كثيرًا ما يجري على أقلام الكتّاب والمفكرين مصطلح “روح العصر” في معرض بيان التوجهات الفكرية والروحية السائدة في زمن من الأزمان، ولتشخيص الطابع الفكري العام المميز له عن الحقب الزمانية التي سبقته.
ويتشكل “روح العصر” من قوى فكرية تعمل على تغذيته وإمداده بمقومات الفاعلية والتأثير في محيطَيه الزماني والمكاني… فقوة أي فكر وقوة تأثيره، تتأتى من قوة صدقه، ومن قوة الحق الذي يحمله. وهذه القوة هي مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته وتجليات جلاله وجماله على الأذهان والأرواح.
وإنه لمن المفزع أن نلمس في “روح هذا العصر” قصورًا معيبًا وعجزًا بينًا عن تغطية الجوانب الروحانية في الإنسان. الأمر الذي غدا من أوجب واجبات المفكر الغيور على شرف الإنسانية أن يسعى إلى إمداد فتيل هذا الروح بالزيت الذي يعيد إليه توهجه الروحي من جديد.
وقد كان “فتح الله كولن” واحدًا من المفكرين القلائل الذين انتبهوا إلى مخاطر انطفاء هذا الروح وموته على حياة البشرية. فمن غير روح عظيم يظلّها ويغار على موروثاتها الدينية والأخلاقية والحضارية تظل البشرية تشعر باليتم الروحي والتأزم العقلي طوال حياتها.
فالتفكير العقلي الخالص -كما يرى كولن- غير قادر على إنقاذ البشرية مما يتهددها من مخاطر الجفاف الديني والأخلاقي. هذا الجفاف الباعث على الرعب من الإنسان وعلى الإنسان، لأنه نوع من الجحيم الداخلي الذي يلتهم نفس صاحبه ويلفح بنيرانه نفوس الآخرين.
فالنفوس الجرداء والمجدبة غير قادرة على إنجاز عمل فكري عظيم يثري عقل العصر ويمده بأسباب اليقين الإيماني.. فالأستاذ “كولن” ومن منطلق كونه مواطنًا إنسانيًا يسهم مع كل المفكرين الإنسانيين المهمومين بمشاكل العالم، لإنقاذ روح العصر مما يتهدده من مخاطر، وهو يدعو هؤلاء المفكرين أينما كانوا إلى أن يرتبطوا بميثاق شرف إنساني من أجل هذه الغاية العظمى التي لا أنبل منها ولا أعظم.
وقد كان لـ”كولن” شرف المسارعة إلى مباركة التجمع الشرفي لمواطنيه الأتراك من مفكرين وأخلاقيين وأدباء وشعراء وفنانين وفلاسفة وصحفيين وعلماء ورجال دين وتجّار ورجال أعمال، متجاوزين في تجمعهم هذا كل خلافاتهم ومناقضاتهم، ومكرّسين أنفسهم لهدف واحد هو الوقوف مع الإنسان في استعادة مكانته الروحية في هذا العالم.
والتجربة التركية -بحسب المختصين- من أنجح التجارب وأخصبها التي يمكن لأيّة تجربة على مستوى العالم أن تفيد منها وتتخدها نموذجًا يمكن اعتماده من قبل المؤسسات والهيئات المعنية بالشؤون الروحية للإنسان وأخلاقيات ضمير العالم.
فذهْنية العصر المرهقة والمعذَّبة مخيفة إلى حد الجنون، لما يمكن أن تجره على البشرية -في ساعة من ساعات السأم- من مآسٍ وآلام، ومع ذلك فإن هذه الذهنية واثقة من نفسها إلى حد يجعلها لا تقيم وزنًا لمتطلبات إعادة النظر فيما خلّفته من أوجاع للضمير البشري على هذه الأرض، وما تعانيه من “الكسل الروحي” لا يقلقها إلا بمقدار قلقها من فشل تجربة يجريها أحد علمائها على فأْر من فئران الاختبار… إنه عقل فاتر الهمة بكل ما يخص الجانب الروحاني من الإنسان. وهذا هو ما يثير قلق “كولن” ويجعله معنيًّا كل العناية بمشاكل عقل العصر وانعكاساته الخطيرة على معتقدات الناس أفرادًا وجماعات.
فعقل العصر وحده بلا روح يصحبه، ولا قلب يخالطه، قد يهيج كما تهيج الغرائز المتفلتة من عقالها، فيرغي ويزبد ويجدِّف ويدمر، ويثير من الفزع على مثاليات الإنسان الأخلاقية والدينية ما لا يطاق… فالنمو المفرط في الوظائف الذهنية الخالصة من جانب، والضمور الروحي والوجداني المفرط من جانب آخر، هو سبب اختلال توازن شخصية الإنسان المعاصر.
وما بين روح العصر وروح “العظيم” أكثر من نسب وصلة، فينجذب أحدهما إلى الآخر ليتبادلا فيما بينهما القوى الإدراكية والمعرفية عند كلَيهما. فروح العصر قمين بأرواح عظماء الرجال، فكم من عظيم استطاع أنْ يطوي روح العصر في أعماق روحه..!
فعظماء كل عصر هم الذين يحرّكون روح العصر ويصوغون توجهاته الفكرية والروحية من جديد، ويقودونه إلى حيث تقودهم قواهم الروحية الجبَّارة..
فالبشرية وإن اختلفت شعوبها جنسًا ووطنًا وثقافةً وحضارةً، غير أنها تشكل وحدة روحية واحدة، يظلها عصر واحد، ويهيمن عليها روح هذا العصر… فالنظرة الاستنكافية لشعب من الشعوب من أن يكون واحدًا في هذا الجسم الشعوبي الوحْدوي، ما هو إلاَّ استثناءً من توافق إنساني غير مقصود، ووترًا نشازًا في سمفونية التناغم الشعوبي، وتحديًا للمشيئة الكونية ذات الطابع التناغمي والانسجامي… فعذابات الشعوب مهما كانت أليمة، لا تستطيع أن تؤثر على إراداتها في تعلم أنماط جديدة من السلوك الإنساني بعضها مع البعض الآخر، وإلا تعذَّر عليها مواصلة الحياة وتبادل أشلاء الأحزان فيما بينها لتظلَّ إنسانيتنا سالمة ونحن نتعامل بها مع الآخرين كاملة غير منقوصة.
فرُوح العصر الذي يمدُّ شعوب كرتنا الأرضية بتوجهاتها الفكرية والروحية، يفتقر اليوم إلى ذلك الفيض الروحاني الذي يساعده على أداء مهمّته الارتقائية بروح الإنسان، الأمر الذي شكّل حافزًا ملحًا على مفكري العالم المعنيين بالشؤون الفكرية والروحية للإنسان لكي يتكاتفوا جميعًا من أجل إمداد هذا الروح بالمزيد من القوى التي بات الإنسان اليوم في حاجة إليها أكثر من أي زمن آخر… وهذه المهمة النبيلة هي التي نذر إليها الأستاذ “فتح الله كولن” نفسه، وكرّس حياته وقلمه لها… فهذا الهدف الأخلاقي والإنساني يبلغ من السموّ عند “كولن” إلى حد التخلي عن حياته نفسها إذا اقتضى الأمر -كما يقول- لكي يعمل للوصول إليه وتحقيقه فوق ظهر هذه الأرض. و”كولن” ليس “طوباويًّا” غارقًا في الخيال كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، إنه وجد في “المدرسة” المبنية على مزيج من روحانية السماء وعلوم الأرض آليةً لهذا العمل الكبير والنبيل، فشجع على الإكثار منها، ونشرها في تخوم العالم لتخريج المثقف الواعي والعالي الذي يجد نفسه على وفاق مع الكون، وفي الوقت نفسه على وفاق مع الروح التي بين جنبيه.
Leave a Reply