يدق الأستاذ “محمد فتح الله كولن” من خلال فكره على أبواب القلب، يطرق ويديم الطرق: “اِفتحْ يا قلب… دعني ألج بكلماتي إليك… دعني أُعالج أغلاق خزائنك… دعني أكشف عن أسرار مداخلك… دعني أطلق قواك الخفية… وأُدير مفتاح الفهم عن الله في روحك… دعني أبتعث فيك مواجيد الحنين… دعني أنفض عن أهداب روحك نعاس السنين… دعني أشقّ أكفان الموت عنك… دعني أبدد ضبابيات الأرض التي تغشى وجودك… دعني أنقش صورة الآخرة على صفحة الشغاف منك… دعني أعَرِّف ذاتك بذات الكون… دعني أعقد معرفة بينك وبين الطبيعة، وصلحًا بينك وبين شقيقك الإنسان..!”.
والأستاذ فتح الله كما هو قمّة عالية في أفكاره الإيمانية والدينية، فهو كذلك قمة عالية في قدراته الأدبية والفنية، يجمع بينهما بجدارة واستحقاق، ومن هنا تأتي كتاباته مزيجًا من الاثنين معًا، فتتميز وتنفرد مذاقًا وأسلوبًا.
فمجموعة مقالاته الافتتاحية في مجلة “رشْحَة” (Sızıntı) الشهرية، تؤكد ما ذهبنا إليه من هـذا المزج بين القدرة الدينية والقدرة الأدبية عند هـذا الرجل، يعالج فيها قضايا إيمانية عظيمة الأهمية بأسلوب أدبي رشيق يستطيبه وينجذب إليه القرّاء مهما كانت مستوياتهم الثقافية والفكرية.
وأفكار “كولن” كيانات حيّة تنبض بالحيـاة، لأنها بعض نفسه، وبعض من فلذات روحه وقلبه.. زَقَّهَا حباتِ الروح، وسـقاها دم القلب قبل أن تنضج وتستوي وتأخذ طريقها إلى عقول القرّاء وقلوبهم.
ولا شيء من الوصف يصدق على الرجل كما يصدق عليه وصْفنا بأنه روح عظيم حَوَّامٌ فوق عظيم الأفكار بدافع من شرف المحتد، ونبل الخُلق، وطهارة الضمير، وهو كثير الانطلاق إلى مواطن الذكرى من التاريخ الذي ينتمي إليه، حتّى غَدا قلبه غابة شجن وَوَجْدٍ، ودمعه ينبوع حرقة وكمد، يكاد يتمزق عندما يمُرّ على أطلال حضارة كانتْ يَوْمًا مَا مِلأَ عين العالم وسمعه، أو يُقَلِّبُ صفحات دين مهجور جفاه أهله، ونأى عنه القريب قبل الغريب، وجهل ناسه مواطن العظمة فيه فنسوه وأهملوه.
إنه يسجل في هذه المقالات أطهر مشاعره، وأقدس أحاسيسه، وهو يحوم حول الكعبة المشرفة التي يرى أنها سُرَّة العالم، ونقطة المركز من الأرض، وصلة الوصل بين الأرض والسماء.
وأما القبَّة الخضراء -وما أدراك ما القبة الخضراء؟- فعندها يذوب الحشا ويركع القلب، وتخشع الروح، وتتساكب العبرات، وتتقطَّع الأنفاس، ويرتفع أنين الشوق حتى يلامس السماء. إنه في الحضرة المحمدية التي يتمنّى أن يكون ذرة في ترابها تطأها قدما أطهر إنسان مشى على وجه البسيطة.
ويمضي في سُرَاه حتى يصل بيت المقدس وقبَّة الصخرة، وينثر هناك فوق هذه الصخرة التي عرج منها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء مدامع قلبه، ودفقات حنينه، وومضات أشواقه… إنه يصغي إلى الصخرة العتيدة وهي تحكي قصة التاريخ الروحي للبشرية منذ آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ويمضي عائدًا فيتحدث عن “آيا صوفْيـا” الصرح التاريخي العتيد، وعن جامع “السلطان أحمد” الذي يقوم شامخًا قبالتها يتحدّى عظمتها ويعتلي فوق هامتها وبلمعة من لمعات روحه، يكتشف سرّ ذلك، ويتعرّف على خفايا الرمز الذي يربط بين الصرحين العظيمين، وعن المعاني الروحية الكامنة في سرِّ الأحمدية “التي يستمد الصرحان منه الكثير من هيبتهما”.
آمل أن أكون قـد وفِّقْتُ -إلى حد ما- برسـم بعضٍ من ملامح هذا الفكر وسِماته العامة. وهو كما يأتي:
- الكتاب مفتاح عظيم لأبواب القلب المستعصية على الفتح.
- القلب الفهيم عن الله، كيف ننْشئه؟
- معرفة حميمية بين ذات الإنسان وذات الكون، كيف نقيمها؟
- دين عظيم لماذا جفاه القريب قبل البعيد؟
- دمعة حزن وأسى على مواطن الذكرى من التاريخ الذي ينتمي إليه المؤلف.
- نبع دفَّاق من المشاعر والأحاسيس، يروي عطش الروح والفكر.
Leave a Reply