يعتبر محور فقه التنزيل واسطة عقد مشروع الأستاذ فتح الله كولن. وكما أسلفت في حلقة سابقة، قد نجد من العلماء وزعماء الإصلاح عددًا كبيرًا يشترك في فقه النصوص وفقه الواقع الذي يستهدفونه، إلا أن القليل منهم فقط من استطاع بلورة ما نظَّر له إلى برامج ومشاريع حقيقية يمكن أن نعتبرها بديلاً أو حلاً لتحدّ من تحديات الواقع.
إن الاجتهاد لِبسط الدين على واقع الناس، وتقويم مسالكهم بنهجه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار معطيات العصر ومشكلات الناس الذين هم محل الحكم الشرعي، ولا أجد غضاضة في القول إن هذا الجانب عرف –ولازال- تقهقرًا فظيعًا في حياتنا المعاصرة. إن ما نلاحظه من إفراط في التدين المغشوش عند بعض الدول، أو تفريط مخل عند أخرى، أو عجز ظاهر لدى الكثيرين، كلها قرائن واضحة تشهد على واقع مترهل لازال في حاجة ماسة إلى جرعات كبيرة من الاجتهاد الواقعي الحقيقي.
جُلَّ الناس أو كلهم قادرون على إشعال الحرائق، لكن العدد القليل فقط من يستطيع إخمادها والأقل من يعرف كيف ومتى.
وإن كان الواقع شرقًا وغربًا يعجّ بما نعلم جميعا من قيم العنف والتشدد، فلا غرابة أن يصاب مجال القيم والأخلاق بعدوى القصور أو الضعف أو الانحراف، لكن النتيجة المؤلمة هي الغليان والحرائق التي تنتشر في كل البقاع. والخلاصة التي لا يعقلها إلا الحكماء هي أن جُلَّ الناس أو كلهم قادرون على إشعال الحرائق، لكن العدد القليل فقط من يستطيع إخمادها والأقل من يعرف كيف ومتى.
إن القيم وخاصة قيم العولمة المتوحشة هي التي سادت العالم اليوم، وليست مشاهد العنف والتشدد وغيرها من الأمراض المعاصرة إلا صورة مصغرة لصور الحقائق الكبرى، ومن أجل تلك الحقائق والأمراض أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل، ومن أجلها يبعث الله تعالى المجددين من العلماء ورثة الأنبياء للتصدي لها وتقديم الحلول والأدوية المناسبة. وإن التعويل على الوصفات القديمة أو الأدوية الدخيلة على جسم أمتنا لن تزيد الوضع إلا سوءًا وتعقيدًا.
إن كثيرًا من تلكم المواصفات المنشودة لحل الأزمة، أراها قد اجتمعت في منهج الأستاذ كولن والله أعلم، وما حديثنا عن العنف والتشدد إلا صورة مصغرة لذاك الفقه وهذا الواقع. فالرجل زاوج بين الفلسفة والفكر من جهة، وبين الفكر والحركية من جهة ثانية، وكأني به يقوم بعمليات رياضية بحتة، وهو الذي طالما دعا تلاميذه إلى توظيف المنهج الرياضي في فكرهم كما في حركيتهم.
وأد العنف والتشدد في مهده كان شامة في منهج فتح الله كولن
لمواجهة العنف والتشدد لم يكتف هذا الرجل بخطب رنانة أو وصفات مبكية، أو تنظيرات جافة، أو كتب مطولة أو فتاوى منقولة؛ بل يبدأ بالفلسفة ويُتبعها البرامج ثم يُهرول ليجعلها واقعًا ملموسًا، ويتعب في متابعة كل شاذَّة وفاذَّة تتعلق بها. وقد يعتقد البعض أن هذا الرجل لا شغل له سوى وعظ تلاميذه والنوم ملأ جفونه، وفي أحسن الأحوال قيام ليله وصوم يومه. إلا أن المطلع المدقق يعلم كيف أن وأد العنف والتشدد في مهده كان شامة في منهج فتح الله كولن، إلا أن الرجل لا يغمض له جفن حين يبلغه أبسط ظلم أو عنف يقع في جغرافية الأمة، بل سمعت ممن لا أكذبه، أن الرجل يتألم بل ويبكي، لكل جرح أو حادث يسمعه عن الأمة، ولا يكاد لسانه يفتر عن الاستغاثة بالله والدعاء للأمة.
لكن تلك اللوعة وذلك التحرق لم يمنعا هذا الرجل من الدعوة إلى مشاريع نوعية ومتابعتها في كل أصقاع العالم وليس في تركيا الجريحة فقط، وهذا موضوع وفقه آخر يستحق وقفات طويلة ليس هنا مكانها. وذلك لا لجمع أموالها ولا لبناء القصور الفخمة أو شراء الطائرات الخاصة، بل لتقديم بدائل ناجحة للمؤسسات التي ننتقدها صباح مساء، وإعداد البدائل المقنعة لشباب الأمة الضائع بين تطرف العولمة وإفراط من لا يفهمون من النصوص إلا رسومها، وبين العاجزين المتفرجين والجاهزين للترويج أو التصفيق لمشاريع كل ناعق.
إن مواجهة الأستاذ كولن للعنف لم تكن بالنظريات الجافة ولا بالتوجيهات اليتيمة، ولا بالمؤسسات الممسوخة، بل ببرامج حقيقية وبدائل تسر الناظرين. وليس مشروع “أولمبياد اللغة التركية” الذي ولد في تركيا واستقر في كل بقاع العالم إلا نموذجًا صارخًا على هذا المنهج. فكيف استطاع الأستاذ كولن أن يجمع آلاف بل ملايين الشباب ذكورًا وإناثًا، من كل الجنسيات ومختلف الديانات والأوطان والأعراف والثقافات واللغات وفي عدد من بقاع العالم؟! كيف استطاع أن يجمعهم أولاً، ويربيهم ثانيا، ويجعلهم رسلا للسلام ثالثا؟! كيف جعلهم ينشدون مثل بلابل الفجر أناشيد المحبة والسلام، بعد ما عاشوا ذلك فيما بينهم ردحا من الزمن؟
لا يقبل اتهام الأستاذ كولن أو حركة الخدمة بالعنف أو الإرهاب إلا جاهل أو مريض.
إنني عاجر عن التعبير عما أحس به حيال تلك الأعمال وتلك المشاهد من رسائل مشفرة، خاصة وعامة لكل من يهمه الأمر. كيف يمكن لهذه الملايين من البراعم في ظل أجواء عالية الرعاية والأحاسيس والمحبة والسلام أن تعرف شيئًا من العنف والتشدد؟! لو كان في العالم عدل لاستحق هذا الرجل كل أوسمة الشكر والتقدير والوفاء على ما يساهم به وما أعده من رسل للسلام، تجدهم مع مرور الأيام رسل خير في كثير من المؤسسات والإدارات والمرافق التي تتشرف بتشغيلهم وضمهم إلى أطقمها. كيف لعاقل أن ينكر هذه المساهمة الوازنة في المحبة والسلام والتعايش العالمي الذي تعقد له عشرات الندوات والمؤتمرات، رفقة كثير من الضجيج والنتيجة عنف وتشدد وظلم ودماء في كل مكان. إنه وبعد كل هذه الأعمال النوعية لا يقبل اتهام الأستاذ كولن أو حركة الخدمة بالعنف أو الإرهاب إلا جاهل أو مريض. (يتبع)
Leave a Reply