عرس شيخ العزاب
من على تلّ العرايس، قدّر لي أن أزور عرس شيخ العزاب، الذي فتح الله عليه بأجمل جميلات المعاني، أحلى وأرقّ بنات المعرفة، أروع وأعذب فتيات صحبة التربية.
نعم قدّر لأهل المغرب، بعدما زاروا قصر إقامة عرسك سيّدي، أن يزفوك لعروسك المتربعة على تلّ عرسان العرايس، بزغاريد مَغْربية أندلسية، وبأهازيج أمازيغية جبلية حسانية أطلسية أصيلة، يقدموا التهاني القلبية لشيخ عزاب الفكر والتفعيل والإرادة، يزفون شاعر الوجدان التركي بشعر أهل العرفان الأندلسي الإشبيلي، وينشدون قصائد وصال الروح للعارف مولانا أبو مدين الغوث، في مديح سيد الخلق، خير البرية صلوات الله وسلامه عليه:
تحيا بكم كل أرض تنزلون بها
كأنّكم في بقاع الأرض أمطار
وتشتهي العين فيكم منظرا حسنا
كأنكم في عيون الناس أزهار
ونوركم يهتدي الساري برؤيته
كأنكم في ظلام الليل أقمار
لا أوحش الله ربعا من زيارتكم
يا من لهم في الحشا والقلب تذكار
* * *
فسيأتي هذا الحي غير سراكم
واسمع من تلك الديار نداكم
ويجمعنا الدهر الذي حال بيننا
ويحضا بكم قلبي وعيني تراكم
أنا عبدكم بل عبد عبد لعبدكم
ومملوككم من بيعكم وشراكم
سقاني الهوى كأسا من الحب صفيا
فيا ليته لما سقاني سقاكم
كتبت لكم نفسي وما ملكت يدي
وإن قلت الأموال روحي فداكم
لساني يمجّد وقلبي يحبّكم
وما نظرتْ عيني مليحا سواكم
وما شرف الأكوان إلا جمالكم
وما يقصد العشاق إلا سناكم
وإن قيل لي ماذا على الله تشتهي
أقول رضا الله ثم رضاكم
ولي مقلة في الدمع تجري صبابة
حرام عليها النوم حتى تراكم
هزوني عظاما محملة أين صرتم
وحيث حللتم فادفنوني حداكم
ومروا على قبري بقعر نعالكم
فتحيى عظامي حين أصغى نداكم
* * *
في طريق عودتنا كان الجسر مكتظّا بالسيارات، وهذا أمر عادي بالنسبة لإسطنبول عاصمة المدن في تركيا، أجمل عواصم الدنيا، وخامس أكبر مدن العالم، من حيث السكان 17مليون نسمة.
إسطنبول المعروفة تاريخيًّا باسم بيزنطة والقسطنطينية والآسِتانة وإسلامْبول… سحرتني الحديقة الزاهرة التي تقع على مضيق البوسفور، وتطوق المرفأ الطبيعي المعروف باسم “القرن الذهبي” بالتركية (Haliç) أو (Altın Boynuz) الواقع في شمال غرب البلاد.. فترنّمت بأنشودة العاشقين في حق هذه المدينة الساحرة، سلطانة المحاريب، وحظيرة مطاف الأرواح المقدسة.. مساجدها سترة مراقد القلوب، العاشقة لحدائق الجنة.. مآذنها ممتدة نحو الجسر الفاصل بين قارّتين، مترفعة عن الأرض، ترفع ترانيم مجد مسيرة البطولة التوحيدية.. إسطنبول الممتدة بحسن طلعتها البهية، على طول الجانب الأوروبي، من مضيق البوسفور المعروف باسم “تِرَاقْيَا”، والجانب الآسيوي المعروف بـ”الأَناضول”.. إسطنبول التاريخ والجغرافيا، عروسة مسحورة، من مدن ألف ليلة وليلة، رومانية لاتينية، عثمانية… سهولها المشرقة، ساحاتها الفيحاء، فتنت من قبلي ملوكًا وأدباء وعلماء ونسّاك، أنطقت بالشعر أناسا لم يكونوا شعراء، وأشاعت بحسن جمالها وبحلّة عرسها الماسية في الناس فرحة لا تنقضي… هذه العروسة، رأيت جانبا منها في رحلة الصيف، وجانبا آخر في رحلة الشتاء، وأرنو لرؤيتها وهي مياسة في حلل الزهر، تختال في أفراح الربيع عرس الدهر، لتزف لعريسها المتغرّب الآتي من وراء المحيط، فتملأ الدنيا بالعطر والسحر، وتقرأ على قلوب العاشقين أبلغ الشعر. تزفه بقصائد عشق الواصلين، وتنشد له لحن الوجد والفراق:
يا فارس الفرسان!
قل للذي عن الوجد أهله،
إذا لم تذق معنى شرب الهوى دعنا،
إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقاء،
ترقصت الأشباح أيا جاهل المعنى..
أما تنظر الطير المقفص يا فتى،
إذا ذكر الأوطان حنّ إلى المغنى،
يفرج بالتغريد لملل في فؤاده،
فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى،
كذلك أرواح المحبّين يا فتى،
تهزها الأشواق للعالم الأسمى…
مراسيم زينة العروس “نداء الروح”
كانت الحافلة تتوقف عند بيت زياد، بينما كنت أستمتع في نشوة بمراسيم زينة أعياد زفة ينشدها أهل العريس، فرحًا بقدوم شيخ العزاب، المتحرق شوقا لزيارة عروسه التركية.. فطالما انتظر لقاءها، وحلم بزقاق حيّها، والمساجد المطلّة على ساحات بيتها، ورائحة القهوة المنبعثة من مدخنة المقاهي المجاورة لشرفتها!.
هذا العريس الذي عزف عن اللقاء بعروسه وهو في سن الثلاثين، ورفض إغراءات أستاذه الذي أحبّه كثيرا، وهو يعرض عليه الزواج بأجمل الجميلات، في مسجد” كَستانة بزاري”.. هذا الشاب الذي حلم والداه برضاه عليها وهو في سن الأربعة والأربعين.. أعلن رسميا الزواج بحبيبته.. “نداء الروح” من بلاد الأناضول التي عشقها وافتتن بحبّها كل من تنفس عطر رائحة ترابها.. ومن فرط عشقه لها حكم عليه بالإدانة والسجن، بتهمة حبها… أولياء أمرها في تلك الفترة خيّروه بين الموت والتعذيب في قباب السجون، أو الهجرة حفاظا على سلامتها.. فاختار الغربة حماية لعرضها، وصونًا لأمان أهلها وعشيرتها… هاجر العريس ليلة زفته بعروسه التي أحبها، وافتداها بقلبه، بروحه، بوجدانه.. متغربا في أرض بلا زوجة، ولا ولد، ولا أهل، ولا رصيد أموال… عاش هائما في عشقها.. وبادلته الوفاء بالانتظار.. بلغ العريس الخامس والخمسين، وهي لا تسأم من الانتظار.. صبرت، وفوضت أمرها لله.. عسى الزمن يغير مجرى عذابات القهر والبعاد…
كبر أبناء الجيران
قصص عشق العريس فتح الله، كانت تحكى لهم وهم أطفال تقلد أبناء الحي والقرية والمدينة مناصب كبيرة في بلد العرسان… أحبّوا العريس في غربته، وحنوا للتواصل المباشر معه، بعيدا عن الشاشات وحكي الآباء.. أرادوا إكرامه بهدايا تحمل نفقات جهاز وزينة عروسه “نداء الروح”.. جابوا البلدان بحثا عن أرقى أثواب حرير لجهاز عرسها.. سألوها عن ألوان الفساتين التي ترغب ارتدائها ليلة عرسها.. أجابتهم “اسألوا العريس، هو من خوّلت له حق الاختيار.. هو الحبيب الذي سيرى حلة فساتيني بعد الوصال”..
حار الأبناء.. فحجوا إلى بيت العريس في غربته، وقطعوا البحار والجبال والوديان.. أوصلوا له رسالة تضمّ لائحة جهاز عروسه “نداء الروح” فأجاب:
“كم عشت أسأل،
متى ألقاها، ومتى يحين الوصال؟!
أحنّ إلى دفئ جدران بيتها،
لا شيء يبدو في السماء أمامي،
غير ظلم أولياء أمرها لي…
عشت أصرخ بينهم، وأنادي نداء روحي،
أبني قصورا من تلال محبة،
أهفو لأرض،
لا تستبيح كرامتي، ولا تساوم فرحتي،
أشتاق لأطفال تركتُهم يتراقصون،
يمرحون في فناء بيتي،
كقطر الندى مع الصباح النادي،
أهفو لرؤيتهم وهم يمتطون جياد الخدمة،
وينيرون أضواء فرحة الأعياد…
اشتقت يومًا أن أعود إلى مقهى حيّي،
الذي غاب عني وغبت عنه، زمن البعاد..
تمضى بي الأحزان مع نسيم عطر فنجان قهوتي،
وتزورني دوما، بلا ميعادِ..
غاب أصدقائي وشيوخي عن عيوني بعدما،
ضاق الزمان بعزتي ونضالي..
أحببتها (نداء الروح)، حتى الثمالة بينما،
أراد الحساد قهر صباها الفتان..
لا تسألوني عن دموع “نداء الروح”،
لا تسألوني عن حزنها، في زمن استبعادي..
تتلاطم أمواج الحنين فوق رأسي،
والبحر لم يرحم براءة حبّي وحنيني..
وقفت لحبّي الرياح كما تقف للصخور العتاد،
رفعت أكفّ الضراعة لخالقي،
نمت على الدعاء في الأفق،
ودعاء أمّي ماء زهر يروي عطشي..
حلمت بثياب أمّي تغطّيني،
ليلة وداع أحباب بلا ميعاد..
استيقظت فجرا لأوصي أحبّتي،
برغبتي في لمس رداء ثوب أمّي الأبيض،
أعانقه بوجد، وأتنسم رضى قبلة القدمين،
وأشكو لها أحزاني..
أمي، حبيبة قلبي الصقيع، جمد أصابعي،
تزاحم البرد والحر على جسدي،
حتى كادت المنية تلاحقني..
أمي، الشوق يبكي، والحنين ينادي،
ما بين عمر، فررت منه هاربا،
وحكاية، لم يزهو بها أولادي من صلْبي…
تعلمين أنّني لم -ولن- أسعى يومًا وراء مالٍ ولا جاه،
فما عساي أجيب لحْظة، دعاني أبناء حيّي وعشيرتي؟
سكن الوجود ستة وستون عاما مع نبض القلوب،
تناثرت حولي مرايا الحبّ والميلادِ،
على امتداد المحيط، حتى بكى الوادي،
وتعالت أصوات أسراب طير عصافيري،
وبدت لي “نداء الروح” في كل نجم يضيئ حلمي..
عذرا حبيبتي “نداء الروح”،
فقد آثرتك مرة أخرى على نفسي”…
* * *
آه كم هو صعب التحرق شوقا للمحبوب؟! وكم هو قهر وعذاب بعد دعوة الوصال؟! كم هو عسير، على العريس أن ينسحب بلغة المسكوت المنكوي قهرا من بيت عروسه، بعدما غلقت الأبواب وقالت “هيت لك”؟! كم من الصلوات يحتاج المتنسّك ليستخير ربّه في أمر العودة لأحضانها بعدما كاد يهمّ بها وتهمّ به؟
يتألم الحبيب مرارة الفراق كل ثانية، ولحظة وساعة ويوم وشهر وسنة.. فلا يجد طريقا أقرب إلى التحرّق بصمت الناسكين.. تحن له بعد حين من الزمن، فتدعوه رفقة وليّ أمرها، تتوسله للعودة.. فيأبى إلا أن يزداد تمسكا بها، وحبا لأطلال ديارها.. يعتذر مرة أخرى عن شوق حضنها، ويوصي جيرانه هناك أن يحملوه -بعد عمر طويل- إلى حضن ترابها، ويمددوه تحت قدم أمّه التي اختارتها عروسة له، لينال من لطائف نعم بنانها…
* * *
كنت أحاول فهم معاني التضحية الحقيقة، وأنا أسرد مع نفسي حكاية عاشق ولهانٍ أحب عروسه “نداء الروح”، لدرجة حرمان نفسه من متعة اللقاء بها، خوفا عليها من الأيادي المتربصة…
إن المحبة الحقيقية تنسي الحبيب مشاعره الذاتية وأنانيته، لتنتظم مراتب الصبر في سلّم الارتقاء، نحو مدارج السالكين.. فتعود إلى أرض اللقاء بسلامة الروح من الذاتية، وتسلم بكل خشوع مشاعرها الرهيفة في طبق مزين بأزهار الياسمين، للمحبوبة (الأرض والوطن)..
خصال هذا العريس ذكّرتني بخصال العرسان المغاربة… جدي المجاهد طلحة الدريج الذي افتدى بماله وأولاده تحرير أرض سبتة من الغزاة بداية القرن السابع، وأبي أحمد بن المانوزي من قبيلة آوالا بتافراوت الذي ضحى بعروسه بنت المجاهد طلحة الدريج وجعلها تحمل السلاح معه ليلة عرسه فداءا لمحبوبته “نداء الروح” (أرض وطنه المغرب)..
* * *
لم أنتبه لشرودي الذهني إلا ساعة دق زياد نافذة الحافلة ليودّعني، ويكمل دور خدمة الخدمة في تداول الأسرة.. ينزل مع الأولاد لرعايتهم في البيت، وتستلم أم سداد قيادة المركبة النورانية نحو وجهة جديدة.
تغريدة طائر الفجر في حقول الكلمات
في الطريق السيار كنت أقاوم تمايل رأسي من فرط التعب، وأحاول تجديد نشاطي بالحوار، والسؤال:
– هل نحن متّجهون في طريقنا لنزل باران؟
أم سداد:
– لا أستاذتي، نحن على موعد مع بيت طالبات ينتظرن مجيئنا للعشاء، وسيسعدن كثيرا بزيارتك لهن..
أتابع:
– أهو قريب من باران؟
أم سداد:
– ليس بعيدا منها.
يا سلام أردد مع نفسي، هؤلاء الناس لا يتعبون، ولا يكلون، ولا يتهاونون.. من أين لهم بكلّ هذه الطاقة الروحية؟ من أين يستمدون صلابة قدراتهم الذاتية؟!
كنت أسأل أم سداد، عن سر هذا التحمل في العطاء، أهو دور الإيمان في تربية أبناء الخدمة على الإحسان، أم هو الإخلاص؟ ذلك الخيط الرفيع المتسع الآفاق، الممتد النور.. يسري في دم وتيرة إرادة خلايا النحل الملكية، وينبض في عروق حياتهم، لتنبع إرادات شبابية عظيمة، تتسم بعمق الأستاذ محمد فتح الله كولن، ورحاب السَّرهِنْدي، وحماس وعشق مولانا جلال الدين الرومي، وصلابة رسوخ إيمان بديع الزمان النورسي.. ونأتي نحن أبناء طارق بن زياد، ويوسف بن تاشفين من رباط الفتح، شهداء على نفحات روح أنسام الجودي في إنسان زمن القرن الواحد والعشرين…
وصلنا إلى مقربة موقف بيت الطالبات.. بالباب وجدنا أمامنا جمعًا من السيدات الأنيقات بقدهن الممشوق، ولباسهن الأنيق، يقفن للترحيب، وبصوت جماعي يرددن تحية السلام:
– هُوشْ كَالْدِينِيز مريم أَبْلاَ…
دخلت البهو، فاستغربت رقي آثاث هذا البيت.. زرابي فخمة، صالونات فاخرة ممتدة بألوان زاهية، لوحات فنية راقية، مطعم مجهز بأرقى التجهيزات، ذكرني بمطعم جامعة لاوفان لانوف البلجيكية، قاعة مسرح ضخمة، تضم 1000 مقعد للطلاّب، الغرف ممتدة على طول ممر واسع، يزينه سجاد أحمر بزخرفة عثمانية، تخصص في مقدمته خمس غرف مجهزة بصالونات وأسرة، خاصة باستضافة الزوار من أهل الطالبات، مفارش أسرة وستائر غرف البنات وردية اللون.. أمرّ عليهن، أحيّيهن، وأستغرب تهافتهن على تقبيل يدي، وأنا أخطفها في خفة واستحياء، وبحرج شديد أضع يدي فوق صدري، وأردد:
– أستغفر الله، أستغفر الله.. الله يرضى عليكن ويحميكن…
منكر في عُرف جيلنا… عرف في ثقافة غيرنا!
استوقفني تقبيل الطالبات لأيدي الأستاذة.. الأمر الذي شاهدته بين طلاّبنا الإندونيسيين والماليزيين والأتراك بالمغرب، وعاينت عرفه في بلدان آسيا وماليزيا وتركيا لمّا زرتها، وجدت أن حبّ أهل إندونيسيا للمغاربة، كحبّ الأتراك الذي حكا لي عنه جدّي ذات يوم.. فحبهم للعلماء يدفعم الى التسابق تباعا لنيل شرف وبركة تقبيل أيديهم.
ظننت أن الأمر خاصّ بكبار السنّ، لكن السنة الماضية كنت في زيارة لتوقيع شراكة علمية بين جامعتي وجامعة الشافعية بـ”جاكارتا”، فأبت رئيسة الجامعة توتي علوية شريفة، إلا أن تنال هذه الشراكة، شرف بركة التوقيع بإحدى المساجد الضخمة التي بنتها حديثا على نفقتها، وآوت في البيوت المحيطة به مئات من أطفال يتامى كارثة التسونامي الإندونيسية.
كان موعد التوقيع يوم 19 يوليوز 2011، تحرّكت من موقع إقامتي ببيت السفير الإندونيسي بالمغرب توساري ويجايا، وحرمه التي لاقت ربها بداية السنة الماضية بأرض المغرب، المرحومة مخصوصة ويجاياتي.. المسافة غير بعيدة عن بيت السفير، لكن هناك في جاكارتا عاصمة العشرين مليون، تقتضي منا الحبو بالسيارة لأكثر من ساعتين.
دخلت المسجد، ففوجئت بالمئات من النساء، يجلسن متربعات، فوق زرابي المسجد الحمراء، لباسهن أخضر موحد، حجابهن أبيض مزركش بحبات حرير وردية، جو الاحتفال بهيج، لدرجة توقعت أنه عرس سيقام في فضاء المسجد الجديد.. الحلويات الإندونيسة المحشوة بالرز الملون، تطوف بها بنات ممشوقات القدّ، كأنهن فراشات يترقصن فوق أزهار الربيع.. أخذتُ حصتي من الحلوى والعصير والفواكه الشرق آسيوية المميزة في طبق صغير، تربّعت على سجاد أصفر وضع خصوصا للضيوف، أنتظر بدء مراسيم هذا الاحتفال الذي لم أجد عنوانا له.. فتوقيع الشراكة العلمية بين جامعتين، يقتضي جمعًا من عشرة أنفار أو يزيد، لكن هؤلاء النسوة مئات ومئات.
كان السفيرالإندونيسي بسوريا يجلس بجانبي، فبدأ يحدثني بالعربية:
– مرحبا بك يا مريم.
فأجبته بما عرفت من لغته:
– “تريماكاسي بو”.. ومعناها “شكرا سيدي”.
بعد هنيهة أومأ لي بإشارة الصعود للمنصة لإلقاء كلمة للضيوف. صعدت المنبر والجموع تصفق. أنا من فوق منبر المنصة مازلت أرد التحية بابتسامتي، وأهندس رسم خطوط أفكاري. بدأت بالتحية، وانطلقت في الحديث عن جدّي ابن بطّوطة الطنجاوي، من جهة عروبة والدتي التطوانية، وعن أجدادي الإمام الصنهاجي، والإمام الجزولي من جهة والدي الأمازيغي.. فوجدت أن الناس تعشقهم وتعيش معهم يوميًّا في تلك البلاد..
يذكرون ابن بطّوطة المغربي الذي جاءهم بالإسلام لسوماطرا.. ويحفظون قصيدة الإمام الجزولي عن ظهر قلب.. ويثنون خيرا على الإمام الصنهاجي الذي علّمهم بآجروميته حروف تلاوة كتاب الله…
أنهيت محاضرتي على هتاف التصفيق والتكبير.. أردت النزول من المنصة فوجدت نفسي أمام صفوف طويلة عريضة تتشابك حدودها وزاوية المسجد.. النساء يقفن تباعا للتبرك بالسلام على صاحبة المحاضرة. توقعته سلاما في الوجه، فإذا بي أفاجأ بأن أغلبهن ترغبن في تقبيل يدي!
يا الله، أنا في موقف لا أحسد عليه.. العرق يتصبب من جبيبني، والصفوف ممتلئة.. أنا لست بالشيخة العالمة التي تستحق هذا التبجيل.. أنا فقط “أستاذة مريم” طالبة علم من أهل المغرب…
اعتذرت لهن، وأصررتُ على وضع يدي فوق صدري. قليل من تفهمن شدة حرجي، وكثير كن يجذبن كفة راحة يدي بقوة، وهن يسألنني دعاء التبرك بشرف حب أحفاد أبطال التوحيد الذين جاءوهم من أرض المغرب بالخير العميم.
عدت من إندونيسا إلى المغرب.. بعد مرور شهرين أو أزيد، دعيت لإلقاء محاضرة للطلبة الإندونيسيين في المغرب.. قاعة الاستقبال مزينة بأعلام أندونيسا والمغرب. جلستُ مع ضيوف المؤتمر، فطاف بنا جمع من الطلاب، وكعادتهم في الاصطفاف نحو وجهة المعلم، بدأت مراسيم التحية كما شهدتها في إندونيسا.. تحرجت ومن معي من الأساتذة، وبين شد وجذب حاولنا تفادي الحرج.
في اليوم الموالي، وضع طالب إندونيسي صورته على حائطه في الفيس بوك، وهو يحاول التسليم عليّ بتقبيل يدي… فوجدت تعليقًا من أحد طلابي المغاربة يقول:
– ما هذا؟!
وهذا من حقه.. فجيلنا لم يتعوّد تقبيل الأيادي، لا يد الأستاذ، ولا يد الوالدين، ولا كبار السن في العائلة، ولا الشيخ في الحي، ولا الأم التي تقف طول اليوم، في خدمته، ألخ…
فرددت عليه قائلة:
– هذا يا بني، منكر في عُرفك، عُرفٌ في ثقافة غيرك، من أهل إندونيسا وماليزيا وتركيا.. مرتبة الأستاذ والوالدين عندهم واحدة، الطالب ينحني لتقبيل أيدي أستاذه في حياته، ويترحم عليه كما علّمه صغيرا في مماته.. كذلك الابن يقبّل يد والديه كما تعبوا عليه صغيرا، ويرحمهما في كبرهما، فيخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة كما ربّياه صغيرا.. يا بني العزيز، يا من علقتَ باستنكارك هذا العرف!..
سألت يوما الشيخ ميمون الزبير، كبير هيئة العلماء بإندونيسيا، وكنت قد التقيته في مؤتمر مسلمات نهضة العلماء بلامبونج، عن سر حسن سلوك وأخلاق الإندونيسيين، فأجابني:
– يامريم المغرب، ربّ المشرقين والمغربين، أنزل لنا سورة القلم، وأمرنا بالقراءة والتعلم، فكيف لنا أن نتعلم بدون معلّم؟! يا مريم، لولا المعلم، لما استطعنا رفع القلم، لما أحسنّا استعماله على الورق.. لولا المعلم، لما تعلمنا أصل الحروف ومعانيها التي أبحرتنا لعوالم المعرفة.. لولا المعلم لما خرجنا من كهوف الجهل إلى سموّ نور المعرفة… ثقافتنا الإندونسية في مبدإ القيم مبنية على محبّة الله، الوالدين، المعلم، الوطن…
تذكرتُ ساعتها، ثقافتنا المغربية في التنشئة الأسرية التي كانت ذات يوم تحتفي بالمعلم، أمّا اليوم فقد أصبح التلميذ أستاذا والأستاذ تلميذا…
بالله عليكم أبناء قومي، لا تقبّلوا أيدي أساتذتكم رجاء، لا تفعلوا.. ولكن احترموهم، أحبوهم، أكرموهم، صلوا رحمهم… فوالله لن تحركوا مخزون طاقاتهم المعرفي والروحي إلا بتحريك أسرار حنان البنوة، ودفء المحبة في قلوبهم…
اللهم ارحم من علّمنا، حتى لو كان ذات يوم قاسيا معنا.. ارحمه رحمة من عندك تهدي بها قلبه في الدنيا، وتنوّر بها قبره في الآخرة…
الأم… مدرسة في التربية
ذات يوم كنت رفقة أمي، حيث اصطحبتها لزيارة بيت خالي. في طريق عودتنا التقينا بمعلّمتي، فسلّمتْ عليها بنفس طريقة سلام أمي.. كانت أمي تبتسم وهي تسأل معلّمتي عن أحوالها، وتنظر في اتجاهي بعيون توعد، أردتُ أن أمسك يدها، فجرّتها بطريقة خفيفة نحو حقيبتها، ساعتها علمتُ أن العقاب سيأتيني بعد حين.
أمي لم تضربني أبدا، لكن نظرة عيونها وحكمة تغيير لهجة خطابها كانت أشدّ وقعا على نفسي من الضرب.. تعاقبني أمي بالتأنيب تارة، بالتوجيه تارة أخرى، وبهجر الكلام في أقصى المراتب.
في ذلك اليوم، لم يخب حدسي، فقد حصلت على عقاب أقصى المراتب، هجران الكلام لمدة أسبوع كامل.. أسبوع من الترصد والترقب والاعتذار، وتقبيل الرأس والأيدي بلا جدوى.. وفي يوم جمعة فكّ الله ضيقتي وفتح علي بقصيدة المنفرجة…
أخيرا نطق لسان أمي، حضنتني، وقالت:
– صغيرتي مريم، لن يرضى عليك قلبي أبدا ما حييت، مادام في قلبك ذرة من الكبر. أجيبيني بالله عليك، كيف تترفعين على معلّمتك، وتعطيها يدك ندّا بند، بلا تواضع ولا حياء؟!.
أخفض رأسي قليلا، وأنا أتمتم:
– لكن اسمحي لي أمي، أغلب التلاميذ لا يقبّلون يدها، لم عليّ فعل ذلك؟!.
أمي الحاجة ربيعة:
– التواضع صغيرتي، هو احترام الناس بما يليق بإنسانيتهم ومعاملتهم بمقامهم. بالتواضع نتربّى، وبالتواضع نتعلم.. أنت يا مريم ابنة بيت علم وجهاد ومجاهدة، وقد علّمتك سابقا أن معاني المجاهدة تتلخص في مجاهدة النفس من الغرور والترفع عن أصحاب الفضل عليك.. نسجد لخالقنا حمدا وشكرا على نعمه، ونقبّل أيادي أجدادنا احتراما لقدرهم.. نقبل أيادي آبائنا وأمهاتنا إكراما لفضلهم علينا.. ونقبّل أيادي أساتذتنا وشيوخنا الذين علّمونا، اعتبارا لجميل شموع ضوء المعرفة التي أناروا بها طرق جهلنا.
تتابع أمي:
– هذه المعلمة التي ترفّعتِ عن احترامها بما يليق بمقامها بنيّتي، هي أمك الثانية التي سهرت على تعليمك لساعات وأيام، بل لسنوات. فكيف تخجلين من تقبيل يدها؟! اليوم تتنكرين لفضلها، وغدا إن تركتكِ بلا تربية تتنكرين لفضلي، فتترفّعين عن تقبيل يدي!
أبكي وأنا أردد:
– معذرة أمي فقد أخطأت. أعدك بحبّ العلماء قدر محبتي للعلم، وأعدك أن أحترم أساتذتي طول حياتي، عسى أن يفتح الله عليّ فتوح العارفين بالعلم والمعرفة.
* * *
الطالبات التركيات يحطن بي، وأنا أتذكر كلام أمي، وأربطه بموقف طالب درسته بالجامعة.. وذات يوم التقينا بالصدفة، فقال:
– أنت مريم؟
بكل لطف أجبته:
– نعم بنيّ، أنا الأستاذة مريم، وقد درّستك مادة الحوار لسنتين متتابعتين، فهل تظن أنك استفدتَ من دروسي؟
قال:
– طبعًا، استفدتُ كثيرا.
أجبته:
– أحقًّا استفدتَ، وأنت تناديني كصديقة، أو كابنة الجيران؟
قال:
– عفوًا أستاذتي عفوا، فحبك من حب أمي، ولكن هذا نتاج سلوك تعودناه في المجتمع.. عفوا أستاذتي العزيزة، فأنا لم أتعلّم دروس احترام الأستاذة.
كنت أبتسم وأنا أودّعه، وأردد مع نفسي في صمت:
– لا عليك بنيّ، فالخطأ ليس خطأك، وإنما خطأ بعض الأمهات اللواتي يحرصن على إهانة الأستاذ، يرمونهم باللعن مئة مرة لو بلغَتْهم شكاية عتاب من أبنائهم!.
مدرسة الفتح التركية، ذكّرتني بمدرسة عبد السلام المغربية
عدتُ لذكرياتي، والوعد الذي قطعته مع أمّي بعدم التكبر، وحب أهل العلم والفقراء.. فوقفت عند محطة تخرجي، حيث كان موعدي مع حفل بالجامعة.. قبله بيومين استأذنتُ أمّي في دعوة ضيوف لتناول الغداء، احتفاءا بتخرجي، وحصولي على درجة الماجستير في العقائد والأديان المقارنة.
وافقت أمي، وبدأت مراسيم تجهيز وليمة الضيافة.. أعدت أمي أطباقا وألوانا من المشاوي والسلطات والبسطيلاّ والطاجين المغربي باللوز والبرقوق.. سمك محشي بالشعرية الصينية والمشروم والجمبري.. فواكه من كل الأصناف.. حلويات كعب الغزال.. والمحنشا المحشية باللوز والعسل، الطابع المعسل التطواني.. كل شيء أصبح جاهزا لاستقبال الضيوف..
لبس والدي جلبابه المغربي الأنيق، وطربوشه الأحمر، وبلغته الصفراء مزهريات الصالون زينت بباقة من ورود تطوانية. حان موعد الغداء.. وصلت البيت صحبة ضيوفي، وجدت الكل ينتظر على باب مدخل الصالون:
– مرحبًا مرحبًا، تفضلوا… أهلاً وسهلاً…
فإذا بالضيف رجل واحد.. الكلّ يعرفه، وبصوت واحد:
– عمي عبد السلام!.
أمي:
– مرحبا مرحبا بك سيد عبد السلام.
دخل عمي عبد السلام صالة الضيوف، رافقه أبي وأخي، بينما دعتني أمّي للحاق بها في المطبخ. لم تكن عيونها مترصدة كما أعرفها في شراسة غضبتها، ولكن بهدوء يشوبه القليل من التوتر، أخرجت صينية البسطيلاّ من الفرن، وهي تقول لي:
– مريم ابنتي، ليس عيبا أن تستضيفي عمك عبد السلام، فهذا بيت الزاوية والإكرام. لكن لِم لم تُوجّهي الدعوة لضيوف آخرين؟ فالأكل ما شاء الله كثير!.
قلت:
– معذرة أمي، لو سمحت لي هكذا أحببتُ، أن أجمل فرحة عيد نجاحي. اعذريني أمي، فقد نذرت أن يكون عمي عبد السلام ضيف شرف حفلة تخرجي. ربما كانت مفأجاة لك ولأبي، لكن دعوني أخبركم عن سر أحوالي مع عمي عبد السلام.. عمي عبد السلام الذي أكرمني بالدعاء طوال سنوات طفولتي، إلى أن كبرت وصرت اليوم أحمل شهادة الماجستير.. عمي عبد السلام الذي جاد لسانه بالتضرع والدعاء لي بالنجاح كلما رآني.. عمي عبد السلام -يا أمي- لم يذق طعم البسطيلاّ (الأكلة المغربية الشهيرة) وهي كاملة، لم يملأ عينيه بجمال حجمها الحقيقي، لم ينعم برؤية صحن مملوء باللحم والبرقوق المجفف، واللوز المقلي، لم يقدم على شرفه صحن بسطيلة كاملة، غير مهروسة ولا مقطوعة، لم يتذوق لذة سمك الباجو الرفيع المحشي بشعرية صينية ومشروم وسمك جمبري، لم يسعد في حياته كلها بتقديمه للجلوس فوق سفرة مزينة بألوان المفارش الرباطية المطرزة، لم توضع فوق حجره مناديل مطرزة بطرز فاسي أنيق، لم يأكل بالشوكة والملعقة الذهبية، لم يشرف بكرم ضيافة فاخرة تكون باسمه.. أما الضيوف الذين ترغبين حضورهم، فقد سئموا من الدعوات بكروط رسمية… أما عمّي عبد السلام، فلم يحْظ -ولو لمرة واحدة- بحسن كرم الضيافة، ننعم عليه بصحن من بقايا بسطيلة، ولحم أعد لأصحاب الدعوات الرسمية.. عفوا أمي، عفوا أبي، معذرة إن كنتُ استدعيتُه اليوم ليكون سيد هذه الضيافة…
كان الكلّ متأثرا بكلامي الذي نطقتُ به من وراء حجاب.. بينما كان عمّي عبد السلام يتربع في بهجة عارمة، في زاوية الصالون المغربي المفروش بالتفريشة التطوانية.. يجلس بسرواله العربي القصير، المرقّع بألوان داكنة.. ويتربع في بهجة عيد، تشده ألوان الشوك والملاعق الذهبية.. يسرح منديله البنفسجي استعدادًا لبدء مراسيم احتفال أعدت على شرفه، ومع ذلك شفتاه مشغولة بالاستغفار كما عهدته…
أكيد كلهم يعرفون مَن هو ضيف الشرف، لكنكم لا تعرفونه أعزّائي… دعوني أحكي لكم حكاية عمّي عبد السلام ألف رحمة ونور عليه. كان المرحوم عمّي عبد السلام رجلا فقيرا، يسعى لقوت يومه، يجلس في زاوية أمام مدرستي الابتدائية، المجاورة لثانويتي.. وضع كامل أسهم استثماراته في قفة حجمها لا يوازي حجم دلو صغير، رأسمالها كيلو من الحمص، ونصف كيلو من الفول السوداني.. يوزع حبات سلته الصغيرة بالتقسيط، حسب طلبية الأطفال، من درهم لثلاث دراهم. صيفه كخريفه، وشتاؤه كربيعه، تشهد عدد حبات الحمص على عدد أذكار تسبيحاته. لسانه لا يفتر عن ذكر الله بالاستغفار..
ترى لملمة رشفة لسانه بأنين اسم الجلالة، “الله، الله”.. حتى في لحظة تزاحم صفوف زبائنه من أطفال المدرسة، يزن الحمص بميزان كأسه الصغير، ويلفه في حشوته الورقية، ولكن أبدًا لا يفتر عن الاستمتاع بنشوة عطر التسابيح… منذ صغري وأنا أمرّ عليه في طريقي للمدرسة، أقف للشراء منه، أحاول إشراكه مرات في وجبتي التي تعدها لي أمي، فيقول:
– ابنتي، لا تحرجيني بكرمك، فأنا عاهدت نفسي على صيام الاثنين والخميس إلى أن ألقى ربي، وأرجو أن يتقبل مني…
تطوان، مدينة معروفة برياح الشركي الشديدة، خاصة في فصل الشتاء.. الزاوية التي يجلس فيها معرضة لتيارات شركية قوية، ومع ذلك لا يغيرها.. ترى الرياح تهب في وجهه، وهو مرابط في مكانه، لا يتحرك، لا يتململ، وكأن المكان أصبح دكانا يحمل عقود ملكيته في جيبه.
مرت سنوات وسنوات، كبرتُ وانتقلت إلى الإعدادية، ثم الثانوية، ثم الجامعة.. وعمي عبد السلام كما هو، لا يتغير في سلوكه، لا يتبدل من موقعه، لسانه لا يفترعن الذكر، قلبه مشبع بحبّ الرحمن، قناعته تملأ خزائن أرصدة ربانية، لا تضاهيها أرصدة الناهبين السارقين، لحقه وحق المساكين من الفقراء أمثاله…
أحببت هذا الرجل العجوز حب طفلة لجدّها. كنت أسعى للشراء منه، والتنعم بفيض روحه النقية، وسماحة وجهه البشوش.. دعاؤه كان بلسما لهموم أحلام طفولتي الصغيرة، وكما أن مكانه لا يتغير، فكذلك هو دعاؤه لا يتغير.. كلما طلبت منه الدعاء، يرفع يديه المشبعتين بأسرار نعيم الحمد والشكر لله ويقول:
– بنيتي مريم.. جعل الله القرآن مؤنسًا لك في ظلم الليالي، وحابسا لأقدامك عن نقلها إلى المعاصي، ومخرسا للسانك عن الخوض في الباطل، وزاجرا لجوارحك عن اجتياز السيّئات.. شرح اللهُ به صدرك، ويسّر به أمرك، ووهب لك به الصبر الجميل عند حلول الرزايا..
ثم يختم دعاءه بالصلاة على النبي.. وبلهجة دارجة تطوانية يقول:
– الله ينجيك من الأعداء د الوقت…
رحمك الله يا عمي عبد السلام.. كم كانت بصمة محبّتك وقناعتك ودعائك لطلاب العلم نورًا نهتدي به في زمنٍ تحوّلت فيه القناعات، وتغيّرت فيه أقنعة الوجوه.. تغيرت ألوان العيون، تبدلت أحوال القلوب، فصرنا نسمع بمن يحفظ القرآن، ولا يحافظ عليه!..
أَبْلاَهات الخدمة أمهات بأسماء مختلفة
كنت أترحم على رجل القناعة، معلمي في مدرسة الحياة.. المدرسة التي تخرج منها أبطال وفرسان التوحيد، مدرسة عبد السلام المغربية…
بينما أعادني صوت بنات مدرسة الفتح التركية وهنّ يركضن بخفة نحو قاعة اللقاء، كأنهن فراشات يترقصن فوق أزهار بساتين الربيع.. جنسياتهن مختلفة: إفريقية، آسيوية، أوروبية.. تتناغم موسيقى ألسنة أرواحهن مع أبجدية اللغة العربية، لغة القرآن.
انتابني ذهول من حسن تلاوة وتجويد فتاة بلْقانية، غاية في الحسن والجمال. سبحان من أبدع مفاتن سحر جمالها، وزين بالإيمان حسن صوتها.. كانت نبرات مخارج حروفها العربية تصل مباشرة لتلامس شغاف قلوبنا.
بعد تلاوتها، تطوعت فتاة كازاخستانية بعيونها المميزة، لتنشد لي أنشودة المنشد يوسف سامي: “يا الله، يا الله، يا رب العالمين” التي اختارتها عنوانا للترحاب بنا.. كنت أشاركهن جميعا في سانفونية نوطات موسيقية “بلقانية، روسية، إفريقية، أوروبية”.
وإذا بطالبة مغربية تقترب مني وتسألني باللهجة الدارجة المغربية:
– من أي مدينة أنت أستاذة مريم؟
أجبتها بعدما أنهيت أنشودة بهجة عيدهن:
– أنا من تطوان، وأسكن في الرباط.
قالت:
– مرحبا بك، أنا حسنى، من مكناس.. درست في مدارس الفاتح هناك، وجئتُ لأتابع دراستي في التسيير الإداري هنا في إسطنبول.
سألتها:
– ما الجديد الذي أخذته من تجربة مدارس الفتح بالمغرب؟
حسنى:
– المزاوجة بين التعليم والتربية محور وصلب العملية التعليمية.
تجيبني وهي تتمتم باللغة التركية مع إحدى الطالبات. استغربتُ.. “حسنى” وصلت إسطنبول من شهرين فقط، وبدأت تحاور وتتواصل بالتركية! فسبحان من أحيا اللسان المغربي، وفطره على سرعة إتقان نطق اللغات واللهجات، وإنا لذلك من الشاكرين…
التربية، وأنين صوت الفيس بوك
كنتُ أحاول فهم سر انسجام “حسنى” مع الأبلهات والطالبات وأنا أسألها:
– كيف تقضين يومك هنا؟ أأنت مرتاحة مع هذا التنوع داخل المدرسة؟
حسنى:
– بالطبع مرتاحة، لأن التعايش -أستاذتي- طبع المغاربة، ورثوه من أجدادهم الأوائل.. تعرفت هنا على طالبة فرنسية مسيحية، جاءت تدرس معنا.
أقول:
– غير مسلمة تدرس وتقيم مجّانا في مدارس الفتح؟!
حسنى:
– نعم أستاذتي، تتوقعين أن كل من يقطن في بيت الطالبات مسلمات؟!
أرد:
– نعم.
حسنى:
– أنا أيضا توقعتُ ذلك قبل مجيئي، ولكن عندما وصلت وجدت مسلمات وغير مسلمات.. فهناك مسيحيات من جورجيا وفرنسا والبلقان وإندونيسيا، بل حتى من الهندوسيات من إندونيسيا وماليزيا.. وكلهن ينسجمن في نظام الصحبة بتلقي التربية الروحية والأدبية والعلمية، بغضّ النظر عن عقيدتهن وجنسياتهن أو أعراقهن.. هنا لا أحد يسأل عن الانتماء، فشعار الصحبة في نظام الخدمة الإنساني هو احترام إنسانية الإنسان وإسعادها بالمعرفة والتربية الروحية. هذا الإسعاد الروحي هو من يجعلهن يتسابقن على الدخول في الإسلام..
أسألها:
– وكيف يتم التوافق بينكن، وتنظيم برامج أوقاتكن؟
حسنى:
– هناك توزيع لأدوار الأَبْلاَهات، فكل خمسة طالبات تتابعهن أَبْلاَ متولية بالعلم أو بالدعم المادي، وهي تتصدر منزلة الأم الحقيقية، تراعي حاجياتنا، وتصطحبنا لشراء أغراضنا من السوق، وتوجهنا بالتربية ومعالجة مشاكلنا بصحبتها رفقة عائلتها أسبوعيا للمطاعم والنزهات…
تتابع حسنى:
– النظام هنا أستاذة يختلف عما كنت أتوقع. دعيني أخبرك، فأنت بمثابة أمي في الغربة.
أحضنها وأدعوها لمتابعة الحديث:
– تابعي “حسنى” فأنا حقًّا بمثابة أمك هنا.
حسنى تتأوه ثم تضيف:
– حملت معي جهاز الكمبيوتر المحمول، وتوقعت أنني سأستعمله في البحث العلمي، وسأسهر به إلى غاية متأخرة من الليل، أتسامر مع صديقاتي وعائلتي في المغرب.. ولكن الأَبْلاَ المشرفة أخبرتني بأن هذا غير مسموح!. عند وصولي حددت لي الأَبْلاَ موعدا لنزول بهو قاعة الإنترنت، وذلك من الساعة السادسة إلى التاسعة مساء، من أجل البحث وتحضير الدروس.. لكن بعد التاسعة، يجب إخلاء القاعة، ويمنع علينا استعمال الوايفي، كما أن الغرف غير مزودة بنظام الوايفي.
أعقب:
– طيب لماذا هذا المنع؟ أكيد وراءه سبب وجيه..
حسنى:
– نعم حاولت الاستفسار عن السبب، وأنا أؤكد لها حقنا في الاستمتاع بالوقت الضائع قبل النوم بالتواصل الاجتماعي الفيسبوكي مع الأهل والأصدقاء، فأجابتني: “اسمعيني جيدا ابنتي حسنى، نحن نعتمد في منهجنا، على ركيزة التربية ثم التربية ثم التربية.. إن لم تستثمروا أوقاتكم في هذا السن بالمعرفة والاطلاع والقراءة ثم القراءة ثم القراءة، فمتى ستملئن خزانات معارفكن؟! كيف لفتاة شابة في مقتبل سن العمر مثلك حسنى، أن تترك طريق العلم والمعارف العقلية والروحية، وتفتح باب عقلها وروحها للتسامر في الفيس بوك مع رفيقاتها لساعات وساعات متأخرة من الليل؟! الوقت -يا بنيتي حسنى- كالسيف، إن لم تقطعيه قطَعك.. كذلك هو العقل، إن لم تسقيه في هذا السن بالمعارف والعلوم، فإنه سيصمت إلى الأبد.. وكذلك هي الروح، إن لم تنعشيها بموسيقى أنوار العبادات التي تسحرها دائما، وتلهمها العشق والوجد، فإن نبضها سيسكت إلى الأبد”.
ذكرتني نصيحة الأَبْلاَ لـ”حسنى” بأبيات ابن مداد الناعبي في تحصيل العلم.. فارتأيت تهدئة روع حسنى وإسماعها فقرات من معانيها المرتقية بالإنسان:
العلم كنز لمن أزرى به المال
وحسن حال لمن ساءت به الحال
ما أشبه العالم المرضي سيرته
بالنهر يجري وباقي الناس أوشال
فكن بعلمك عمالا تزد شرفا
لا خير في العلم إن خانته أعمال
ولا تدل به في الناس مفتخرا
مباهيا أن شؤم العلم إدلال
ولا تكن طمعا فيهم، وكن
ورعا عنهم فإن هدايا الناس أثقال
وإن أتاك أخ للعلم مقتبسا
فلا يكن بك إعراض وإملال
العلم أوله مرّ وآخره عذْب
الشراب وصافي الماء سلسال
العلم لا يهتدي للنفع حامله
حتى يساعده قول وأفعال
العلم لا يحتويه غير مصطبر
قد ساعدته على التبكير اصال
مشمر لوذعي عاقل قطن له
إلى شرفات العلم أرقال
لا يعدل العلم شيء عنده أبدا
كل الذخائر لا أهل ولا مال
كنت أبتسم لحسنى وأنا أحضنها، مودعة إياها وكافة بنات النزل، وأنا أهمس في أذنها قائلة:
– اعلمي بنيتي حسنى أن نجاح المخرج التعليمي مرتبط بتقنيات توظيف المنهاج التربوي.. ومشكلتنا أننا ما زلنا نعاني من شبه قطيعة بين المنهاج التعليمي والبعد القيمي في التنشئة الأسرية والدينية والاجتماعية…
باران… مرقد المشاعر الملتهبة
تركتُ حسنى تُفكّر فيما قلت لها وانطلقتُ بجسد متعب وروح لا عياء تشتكي منه أبدا، ومن نزل بيت الطالبات إلى حديقة مدخل نزل باران الغيث، باران معاني المعنى.. كانت فاطمة وكأنها تشتمّ رائحة أنفاسي من قبل وصولي حي العمرانية، فتهب مسرعة نحو باب المدخل، وترتمي كالطفلة ببراءتها العفوية في أحضاني وهي تردد:
– مرحبا أستاذة مريم، مرحبا.. اشتقتُ لك…
أحضنها بشوق نابع فعلا من صدق مشاعر رقيقة.. هذه الفتاة الربانية الروح المرهفة الإحساس والمشاعر، طفلتي الصغيرة التي كانت تزفني كل مساء بزغاريد روحية وتوصلني إلى غرفتي بنغمات أنفاسها الزكية…
في المصعد:
– إذن يا فاطمة نور، نحو الطابق الخامس؟!
– تمام تمام، “إِيفِيتْ” أستاذة، نحو الطابق الخامس.
يا سلام، وأخيرا وصلنا إلى مختبر تنقية الروح من صدإ النفس الأمارة بالسوء.. وصلتُ إلى غرفتي، حيث سر توحد الروح، وتدحرج اللاتوازن في حفرة الضمير.
كانت الليالي تمر عبر ساعات من جلسات استشفائية لثنائية العقل والروح.. تصارع الأفكار المتعلقة بوعود الأمل الكاذب وتوجهها نحو إرادة الفعل، لبناء عالم الأفكار الممتدة إلى أرض الواقع.. كنت أحاول النوم وأنا أترجم آمالي بأحلام تغني لنا أشعار الغزل المستقبلية…
* * *
في منامي، رأيت وجه الشيخة رقية التي جلستُ بجانبها ذات ليلة قدر في رحاب بيت الله الحرام.. تصلي بجانبي المغرب في مسجد أبي أيوب الأنصاري.. بعد التحية والدعاء، أمسكتْ الشيخة رقية بيدي، وهي تقول:
– سبحان الذي جمعنا منذ عشر سنوات في بيت الله الحرام، وأراد لنا الجمع اليوم بمسجد أبي أيوب الأنصاري!.
حضنتني بحضن أهل المحبّة، وهي تردد:
– لم ولن أنساك سيدتي مريم، كنتِ معلّمة لي ومصححة لمسار أحكامي بعد جهل وغرور أعمى بصيرتي وأنا السيدة المتعلمة… أمسكتُ بأناملها الناعمتين، وأنا أردد في منامي:
– أستغفر الله عزيزتي، فالله أمَرنا أن نتعلم بالقلم والقراءة، ما لم نعلم. وأنت لم تدرسي تاريخ المغاربة ولا تاريخ جهاد علمائه ونسائه، وإنما استأثرت الفرجة وسماع أحاديث القيل والقال من التائهين في دروب الهوى واللذات!.
كانت الشيخة رقية تحكي لي عن أحوالها وأخبار بناتها، بينما كنتُ أتذكر في منامي ليلة القدر التي قضيتها برفقتها في عمرة كانت هدية من والدي جزاه الله خيرا، بمناسبة حصولي على شهادة الدراسات العليا.. كنت أطير كالفراشة في اتجاه بيت الله الحرام، لحضور كل الصلوات.. فلا وقت لي أضيّعه في المحلاّت التجارية، وقد أوصيت جميع أهل بيتي بأن لايلزمونني بالهدايا، فأنا جئت متعبّدة لا متسوّقة ولا مفاصلة في أسعار الأثواب!.
في ليلة القدر حدث أن استدعى والدي ضيوفا للعشاء في مطعم فندق أجياد الذي كنّا نقيم به.. استحييتُ من ضيوف والدي، وصبرت إلى أن أتممتُ حساء شوربتي، والله شاهد على أنني لم أتذوق طعهما أبدا.. فالمغرم لا يطيب خاطره بشوربة، والقلب يتفطر حرقةً وشوقا للقاء الحبيب..
هكذا كانت أحوالي تلك الليلة مع بيت الله الحرام.. استأذنتُ الضيوف بكل لطف، وانطلقت كالسهام.. خرجتُ من شارع أجياد، فإذا بي أرى الجموع من المصلين وقد افترشوا في الشارع الرئيسي المطلّ على مستشفى أجياد.. يا إلهي.. اصفرّ وجهي، وتصبب العرق من جبيني.. واحسرتاه من حضور ليلة قدر في رحاب الحرم!. أين أنا من الحرم؟! قد تكون هذه أول وآخر عمرة في حياتي. ربي، إلهي، وسيدي، ورجائي.. كم من الدعاء أجبت لي في رحاب بيتك الحرام، فلا تخيّب أملي في الصلاة قرب الملتزم بالمسجد الحرام!. ربي وخالقي، جبرت كسري، واستجبتَ دعائي يوم دخلت الكعبة، فعثرتني أخت من أهل المكان، لأنني كنت أرتدي جلبابا مغربيا، حالت بيني وبين فرحة اللقاء الأول بالكعبة الشريفة.. ما عساي أرد عليها، ولا مجال للجدال في هذا المقام.. سجدتُ لك خالقي ومولاي، وشكوت لك حرقتي، ودعوت بتلطيف قلوب أهل المقام علي… فما كان إلا أن رفعت جبهتي فوجدت حاجتي مقضية، ودعائي مستجاب… سخرت لي يا كريم لطف نساء من أقوام وأجناس لا أعرفها، كلما دخلت الحرم، نادينني وفرشن لي سجادة للصلاة بجوارهن.. واليوم يا سيدي يوم الدعاء والابتهال، كيف أقضيه في شارع أجياد؟!
كالبرق مرت سيارة سوداء فاخرة، وخرجت منها نسوة منقبات، فرميت حجابي الأسود نقابا على وجهي، وانسقت وراءهن كالغزال يسبق الريح، خوفا من بطش الأسد.. النساء اللواتي يفتحن الطريق نجديات، عليهن إمارة الوشم النجدي، وكأنهن حارسات لأميرات، يفتحن الطريق بمناكبهن الصغيرة، لكنها ثنائية الدفع.. وأخيرا بعد شد وجذب وصلت إلى قلب الحرم المكي.. يا الله، ما أكرم جودك وألطفك بي!. وجدت سجادا أحمر محجوزا بأعمدة صغيرة مذهبة.. فوقه أباريق مذهبة من الشاي العربي، وصحن كبير مزين بثمار العجوة والسكري.. دخلت النساء ودخلت معهن، جلست إلى جوار الشيخة رقية، فإذا بالحارسة النجدية تنتبه لي وتجرني من قفاي كنعجة صغيرة وهي تصرخ في وجهي:
– قومي، قومي، فيزي، قومي…
هكذا كان صوت الحارسات النجديات مرعب يهددني بالانصراف من فضاء زربية الشيخات في الحرم.. ما كدت أعدل اعوجاج عبايتي التي شدتها الحارسة الغليظة الشديدة، حتى نطق صوت سخّره الله لي بفضل دعائي الأول، إنه صوت الشيخة رقية، وهي تأمرها بتركي وشأني، بل تدعوها لمرافقتي وإحضاري للجلوس بجانبها.. سلمتُ عليها بكل أدب، وشكرتها. ناولتني كأسًا صغيرًا من الشاي العربي المعطّر بنكهة الهيل.. أخذت منها الكأس المزركش بصدف أحمر، وأنا أنظر إلى جموع من النساء يحمن ويطفن حولها، وفي أيديهن رسائل ملفوفة.. علمتُ أن السيدة من ذوات المقام الرفيع في البلد الحرام.. بدأت صلاة التراويح، بدأ معها انسياب روحي في شلالات منهمرة من الدموع.. ألوذ بحمى لطف اللطيف، ومسامحته وعفوه، وأرجوه أن يقبلني عبدة ذليلة على بابه.. فأنا العبدة المقصّرة المقرّة بذنوبها.. بضاعتي متواضعة، وما لي إلا الوقوف على أعتاب باب رحمات لطفه وجوده الواسع.
توقف الإمام لاستراحة قصيرة، يمنحنا فيها فرصة شرب قطرة ماء، والتأهب لدعاء ختم ليلة القدر، فإذا بالشيخة رقية تسألني:
– أنت من لبنان؟
قلت:
– لا..
الشيخة فاطمة:
-إذن أنت إما من سوريا أو من الأردن..
قلت:
– لا سيدتي، أنا من المغرب…
الشيخة رقية:
– لا تقولي أنك مغربية، فليس في المغرب نساء شابات في عمرك، يخشعن كما رأيتك تخشعين في صلاتك ودعائك!.
فقلت:
– لماذا؟!
فأجابت بكل ثقة في النفس:
– هكذا سمعت، “المغربيات، أكثرهن عاهرات”!.
كبّر الإمام فقمت للصلاة، خشعت أكثر من هول ما سمعت، وظننت أنّ قيامتي قد قامت.. “إلهي وسيدي ومولاي.. أين أنت يا حفيدة المجاهدين على ثغور المغرب الأقصى مما تسمعينه في الحرم؟! أين أنت يا سليلة الصحابي عبادة بن الصامت قاضي فلسطين مما تسمعينه من أذى في أرض أجدادك؟!”.
أتممت صلاتي ودعائي بالتضرع باسم الله الأعظم، ثم صليتُ على الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. فرجعت لجليستي الشيخة رقية.. وقلت لها:
– الآن وقد حصحص الحق، دعيني أجيبك على سؤالك، فأنتِ سألت وأفرطت في الجواب! دعيني أقول لك سيدتي.. الحمد لله أنك ابنة هذه الأرض الطاهرة، فبناتكم طاهرات عفيفات قانتات تقيات صالحات.. ولكن ألا يوجد في بيتك مكان لرمي النفايات؟
قالت:
– بلى..
قلت:
– ألا يوجد في الحرم المكي مكان تجمع فيه نفايات كل المعتمرين؟
قالت:
– بلى..
قلت:
– لماذا لا تجلسين بجوار النفايات إذن؟!
قالت:
– لا أفهم مرادك..
قلت:
– المولى U قال في كتابه الحكيم ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾(النُّور:26).. فالأرض طيبة، لكن أهل الخبث من أرضكم الطاهرة قد يجتمعون في زبالة النفايات مع أهل الخبث من أرضنا الطيبة.. ورائحة الخبث -كما تعلمين- كريهة، لا يستحملها المتطهرون.. فلا تصلنا، ولا نصل إليها. دعيني أقول لك سيدتي بأن مَن أخبرك عن الخبث فهو خبيث، يحلو له الجلوس والطواف حوله أينما حل وارتحل.. المغرب سيدتي من أعرق بلدان الدنيا علما وشرفا وعزة وسؤددا.. ناضلت نساؤه جنبا إلى جنب مع المجاهدين في طرد العدوان الصليبي ثم العدوان الاستعماري، وزعت نساؤه المؤونة والسلاح والمنشورات، حبسن ورملن ويتمت أولادهن، وأمي واحدة من تلك المناضلات.. أحرارا عاشوا في الماضي، وإلى اليوم ما زلن أحرارا. تعالي إلى أرض الشرفاء لتشاهدي بنفسك نضال النساء المغربيات الأحرار في البوادي والمصانع والحقول، وحمل السلع الثقيلة على ظهورهن في معابر الحدود.. نساء فاتنات الجمال يشتغلن في الحمامات، ينظفن أجساد السيدات من الأوساخ، مقابل دراهم معدودة، يدخلنها مساء لقمة عيش لأطفالهن!. اسأليني عن العالمات، وعن فاطمة الفهرية مؤسِّسة أول جامعة في التاريخ الإنساني.. اسأليني عن نساء طيارات وعن نساء وصلن بالبحث العلمي إلى القطب المتجمد.. اسأليني عن عالمات يلقين الدرس في حضرة الملك والعلماء.. اسأليني عن القاضيات.. فأنا باحثة، وأقضي أيامي كلها في المكتبات ودور البحث العلمي. أصدقيني القول إن قلت لك -شيخة رقية- بأنني لم أجد هناك أحدا من أبناء جنسك الذين حكوا لك هذا العجب!. استغفري ربك، فالقذف في حق نساء شعب بكامله، نقيصة تُحاسَب عليها الفاضلات من أمثالك. لا تحملي تهمة كبش الفداء مع من حملوه من السفهاء والسفيهات.. لا تكوني -سيدتي- ممّن قال فيهم المولى عز وجل ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(الأَحْزَاب:58). شعوبنا محترمة.. نسعى لبناء جسور الوحدة، في العلم والمعرفة والمنافسات الحضارية.. لا أن نخدم الإعلام الأصفر، المروج للتلسين، على مقدسات شعوبنا في المباريات الكروية، أو في ادعاء الطهر والنقاء، على حساب شعب، نرتاح نفسيا حينما نعلق عليه شماعة فسادنا وانحرافاتنا!.
نظرت إلي الشيخة رقية، وهي تحضنني وتقول:
– بارك الله فيك عزيزتي مريم، فعلا أحرجتني، وجعلتني أستحيي من نفسي… أنا أعجبت بك يا مريم، وأريد أن أدعوك لقضاء العيد معي، فما رأيك؟
قلت لها:
– سيدتي، وددت أن ألبّي طلبك “على رأسي من فوق”، إلا أن والدي الذي ينتظرني في باب مدخل الحرم، يمنعني من تلبية دعوة ضيافة نساء أهل هذا المقام.
احمر وجه الشيخة رقية، وباعتذار شديد كنت أودّعها وأنا أهمس في أذنها:
– أترين وقع الحكم المسبق على أهل جنسك، كيف يحرك بركان قيامتك؟!
قالت:
– والله صدقتِ يا مريم..
ودّعتها، وتمنّيت لقاءها مرة أخرى، ولم يقدّر لي اللقاء، حتى ليلة اليوم في مسجد أيوب الأنصاري بإسطنبول..
الساعة تشير إلى السادسة صباحا، كنت أسبح بحمد ربي على هذه النعم، وأنا أرقد في فراشي الدافئ الذي لحفتني به فاطمة نور، واختارت أن تنسق ألوان روحي الزهرية مع ألوان اللحاف الوردية البرتقالية، وكأنها تمتلك فراسة اقتفاء آثار أعماق نفسي التي تميل إلى الألوان الفاتحة، كما يميل عقلي نحو الأمل المنفتح بألوان الربيع الفتحية الزهرية… كنت أحمد الله تعالى على أمور كثيرة، ونعم حباني بها في هذه الرحلة..
أولها: نعمة التعرف إلى أعماق نساء الخدمة في تركيا.. فهن ياسمين عطر مراعاة النفوس، وأزهار الحب، وبنفسج منابع العنصر النقي.. تهمس محارب تعبدهن أحيانًا في أعماقي همسات أسرار معان روحانية، عميقة وخفية، ينشرح بها صدري.. قوة عزمهن وهمّة نفوسهن قطرات رحمة إلهية، تروي ظمإ بحثي عن حقيقة الأشياء وراء الأستار…
ثانيهما: نعمة التعرف على معنى زيادة المعنى، في زياد الأصل الخدماتي الإيماني وقائد شعار المحبّة والتواضع والجود والعطاء.. زياد، أم سداد، السيدات، أم الجمال، وأم العيش للآخر.. رقة وأصالة وحياء وهمة في العطاء والخدمة..
Leave a Reply