في عالمنا الإسلامي ما انفكت صروح الفكر السامي تتهاوى صرحا بعد صرح، ولبنة إثر لبنة، بفعل معاول الهدم والتخريب التي ظلّت تعمل بصمت مريب خلال قرون عديدة.
في هذا العالم المنقض يقلّ البُناة، ويعز البنّاؤون… فالأستاذ “فتح الله كولن” هو واحد من قلة من البُناة الذين يسعَون لترميم المتصدع، وإقامة المنقض، وبناء المنهدم.
وكتابه القيم “ونحن نبني حضارتنا” مَعْلَمٌ عالٍ من معالم الصرح البنيوي الذي يعمل على إنشائه من جديد، وإقامته على أسس من القوة والمتانة ليسلم من عوادي الزمن، وعواصف الأيام والسنين، ويستعصيَ على معاول الهدم والتخريب.
ففي هذا الكتاب سجل حافل للأدوية التي يصفها لعافية الروح الحضاري، واستشفائه من أمراضه… إنه يعتمد في بناء الأساس الحضاري كما يتنبأ به على ما يمكن أن نسميه بـ”الروحية العلمية” التي تمزج بين عالمَيِ الفكر الروحي والفكر العلمي. إنه هنا لا ينطلق من فكر هوائي تأملي، بل من فكر تجريبي واقعي. فالمدارس التي يشجّع على إنشائها في أرجاء العالم تعتمد هذا النهج في فلسفتها التعليمية والتربوية.
إن هذا النهج مجرَّب في المتأثرين بأفكاره من المثقفين والمتعلمين، لأنه دينامُو المجتمع الحضاري الذي ينشده في أعلى قمّة من قمم الروحية مع أعلى قمة من قمم العلمية في يقينياتها المؤكدة.. لأن الإنسان عنده جسر يصل بين الطبيعة التي هي منشأ كل العلوم، والروح الذي هو منشأ كل الأديان؛ وعليهما كليهما تنشأ الحضارات، وتقوم المدَنيات.
وأفكاره في كتابه “ونحن نبني حضارتنا” تدور حول العمل على التوحيد النفسي والفكري بين عالَمَي الطبيعة والروح؛ إنه يرسم لحياة المسلم طريقا لا يستطيع معها أن يتساءل: لماذا أنا هنا..؟ وماذا أصنع بحياتي..؟ لأنه لا يجد ذلك التناقض المؤلم بين طبيعته الطينية وأفكاره السماوية. لأنه يخلُص في خاتمه المطاف إلى الإيمان بأن هناك قوة مبدعة أعلى من كل إبداعاته، وأنه إذا كرّس نفسه لخدمتها فإنه سيبلغ أسمى أهدافه في الحياة والخلود.
فـالأستاذ “كُولَن” في هذا الكتاب يكاد يصرخ وهو يشير إلى الإنسان الذي يعيش تحت سقف الكون أن نفسه ونفس الكون هما من طبيعة واحدة، فأخوف ما يخاف منه الأستاذ “كولن” أن يسقط المسلم في فراغ حضاري قاتل ومجهول، فيظلَّ طافيا على السطح لا هو ميت فيُنْعَى، ولا هو حي فيُرجَى.
إن مشكلة المسلم الحضارية اليوم هي أن حُمَّي الحياة لم تصبه بحرارتها لكي تنشط ذاتيته التي تنطوي على أغلى كنـوز وجوده الإنساني والحضاري، لذلك فهو يحاول في هذا الكتاب أن يذكِّره بهذه الكنوز ويحفزه للبحث عنها والحفر من أجل العثور عليها.
إن المسلم بقدر ما هو يشعر بالضعف، إلا أنه في الوقت نفسه يمتلك من القوى الخفية، ما إن تتفجَّر حتى تُحْدث ذلك الدويَّ الحضاري الذي يظل يتصادى في أرجاء المعمورة لقرون كثيرة من الزمن.
فكلما زادت حرارة حُمَّى الحياة شدةً في المسلم، زادت معها قدراته على امتلاك ناصية الفكر الحضاري الذي يسعى إليه، لأنه عندئذ يجعل رسالته في الحياة هي العيش من أجل الحقيقة لا من أجل أي شيء آخر.. والعيشُ من أجل الحقيقة هو أُولى خُطى المعرفة الحضارية الآتية.. فهذه الحرارة ستذيب تراكمات الزمن على أبواب الإدراك، وتعمل على تنظيفها.. وعندئذ يمكن أن يشرع بحوار مع نفسه ومع الطبيعة والكون…
ويجدر بنا أن نلخص مضامين هذا الكتاب بعدة نقاط على الشكل الآتي:
إنه يتحدّث عن المقاربات الفكرية بين “كولن” وعمالقة الفكر الإنساني عبر التاريخ.. وعن مفهوم “الحرية” عند “كولن” وعند رواد الحرية المعاصرين.. وعن المردود الأخلاقي للتفسير الروحي للكون عند “كولن”.. وعن التجوهر الإيماني في ذات الإنسان، ومردود ذلك على حياة البشرية.. وعن الحوار من أجل سلام يعمُّ البشرية قاطبة كما يفهمه “كولن”.. وعن مدارس الخدمة عند “كولن”، وتشكيل العقل الحضاري الجديد. الانبعاث الحضاري في الأمة ما هي قواعده وأصوله؟ وما هي لبنات هذا البناء من أين وكيف؟ عوامل النهوض الحضاري كيف نشخصها؟ وكيف السبيل إلى استخدامها؟ العقل الحضاري كيف نبْنيه؟ السلوك المتمدن كيف نشكّله في النفوس؟
Leave a Reply