نحن الأجيال الإيمانية الطالعة من أعماق ذات الأمة نرفض -منذ اليوم- أن يُحْكِمَ ذوو الرؤس الكبيرة أغلال أفكارهم في أعناقنا، وأن يحبسونا -كما في الماضي- في قمقم هذه الأفكار في عزلة تامة عن بواطن ذواتنا الإيمانية والتاريخية حتى فقدنا القدرة على ممارسة التفكير الذاتي المستقل، فلم نعد -بعد اليوم- أصفارًا على يسار الفكر، فقد نبتتْ فينا أفكار جديدة وفتية، ذاتية الإنبات، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، عالية الفروع، وستنقلب عن قريب إلى حقائق معيشة في حياتنا الفكرية والأخلاقية.
فالذات الساكن ماج بما فيه، والروح الخامد اشتعل وأضاء، وإذا كنَّا نخوض اليوم نزاعًا صاخبًا بين المنظومة الفكرية القديمة والمنظومة الجديدة والجريئة، فبفعل ما أحدثته كتب الأستاذ “فتح الله كولن” في النفوس من تغيير وتجديد… فأعماله الفكرية المبدعة كان لها تأثير ملحوظ على مجاري الأفكار في “تركيا” وفي أرجاء أخرى من العالم.
لقد بشَّر “كولن” منذ عهوده الأولى في ممارسة الكتابة بانهزام السيف أمام الذهن، وبأن قوة الذهن قوة سرمدية في تأثيرها على توجهات مسارات العالم الفكرية والروحية، بينما يبقى أثر السيف قاصرًا ومحدودًا وموقّتًا.
وأمّتنا التي كانت تنهض من النوم كل صباح على فكرة واحدة وهي كيف تستطيع استئناف حياتها الإيمانية من جديد لم تعد تشعر بالإحباط وهي تتلمس طلائع الجيل النهضوي الجديد وهو يحث الخطى نحو هذا الهدف الذي ظلَّتْ أمّتنا تنتظره منذ زمن بعيد.
إنَّ نشاطات “كولن” الفكرية -ومن خلال كتبه ومحاضراته ومواعظه- دفعتنا لكي نأخذ مكاننا في الصف كرجال إيمان نكافح سوية من أجل الارتقاء الديني والإنساني، ودفعتنا كذلك لكي نكون مع الجانب الكفاحي من الحضارة الساعي إلى تغليب الفكر والروح على النوازع الجسدية الطاغية. وللتخفيف من غلواء الانفعالية الغضبية والبأسية التي تهدد البشرية بالمزيد من الدماء والأخزان.
وهكذا استطاع “كولن” أن يجعل “الدِّين” العاطفة الأكثر سعةً والأكثر غلبة على كل عواطفنا الأخرى، فغدونا مع الأيام متوحدين مستقلين لا مثْنوية فينا مع ما نؤمن به ونعمل من أجله.
وهذه الذات “الغائبة الحاضرة” في مفهوم “كولن” مزيج مركب من روح القرآن، وروح الكون، وعقل الإنسان… وهو يرى ضرورة اعتمادها في أي مشروع نهضوي وحضاري كما يشرح ذلك لقرائه على صفحات كتابه القيم “ونحن نبني حضارتنا”، وهذه الذات بهذا التركيب المزجي مهيأة دون غيرها لابتعاث الحياة في روح الأمة وعقلها، ولاسيما إذا ما كان من وراء ذلك إرادة لا تنثني وتصميم لا يلتوي.
وهذه الإرادة وهذا التصميم يشكلان قوة دافعة نحو التغلب على التحديات والمثبطات في طريق النهوض المرتقب.. فتأكيد “كولن” على خصوصية ذات الأمة بالمواصفات الآنفة قضيّة حياة أو موت. وهي تتطلب الخوض من أجلها أشدَّ الصراعات الفكرية مع المناوئين والمناهضين الذين لا يروق لها الْتفات الأمة إلى أرصدتها الذاتية واستخدامها كمنطلقات لوثوبها الحضاري القادم.
إنَّ صاحب هذه الذات لا يقبل أنْ يكون في مقام الفرجة على الوجود الإنساني من خارجه بغير اكتراث بإشكالاته وهمومه، بل يقذف بنفسه باعتباره معْلمًا من معالم الحق على أباطيل العالم ليزهقها ويبددها… إنه صاحب الكلمة الأخيرة والكلمة الفصل على ما يلغط به الآخرون من كلام… إنه يتمتَّع بشيء من قدرات القرآن على تغيير النفس ومن ثـمَّة تغيير العالم، ومن هنا كان “كولن” يكرر أنَّ الإنسان الذي يجهل ما تنطوي عليه نفسه من طاقات للتغيير هو إنسان فاتر الهمة، ضعيف الإدراك، مهزوم الروح، مأزوم الذهن، كثير الوجل، سلبي السلوك.
فالهدف السامي دليل سموّ صاحبه، وعظمته بعظمة أهدافه وآماله.. وأعظم الأهداف هو أنْ يفهم الإنسان نفسه، ويدرك أبعاد ذاته، ويستوعب قدرات روحه وذهنه… وإذا ما ظلت نفوسنا جائعة للمعالي العالية، والمعاني العظيمة، وإلى كل ما هو متفوق وبطولي وإعجازي في أفكارنا ومعتقداتنا، فذاك دليل صحتنا النفسية والعقلية، وإننا مهيّأون لكي نمضي في طريقنا الحضاري إلى أمداء أبعد، ومسالك أوسع، كما يشير “كولن” إلى ذلك في كتابه آنف الذكر، وإلاَّ أدَّى توقفنا عند حاجز زماني معيّن إلى انحلالنا تدريجيًّا إلى حد الاضمحلال والتلاشي في قاع الزمن الذي توقفْنا عنده.
إنَّ كفاحنا الروحي والذهني من أجل “ونحن نبني حضارتنا” مهما اعترانا من جرائه من تعب وإرهاق، فإنه يظل المِرآة التي نرى فيها أنفسنا -نحن أجيال الإيمان الطالعة من ذات الأمة- وهي تتسامى على زمن الانحلال والتخلف في محاولة منا لوضْع لبنة في هذا الصرح المؤمل الذي هو في حاجة إلى المزيد من أجيال البناء والإعمار في الآتي من الزمان.
Leave a Reply