يمكن تلخيص فلسفة “فتح الله كولن” الإصلاحية، من خلال قراءتنا لكتبه ومقالاته، واستماعنا لخطبه ومواعظه بكلمة واحدة وهي: سعيه الحثيث لعودة روح الأمة إليها من جديد.
ففي هذا الروح تكمن -كما يرى الأستاذ- بطولات الأمة وعبقرياتها وفتوحاتها في مناحي الفكر والحياة.
ومن غير هذا الروح تبقى الأمة في ضياع، وتظَلُّ واهنةَ النفس، جامدة العقل، جافَّة الوجدان، هزيلة الخيال.. لا تبدع ولا تبتكر.. تطلّعاتها متواضعة، وآمالها قميئة.. تَرضى بالدُّون، وتقنع بالقليل.. لا يحفزها المجهول.. تخاف التحدّيات، وتخشى الاقتحامات، وتتجنّب التضحيات، وتَفْرَق من المغامرات.. فكْرها بين الأفكار ضحل، وقامتها بين قامات الأمم قزمة.. بعيدة عن روح العصر، لا تدرك أبعاده، ولا تفهم لغته، ولا ترى قواه المحركة، وكأنها في غيبوبة عن كل ما يحيط بها، وفي غيابَة جُبٍّ لا يمكن الخروج منه.
فالأستاذ “فتح الله” يستحث هذا الروح العظيم للعودة إلى جسد الأمة من جديد، لتدبَّ بها الحياة تسري في عروقها وأعصابها ودمها، وإلاَّ فإنَّ تضحياتها التي قدمتها عَبْرَ القرون السالفة ستذهب سدًى، وتجري متثاقلة إلى متحف التاريخ دون أنْ تجديها نفعًا.
فاندلاع شعلة الروح ساطعةً كاشفة، هي التي تحرّك الأدمغة الكبيرة لكي تستولد من الأفكار ما يدفع الأمة إلى اعتمادها في شق طريقها الحضاري الجديد.
فهذا الروح إذا ما عاد ليستقرَّ في فكر الأمة ووجدانها وثقافتها، فإنها ستكون قوية بما فيه الكفاية على مقاومة مخاطر التردي والهبوط التي تهدد وجودها من كل جانب.
ومن جانب آخر يرى الأستاذ “فتح الله” أنَّ منجم الأمة العظيم هو ذاتها، وهذه “الذات” تخفي كنوز الأمة متجوهرةً في أبعاد غير مرئية من أغوارها.
فهذه “الذات” هي تشكيلة أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن، حيث كانت مَصَبًّا هائلاً تصبُّ فيه الأمة شؤونها الروحية والفكرية والأخلاقية والبطولية.. فهذه الذاكرة لا يعتورها النسيان أبدًا حين تريد الأمة الاستذكار والاعتبار. لذا صار الكشف عن “الذات” والحفر عن كنوزها -في رأي الأستاذ- هو أولى درجات الارتقاء في سُلَّم النهوض المرجو.
فذات الأمة هي المرآة التي تعكس صورًا من روح الأمة في نضالها الارتقائي عَبْرَ العصور. فالروح والذات، هذان المصطلحان كثيرًا ما يأتيان في كتابات الأستاذ بمعنى واحد، أو يعبر أحدهما عن الآخر، أو يردف أحدهما الآخر ويقويه ويسنده.
فالروح إذا عاد ليحتلَّ مكانه الأرفع من فكر الأمة، وصار العمود الأعظم من أعمدة ثقافتها، فإنها ستقوى على مقاومة التفكك والانحلال في الثقافات الأخرى، وستمتلئ ثقة بأنَّ هذا الروح هو مُدَّخر القدر لصلاح الأمم وإنقاذها من مفاسدها.
فالتعرف على هذه الأمة بتميزها، وبعلاماتها الفارقة بين الأمم، يتم من خلال استكناه ذاتها. وهذا الاستكناه يظل ناقصًا من دون التعرف على روحها الذي يمدُّ هذه الذات بالخصب والحياة. فـ”الذات” و”الروح” كلاهما يستعصيان على عوادي الزمن، فلا تستطيع الأزمان والأحقاب أن تغيرهما أو تزيد عليهما أو تنقص منهما. وهذا هو سرّ إخفاق كثير من المحاولات في إحداث تصدعات وشروخات ذات أثر كبير في روح الأمة وفي ذاتها، على الرغم من معاول الهدم التي لم تتوقف منذ عُرِفَ دين هذه الأمة، وعُرِفَتْ الأمة بدينها.
فالتنكر لهذين الأصلين من أصول الأمة ومجافاتهما، إنما هو محاولة لنفي الأمّة بعيدًا خارج سياقها التاريخي والإصلاحي، والحكم على مصيرها بالدمار والهلاك.. فهذان الأصلان هما المفتاحان اللذان يفتحان أبواب الأفكار في عقل هذه الأمة، وبدونهما تظلُّ تحدق في عين الخطر دون أن تفعل شيئًا لتجاوزه.
وقد يكون الإعياء الذي نهك الأمة خلال مآسي عصورها، سببًا في انهيار عزيمتها وإقدامها ولاَمُبَالياتها، وهذا هو الذي كان يؤرق الأستاذ “فتح الله”، ويعمل على علاجه كما هو مشاهد في منظومة فكره.
Leave a Reply