوب والإلكتروني، فقد نجحت حركة الخدمة بفضل توجيهات الأستاذ فتح الله كولن، في تأسيس منظومة إعلام مرئي ومسموع، تجسده مجموعة “درب التبانة”(5) التي تمتلك العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعات المسموعة. وهذه المجموعة بدورها تتحدث بلغات مختلفة، ولديها قنوات متخصصة، مثلما أنها نجحت في اقتحام مجال الدراما، فأنتجت العديد من المسلسلات الهادفة. غير أن التحدي الكبير الذي نجحت فيه مجموعة “درب التبانة” التي انطلقت وهي تفتقر إلى الكوادر البشرية المدربة، أنها وبعد خمس سنوات من انطلاقتها صارت ترفد السوق التركي بالكوادر الفنية المدربة. وكل هذه الإنجازات تعطينا الدليل تلو الآخر على دور التعليم بوسائله المختلفة في إحداث الإصلاح المطلوب، خاصة في نفس الإنسان؛ وقد تجلى هذا الأثر أثناء الأزمة الاقتصادية التي مرت بها تركيا عام 1995م حيث برزت روح التضحية لدى العاملين في المجموعة، الذين قبلوا بتخفيض رواتبهم بل وبعدم استلامها لفترات طويلة، حفاظًا على المشروع الرسالي الذي آمنوا به. أما في أزمة عام 2000م الاقتصادية، والتي هددت المشروع بالإغلاق، فقد تدافع الناس للتبرع بما يملكون للمحافظة على مشروعهم الرسالي، حتى لقد تبرعت النساء بمصاغهن للحفاظ على استمرارية المشروع. وهذا السلوك يعكس أثر المصلح وأسلوبه في التعليم على المحيط.
بالإضافة إلى المؤسسات الإعلامية المهنية المرتبطة بحركة الخدمة فقد أقامت الحركة وقفًا للصحفيين والكتاب(6)، يعتبر واحدًا من أنشط الأطر الصحفية والإعلامية والفكرية في تركيا. مثلما يتعاون الوقف مع النقابات والجمعيات الصحفية والأدبية في العالم من خلال المؤتمرات والندوات في مجال حوارات الثقافة والأديان وغيرها من المناشط الثقافية والفكرية. كل ذلك لأن الأستاذ فتح الله يؤمن بأن الحوار هو من أهم وسائل التعليم وإيصال الحقيقة للناس والتأثير في قناعاتهم ومواقفهم وسلوكهم.
وسائل الدعم المادي
قد يتساءل البعض، كيف استطاعت حركة الخدمة أن تُقيم كل هذه المؤسسات؟
والجواب عن هذا السؤال يقودك إلى أثر من آثار التعليم النافع ودوره في إصلاح نفوس الناس، ومن ثم إصلاح واقعهم. ذلك أن الأستاذ فتح الله كولن وهو الذي قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاها وعيًا كاملاً هو نفسه فتح الله كولن ابن عصره الذي صار فيه المال عصب الحياة كما هو في سائر العصور، لكن تَميُّزَ الناس يكمن في كيفية استخدام المال وتوظيفه.
وقد استوعب الأستاذ تجربة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في تسخير أموالهما لخدمة دعوة الله عز وجل، فجعلهما وغيرهما من الصحابة نموذجًا يَقتدي به طلابه من رجال الأعمال الذين علّمهم كيف يسخّرون أموالهم ويطهرونها عبر الخدمة، وهكذا كان، فمنذ البداية الأولى تطوع رجال الأعمال المؤمنون الذين تعلموا على يدي الأستاذ لتسخير إمكانياتهم لخدمة الدعوة ابتداء من أول بيت للطلبة أقامه الأستاذ فتح الله وصولاً إلى كل المؤسسات التي أقامتها حركة الخدمة، وجلّ ذلك يجري من خلال اتحاد رجال الأعمال “توسكون”(7) الذي يضم آلافًا من رجال الأعمال المؤمنين بأفكار حركة الخدمة التي يبذلون في سبيلها مالهم ووقتهم وجهدهم علمًا بأن نسبة عالية من هؤلاء هم من الشباب الذين تخرجوا من مدارس الحركة ليقدموا الدليل العملي على دور التعليم في الإصلاح.
ريادة الطاهر بن عاشور
أما الشيخ الطاهر بن عاشور فإنه لم ينشغل في حياته بشيء أكثر من انشغاله بالعمل على إصلاح التعليم كأساس لإصلاح المجتمع؛ ونستطيع القول: إنه من أوائل من أصّلوا لإصلاح المجتمع من خلال إصلاح التعليم، ويكفي أن نشير إلى أنه ألَّف كتابه “أليس الصبح بقريب؟” وهو لم يتجاوز خمسة وعشرين عامًا من عمره، بعد أن أمضى ثلاث سنوات في تأليفه، وقد ضمَّنه خلاصة آرائه في إصلاح التعليم، حيث أعلن في هذا الكتاب أن “إصلاح حال الأمة لا يكون إلا بإصلاح مناهج التعليم”.
بل لقد اعتبر التعليم هو وسيلة الرّقي بالإنسان وتميزه عن مرحلة الحيوانية، فقد كتب في كتابه “أليس الصبح بقريب” عن أثر التعليم قائلاً: “يفيد ترقية المدارك البشرية وصقل الفطر الطيبة، لإضاءة الإنسانية وإظهارها في أجمل مظاهرها، فيخرج صاحبها عن وصف الحيوانية البسيط وهو الشعور بحاجة نفسه خاصة، إلى ما يفكر به في جلب مصلحته ومصلحة غيره، بالتحرز عن الخلل والخطأ بقدر الطاقة، وبحسب منتهى المدنية في وقته”(8).كما آمن الطاهر بأهمية التعليم للارتقاء بالحياة الاجتماعية فكتب قائلاً: “إن العلوم في نشوئها ونموّها وتكاملها مرتبطة بحاجة الحياة الاجتماعية، إذ تختلف أعدادها باختلاف الحاجات الداعية إليها”. واعتبر إصلاح التعليم مدخلاً وأساسًا للإصلاح الشامل إذ كتب يقول: “فإن دراسة تاريخ العلوم للوقوف على أحوال تطويرها وأطوار نموّها، ولتحديد علل قصورها وأسباب تقهقرها، تصبح مطلبًا رئيسًا من مطالب أية محاولة للنهوض والإصلاح”(9).
آمن الطاهر وكما كتب: “بأن تغيير نظام الحياة في أي بلد يتطلب تغيير الأفكار والقيم العقلية وتغيير أساليب التعليم”، مثلما كتب في كتابه “أليس الصبح بقريب” ما نصه “أيقنت أن لأسباب تأخر المسلمين عمومًا رابطة وثيقة بأسباب تأخر العلوم”. وقد أورد في كتابه هذا سببين رئيسين لتأخر العلوم عند المسلمين تفرع عنهما خمسة عشر سببًا آخر.
البعد الفلسفي في الإصلاح
بدأ الطاهر دعوته لإصلاح التعليم بالإشارة أولاً إلى مواطن الخلل التي كان يعاني منها التعليم في عصره مشجعًا المدرسين على نقد أساليب التدريس ومناهجها، وحدد هو أسباب فساد التعليم بفساد المعلم وفساد التأليف وفساد النظام العام، فأعطى الأولوية لإصلاح العلوم والتأليف. كما وجه نقدًا شديدًا لطرق التعليم وما اعتورها من خلل رافضًا أسلوب الحفظ والتلقين، داعيًا إلى الإكثار من الدروس التطبيقية لتنمية مَلَكَة الفهم والقدرة على البحث لدى الطالب.
أمضى الطاهر بن عاشور ثلاث سنوات في تأليف كتابه “أليس الصبح بقريب؟” وقد ضمَّنه خلاصة آرائه في إصلاح التعليم، حيث أعلن في هذا الكتاب أن “إصلاح حال الأمة لا يكون إلا بإصلاح مناهج التعليم”.
كما كان رافضًا لما أدخل على العلوم من حواشٍ أبعدتها عن عناصرها الأصلية، فصارت هذه الحواشي حاجزًا أمام الإبداع، كما انتقد الولع بالمسائل الخلافية بين طلاب العلم وانشغالهم بالبحوث العرضية، وتشبثهم بالتقليد والفصل بين العلم والعمل، وشيوع التأليف لغير العمل. فقد كان الطاهر يؤمن بأن العلم يجب أن يؤثر في حياة الناس، ويدفع بها إلى الأحسن، ساعيًا للتنبيه إلى مقاصد العلوم في الحياة، وتحقيق هذه المقاصد في المجتمع بهدف تحقيق إصلاحه من خلال الإصلاح الشامل لكل مكونات التعليم. وهو ما عبر عنه عندما كتب في “أليس الصبح بقريب؟” قائلاً: “ليس العلم رموزًا تُحل، ولا كلماتٍ تُحفظ، ولا انقباضًا وتكلفًا، ولكنه نور العقل واعتداله وصلاحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها والتطهر من الغفلة، والتأهل للاستفادة والإفادة. وما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمةً لهذين الغرضين وهما ارتقاء العقل لإدراك الحقائق، واقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو”(10). وفي هذا القول للطاهر تجسيدٌ لإيمانه بأن استنهاض العقل وتدريبه على التفكير السليم إنما يتم من خلال اكتسابه للتعليم الذي يقود صاحبه إلى خدمة مجتمعه وبناء هذا المجتمع.
ابن عاشور وجهوده التطبيقية
لم يتوقف الطاهر بن عاشور عند حدود تشخيص الداء، بل وصف الدواء وانصرف إلى العلاج من خلال العمل عبر عضويته بلجنة إصلاح التعليم الأولى عام 1910م، وعضويته في لجنة إصلاح التعليم الثانية عام 1924م، وعندما تولى منصب نائب أول لدى النظارة العلمية في جامع الزيتونة باشر في تطبيق آرائه في إصلاح التعليم، فأدخل بعض الإصلاحات التي كان يؤمن بها. كما وضع لائحة لإصلاح التعليم وعرضها على الحكومة التي أخذت ببعض ما جاء فيها. كما عمل على إحياء بعض العلوم العربية فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم، وكذلك دروس أدب اللغة، وقام بنفسه بتعليم شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
وعندما تولى رئاسة جامع الزيتونة انصرف أولاً إلى إصلاح مناهج التعليم وأساليب التدريس، ووضع نظامًا لإجراء الاختبارات العلمية، وحاول إدخال التعليم الابتدائي في مدن تونس على غرار ما فعله الأزهر، لكن العراقيل وُضعت أمام مشروعه هذا. وفي رئاسته الثانية لجامع الزيتونة أدخل إصلاحات كثيرة على النظام التعليمي أدت إلى زيادة عدد الطلاب وزيادة عدد المعاهد التعليمية.
وفي كل المراحل حرص الطاهر بن عاشور على صبغ التعليم بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الكتب التي تنمي قدراته العلمية وتعينه على الخوض في المعاني، والتقليل من الإلقاء والتلقين، كما حرص على التأكيد على الجانب التطبيقي الذي يعين على الفهم.
نستطيع القول: إن جهود الطاهر انصبّت على إصلاح كل مكونات العملية التعليمية/ التعلّمية من حيث إعداد وتأهيل المعلم وأساليب التدريس وإصلاح الكتب الدراسية، حيث استبدل كثيرًا من الكتب القديمة، كما اهتم بالعلوم التطبيقية كالرياضيات، وشجع على التخصص. كما بدأ التفكير بإدخال الوسائل التعليمية إلى معاهد جامع الزيتونة.
اعتبر الطاهر إصلاح التعليم مدخلاً وأساسًا للإصلاح الشامل إذ رأى جهود الطاهر انصبّت على إصلاح كل مكونات العملية التعليمية/ التعلّمية من حيث إعداد وتأهيل المعلم وأساليب التدريس وإصلاح الكتب الدراسية.
مؤلفات بن عاشور وفلسفتها
انطلقت كل إصلاحات الطاهر بن عاشور للتعليم من فلسفته التي آمن بها بوجوب أن يبتعد التعليم عن التلقين، ويستند إلى الفهم الذي ينير العقول والنفوس، ولعل في أسماء كتبه ما يعكس هذا الإيمان؛ فقد أسمى كتابه الذي ضمنه آراءه في إصلاح التعليم “أليس الصبح بقريب”، ومن المعروف أن الصبح هو وقت الضياء والنور. أما تفسيره للقرآن الكريم فقد أسماه “تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد في تفسير الكتاب المجيد”، وهو اسم يعكس أيضًا فلسفته في التنوير الذي يجب أن يصنعه العلم بالمتعلم. أما اسم كتابه “مقاصد الشريعة” فإنه يجسد فلسفته في ضرورة الفهم الذي يجب أن يهدف إليه التعليم. كما تحمل أسماء كتبه الأخرى مثل “كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ” و”النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح” فلسفة ابن عاشور وهاجسه بالتنوير عبر العلم الذي يقوم على الفهم.
وكان غرضه من ذلك كله العمل على إحياء مقاصد العلوم في حياة المجتمع لإصلاحه؛ فقد كان الرجل يمتلك رؤية شاملة للإصلاح الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي من خلال إصلاح التعليم عبر إعادة صياغة التعليم صياغة تجديدية، تتخلص من الجمود لتنطلق إلى روح العصر في مسعى لتخليص المجتمع من أسباب تخلفه، خاصة الأسباب الذاتية الكامنة فيه، وهي الأسباب التي سعى الطاهر طوال حياته لإصلاح المجتمع عبر تخليصه منها مؤمنًا بأن التعليم الذي ينير القلوب والعقول هو الطريق إلى ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) للأسف الشديد أغلق الحزب الحاكم مدارس الخدمة في تركيا بعد الانقلاب المزعوم في 15 يوليو/تموز 2016م دون أيّ مبرر قانوني، وطرد نحو 25 ألف من معلّمي هذه المدارس، ثم تشرَّد الطلاب إلى مدارس أخرى. (المحرر)
(2) صادرت الحكومة التركية في مارس 2016م جريدة زمان” بالتركية: “ZAMAN”، وهي صحيفة يومية كانت تعد أكثر الصحف انتشارًا في تركيا، تأسست سنة 1986م، وكانت أول الصحف اليومية التركية التي بدأت نشرها على الإنترنت سنة 1995م. وفي 27 من يوليو 2016م عقب محاولة الانقلاب الفاشلة قررت الحكومة التركية إغلاقها تمامًا، وتسريح مئات من العاملين فيها. (المحرر)
(3) فرضت السلطات التركية في نوفمبر 2015م الوصاية غير القانونية على مجموعة كايناك للنشر الثقافي” التي تضم في بنيتها أكثر من 100 علامة تجارية رائجة و21 شركة وجمعية ومركز وقف، وكانت تعد أكبر مجموعة نشر دينية في تركيا، حيث كانت تضم ثماني دور للنشر الثقافي، كما منحت الأوصياء المعينين عليها من قبل الدولة رواتب خيالية تصل إلى أكثر من ثلاثين ألف دولار. (المحرر)
(4) الأكاديمية: مركز يعنى بالبحث الأكاديمي والتكوين والنشر، صادرته الحكومة التركية ضمن ما صادرته من مؤسسات الخدمة بعد يوليو/تموز 2016م. (المحرر)
(5) أصدرت السلطات التركية قرارًا في 15 نوفمبر 2015م بحجب القنوات التلفزيونية والإذاعية التابعة لمجموعة سامان يولو “درب التبانة” الإعلامية على القمر الصناعي توركسات، على الرغم من استمرار عقد تلك القنوات مع القمر الصناعي حتى العام 2024م، ما أدى إلى إنهاء عمل 600 صحفي، دون تقديم الأسباب والمبررات القانونية التي تقتضي ذلك، والتي طالبت المحكمة بها إدارة توركسات. (المحرر)
(6) تشكَّل وقف اتحاد الصحفيين والكتاب عام 1994م، بمبادرة شخصية من الأستاذ فتح الله كولن وبمشاركة أطياف كثيرة ومتنوعة من الإعلاميين والكتاب والصحفيين، لتعزيز قيم التسامح والحوار محليًّا وعالميًا. يحتوي على خمسة منتديات كبرى منها: منتدى الحوار الاجتماعي، ومنتدى الإعلاميين والكتاب ومنتدى الفنانين ورجال المسرح والمشاهير، ومنتدى للحوار العالمي مع الشعوب الأخرى. عقد كثيرًا من المؤتمرات والورش الثقافية، ويصدر عنه عديد من الكتب والمجلات والدوريات التي تعمل على نشر القيم الإنسانية التي يتبناها. وقد أصدرت الحكومة التركية في يوليو 2016م قرارًا في ظل قانون الطوارئ المعمول به بعد محاولة الانقلاب الفاشلة بإغلاقه ومصادرة مقراته داخل تركيا، ضمن حملة المصادرات وتأميم المؤسسات التي كانت ترعاها حركة الخدمة. (المحرر)
(7) توسكون أو “اتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك” وهي جمعية كانت تعمل منذ عام 2005م، وتضم في بنيتها نحو 7 اتحادات فيدرالية و211 جمعية عمالية. كانت تعد بمثابة الجسر التجاري بين رجال الأعمال الأتراك والأجانب، وكان لها ممثلون في أهم خمسة مراكز أعمال في العالم من بينهم بكين وبروكسل وموسكو وواشنطن، وقد أغلقتها الحكومة التركية مع عشرات المؤسسات والجمعيات والفيدراليات والاتحادات الأخرى، بذريعة الإرهاب للتستر على قضايا الفساد المتهم فيها أعضاء بارزون بالحكومة في 17 و25 ديسمبر 2013م. (المحرر)
(8) ابن عاشور، محمد الطاهر. “أليس الصبح بقريب؟” التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، تونس، دار سحنون للنشر والتوزيع، 2006م، ص12.
(9) المرجع السابق، ص9.
(10) المرجع السابق، ص239.
Leave a Reply