إكسير أَبْلاَ.. عروسة نساء الخدمة

ليالي شتاء إسطنبول عاصفة.. استيقظت ذات صباح ممطر على زقزقة عصفور يحاول اقتحام غرفتي، ويصر على كسر نشوة حلمي، كان مصمما على إيقاظي.. بخفة دق منقاره الصغير على زجاج النافذة.. كنت أتأمل إصراره العجيب على تجاوز هذا الحائل الذي منعه من الدخول. حاولت النهوض، لكن دفء الفراش جعلني أتأخر قليلا مسترخية، أفكر في سر هذه المشاعر التي تفيض بحركات نفحات رحمانية تنفتح بها العقول وتنشرح بها الأرواح… كيف يمكن للمحبة أن تمتد من غرف نزل الطالبات بـ”باران” لتنفذ إلى قلوب من عمروا تلك الغرف من أهل المغرب؟!

برفق أسمع باب الغرفة يفتح وكخفة النعامة.. تدخل عليّ “فاطمة نور”:

– صباح الخير والسرور أَبْلاَ مريم.

– صباح الخير غاليتي نور.. كم الساعة يا نور؟

نور:

– السابعة والربع مريم أَبْلاَ… اليوم عندنا دعوة للفطور في بيت سيدة نساء الخدمة.

مريم:

– ومن تكون “سيدة نساء الخدمة” يا نور؟

نور:

– لا أعرفها شخصيًّا مريم أَبْلاَ، لكن أسمع عنها كثيرا. واليوم سأحظى بلقائها على شرف دعوتك لهذه المائدة.

– ممتاز، “جُوكْ كُوزال”..

أرددها وأنا أبتسم.. وأستعدّ لتحضير نفسي لهذه الدعوة.

في بهو باران كانت سيدتان مبتسمتان تقفان عند مكتب الاستقبال. عرفت من تلك الابتسامة الدافئة أنهما المتولّيتان برفقتنا إلى بيت الـ”أَبْلاَ إكسير”. ركبنا سيارة السيدة نوردة، وهي أكثر سيدات الخدمة حكمة ووقارا وعمقا وترتيبا للأفكار…

كنت أسأل فاطمة نور، أن تترجم لي نص الحوار الذي يدور بيني وبين نوردة أَبْلاَ.. نوردة:

– مريم أَبْلاَ، اليوم ستفطرين فطورًا بلديًّا، صحّيّ مائة بالمائة، طبيعي يعني… والأجمل أن الأيادي التي أعدّته، لسيّدة قلْبها معلّق بالله تعالى.. صلاحها وكرمها معروف بين نساء الخدمة، لها من الفيوضات ما سيسعدك سماعه… “إكسير أَبْلاَ” هي روح يقظة تجاه مغريات هوى النفس والمال، هي من تملك الفقراء عقود ورسومات لأراضي شاسعة من زرع العلم والمعرفة، ولا تملك لنفسها شيئا.. تسقي حدائق من أجود الثمار، ولا تشتهي نفسها قطف حباتها أثناء مواسم جنْي الثمار… أردتُ أن أعرّفك عليها مريم أَبْلاَ، حتى ترين أن النساء أنواع، كما هم الرجال أنواع. وهذه السيدة التي اقتربنا من بيتها قد تفنّنت في تجديد مسار حياتها الروحية والقلبية باستمرار، وجعلت رابطة المحبّة بأبعادها المختلفة دستورا للحياة…

المسافة التي قطعناها طويلة، والبيوت متواضعة، لكنّك تحس أن روح المحبة تسري بين أهل هذه المناطق الشعبية في إسطنبول.. كل شارع يحكي قصصا متنوعة عن روح التعايش والتلاحم بين الجيران.. كل بيت تعلو سقف سطحه مدفئة تقليدية تربطه بفرن المطبخ الصغير، ورائحة الخبز التركي الطازج بنكهة الزعتر تعبق من الدخان الممتد نحو السماء.. البرد شديد، ومع ذلك يحافظ الناس في تركيا على تقاليد ترك الحذاء جنب باب البيوت.

انعرجت سيارة نوردة متوجّهة نحو باب حديدي. أمام مدخل الباب تقف إحدى الأبلهات المتوردة الوجنتين، تلوح بيديها المتجمدتين من قسوة البرد، لتستقبلنا بابتسامة المحبّة وهي تردد:

– مرحبا مرحبا، هُوشْ كَالْدينيز…

– مرحبا..

أرد على تلك السيدة ذات الوجه الملائكي، بخمار أرجواني، أقبّل وجنتيها، لأسمع دقات قلبها عن قرب.. تحيّيني بأنشودة قصيدة مولانا جلال الدين الرومي:

قطفتُ هذا الصباح، من البستان بعضَ الورود،

وخفت أن يكون رآني البستاني.

لكنني سمعته يقول لي في لطف:

“ما قيمة بعض الورود؟ أنا البستان كله أعطيك”

 

حين تحرّك الريح ضفائر شعرك،

يتمنّى لك القمر عمرًا مديدًا في القلوب..

فيا واهب المشورات! ستنسى نفسك ومشوراتك،

إذ تعرف نفسك ما ذاقه قلبي..

 

جاءني الحب، وكالدم يسري في عروقي وجلْدي،

فأفرغني وطفّحني بالحبيب،

وغلّ الحبيب في كل جزيئات جسمي،

“فلم يبق غير الاسم منّي، وكل ما تبقى ليس إلاّ”..

 

كلامنا العذب الذي تبادلناه،

أودعته القبّة الزرقاء في قلبها الخفيّ،

ويومًا ما ستسكبه كالمطر،

وينمو سرّنا في سعة العالم…

 

عندما يُمنى عصرٌ بسود الأيام،

ليس البطل من يبلغ بُعد الصيت،

فإن تطلبِ اللؤلؤ، عليك بالغوص في عمق البحر،

فما على الشاطئ غير الزبد…

 

إن تكن تبحث عن مسكن الروح، فأنت روح،

وإن تكن تفتّش عن قطعة خبز، فأنت الخبز،

وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة، فسوف تفهم:

“أن كل ما تبحث عنه، هو أنت”…

*           *           *

يا الله.. كم هو حاني صوت هذه السيدة في داخل أعماقي. همسها لطيف، وشعورها نازف بدمع جارف.. وجْهها كوكب مضيئ في صورته.. أنفاسها مصدر الحب وزكاة لدفء الحنان.. عيونها تسع بعطفها الكون كله… تضمّني وهي تمسك بيدي، لتوثق عهد ارتقاء وسمو ورفعة سيظل سرا غامضا يكتنز دفء حياتي…

الأَبْلاَ تأخذني عبر حديقة إلى فناء البيت، وإحساس يراودني بأنها تقودني إلى مدرسة قيم العطاء والبذل والإحسان… البيت مكون من حديقة صغيرة، أمرّ على أشجارها وأحيّيها.. الأعشاب الخضراء الزاهية التي تعج بالحيوية تليق أزهارها بروح السيدة إكسير. المدخل يوصل إلى فناء بيت متواضع تعلوه مدفئة انتعشت ذلك الصباح بمختلف ألوان أطباق إكسير أَبْلاَ الشهية… حتى رائحة مربى التين كانت تفوح عطرا من خارج سور الحديقة، تنذرنا بوجبات شهية ستزينها أطباق مائدة إكسير أَبْلاَ المتولية. كنت أمر بسرعة البرق في اتجاه الباب، فدفْء الداخل فعلاً كان يوحي بالانتعاش. وقد يعرف سر هرْولتي مَن ذاق برد صباح إسطنبول القارس في فصل الشتاء…

في لحظة وأنا أستعدّ لنزع حذائي، بيدَين شبه متجمّدتين.. كنت أسأل نفسي في صمت: “ترى يا مريم، أهي متولية من نوع متولية الطلاب التي استضافتني بقصرها على نهر البوسفور؟! هل مواصفات نساء الخدمة واحدة؟ وكيف تتولى إكسير أَبْلاَ بمنح الطلاب وبيتها يدل على عوزها وفقرها؟!”.

أسئلة كانت تدور في ذهني، تركت الإجابة عنها.. بعدما نزعت حذائي وتوجّهت لغرفة صغيرة على اليمين، حيث وجدت مجموعة من السيدات يرحبّن بي:

– مرحبا مرحبا، هُوشْ كَالْدِنيز مريم أَبْلاَ..

وسط الضيفات الشابات بجلبابهن التركي الأنيق تتقدم الأَبْلاَ إكسير نحوي، وتضمّني بحضن محب حضن الأم لابنتها.. تضع لي مخدّة كبيرة في وسط الغرفة لتسند ظهري من البرد الذي قد يلامسني من رطوبة الجدار. وتساعدني في نزْع معطفي المبلّل بقطرات المطر. أمسك أناملها الناعميتين وأردد:

– شكرًا إكسير أَبْلاَ… بيتك دافئ، وقلبك أدفأ…

إكسير أَبْلاَ:

– أستغفر الله يا ابنتي مريم… البيت دافئ بأهل المحبّة الذين قدموا ضيوفًا عليّ من أرض المغرب الحبيب…

تركض الأَبْلاَ إكسير نحو المطبخ، وهي تقول:

– هذا يوم معطر بعطر الياسمين..

وتبتسم…

كنت أتابع ابتسامتها الجميلة التي تخفي تجاعيد وجهها المشرق. سبحان الله، عشت لسنوات بلندن، ولطالما التقيتُ نساءا كبيرات في السن، يضعن آخر أنواع الكريمات وأغلاها لإخفاء رسم التجاعيد على وجوههن، ولكن عندما تأملتُ وجه الأَبْلاَ إكسير وجدتُ جمالاً وبهاءا وإشراقًا لم أجده أبدا في نساء من عمرها بأوربا.

ترى ما السبب؟!

لماذا تشرق وجوه نساء مسنّات رغم عدم اهتمامهن بوضع المساحيق والدهنات الواقية؟ بينما تبهت وتذبل وجوه نساء كرّسن حياتهن وأموالهن للعناية بجمالهن ونظارة بشرتهن؟! كنت أردّ على سؤالي: “إنه الإيمان، اليقين، الثقة بالله والرضا.. فحين تنعكس هذه الصفات على أحوال النساء رغم بلوغهن ما يسمى في عرف المجتمع بسنّ اليأس، توجه سلوكهن، وتمنحهن بعدا روحانيا يرتقين من خلاله إلى ما وراء لغة عبادة الجسد والتخوف من ذبول جماله وشبابه. إن الصدر المتشبع بالزهد، والقلب الممتلئ بنور الإيمان والحمد، يفكر بالسعادة الأبدية، أما السعادة الدنيوية فتبعده عن التقيد بقداسة الجسد لتنطلق به نحو آفاق استنشاق عطر المحبة وتوزيعه في كل مكان.

إن أمثال إكسير أَبْلاَ يعيشون بحكمة:

اَلنَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ

أَنَّ السَّلاَمَةَ فِيهَا تَرْكُ مَا فِيهَا

لاَ دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا

إِلاَّ الَّتِي كانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا

أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا

وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا

كَمْ مِنْ مَدَائِنَ فِي اْلآفَاقِ قَدْ بُنِيَتْ

أَمْسَتْ خَرَابًا وَدَانَ الْمَوْتُ دَانِيهَا

لِكُلِّ نَفْسٍ -وَإِنْ كَانَتْ عَلَى

وَجَلٍ- مِنَ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ تُقَوِّيهَا

فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا، وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا

وَالنَّفْسُ تَنْشُرُهَا، وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا

 

نساء الخدمة في تركيا لا يجلسن كالضيفات، وإنما هن صاحبات البيت كالنساء المغربيات..

على صغر المطبخ تتوجّه أغلب الضيفات للمشاركة في تحضير المائدة.. بينما بقيت السيدة الحكيمة نوردة بجانبي، تشرح لي طقوس الفطور الشتوي الجميل في قرى وبيوت البوادي التركية..

كنت أستمع بشغف لألوان المأكولات الشهية التي تسردها عليّ نوردة هانم، بينما تاهت عيوني بين جمالية غرفة الصالون الصغير لبيت السيدة إكسير.. الستائر متناغمة مع ألوان الكنبة الوردية، والأطباق المعلقة زهرية بورود التوليب العثمانية.. في الركن الأيسر من الغرفة طاولة بسيطة لكنها مغلفة بمفرش مطرز تتماهى ألوانه مع ثوب الكنَبة… فوق المفرش وُضعت زهرية عثمانية قديمة زرقاء اللون، وبجانبها نسخة من المصحف الكريم مغلف بثوب أخضر مطرز بخيوط ذهبية.. ألوان الجدران مائلة إلى اللون الوردي الفاتح، بينما دهنت جدران المدخل بدهان أبيض علقت في كافة زواياه نباتات بلاستيكية خضراء بسيطة الشكل، لكنها أضافت عليه جمالا في غرفة الصالون..

يسخن الخبز، ويغلى ماء الشاي، وتسْلق البطاطا الحلوة فوق نار المدفئة التقليدية الموضوعة في طرف الغرفة. المدفئة في هذا البيت وغيره من بيوت تركيا البسيطة، لم تصمم بالديكور للتدفئة فقط، وإنما للطبخ وشيّ البطاطس والكستناء، وتسخين الرغيف بروائح الزعتر والجبن البلدي الشهي. كنت معجبة جدا بهذا النوع من التدفئة الذي تمنّيت أن يعم في بلدي.. لم أره في المغرب. وسألت عن منطقة صنعه فقالوا لي تركي محض.. تمنيت ساعتها لو صدر لنا المستثمرون الأتراك الآلاف من هذه الأفران التقليدية، لتدفئة بيوت القرى المغربية الباردة الطقس في فصل الشتاء…

– مرحبا مرحبا مريم أَبْلاَ، “هُوشْ كالدينيز”..

تردّد الأَبْلاَ إكسير، وهي تناولني فوطة مبلّلة بماء الورد..

– “هُوش بُلْدُوك” إكسير أَبْلاَ، الله يجزيك بالخير..

إكسير أَبْلاَ:

– مريم، أردتُ أن أحضر لك كل شيء طازج وساخن، لذلك ألتمس العفو منك إن تأخرنا عنك قليلا في الفطور.

أمسك يديها الناعمتين مرة أخرى، وأقول:

– لا عليك سيدتي، بيتك واحة لراحة النفوس.

لا أدري لم كنت أشتاق للمس يديها الناعمتين، وكأن حدسي أخبرني بأسرارهما.

فورا بدأت الصحون توزع على مائدة متوسطة دائرية على الأرض؛ رغيف تركي بالجبن، وآخر بالزعتر، وآخر بالبيض، ومحشي باذنجال بالجوز، وخمسة أنواع جبن بنكهات وبهارات مختلفة، وخمسة أنواع من المربى التقليدي، كل شيء من صنع يديها.. زيتون أسود بحبات كبيرة الحجم وبنكهة الثوم والبهارات التركية، بيض مقلي وآخر مسلوق… المائدة امتلأت، والبطاطس الحلوة مازالت تشوى أمامنا على نار المدفئة الهادئة… يؤنسها إبريق شاي ضخم من طابقين… لون وجنتي توردت وتحول البرد إلى حرارة من شدة البخار النابع من فواهة إبريق الشاي…

أمسك الكاميرا لتسجيل ذاكرة موائد أهل الله وأنا أردد:

– ما شاء الله، يا إكسير أَبْلاَ.. هذا كثير، “شوك شوك كوزال”. أتعبتِ نفسك بتحضير هذه المائدة المتنوعة.

إكسير أَبْلاَ:

– تفضلي مرحبا، اليوم عندي فرحة العيد، أهلا بك..

نوردة أَبْلاَ:

– تعرفين مريم، أن إكسير أَبْلاَ هي سيدة نساء الخدمة، فقد أفنت وقتها وكل تعبها في خدمة أحباب الله من طلاب العلم والمعرفة. هي أقدم نساء الخدمة وأوقرهن وأفقرهن، وأكثرهن إيمانا بأن الفناء في حب الله يكون من خلال الفناء في حب خدمة الإنسان.

كنت أستمتع بنكهات الجبن الطازج المتعدد التوابل، بينما أستمع في هدوء إلى كلام السيدة نوردة وهي تخبرني عن حكاية سيدة نساء الخدمة.أنظر إلى الأَبْلاَ إكسير ووجنتيها تحمر في حياء شديد، وهي تنزل عينيها للأرض وتردد:

– “يُوكْ يُوكْ”، أستغفر الله.. اتركي مريم أَبْلاَ تتناول فطورها.

أكيد هي صفة أهل الحياء ممن لم يتعودْن على الإطراء والمجاملة.. الحياء الفطري الذي ينشأ وينمو بوابل من مطر الإيمان والمعرفة. تبتسم نوردة أَبْلاَ في هدوء وثبات تام لتكمل حديثها، قائلة:

– مريم أَبْلاَ، السيدة إكسير فقيرة، تسعى إلى قوت يومها ببيع بعض الخبز التركي الطازج في الأسواق، مع تطريز مناديل غطاء الرأس للسيدات، وتخرج مباشرة بعد صلاة الفجر، لتجلس في فضاءات أسواق إسطنبول العارية، بين قساوة برد وشدة حر، تتسلل لجسمها العلل الأدواء، تتنزل عليها صواعق الماء والثلج والبرد، يجمد البرد أضلاعها، ويشوي لهيب الحر المتّقد بياض وجهها.. أحيانا تغفو بين النوم واليقظة، بين الجهد والتعب، وتتحمل مخالب البرد وجمر الحر، لتبيع ما نسجته أيديها، وتعود مساء إلى بيتها منهكة برياضتها الروحية. تضع جسدها المنهك فوق سريرها، لترسم معالم مسلك يوم جديد يوقد لهيب روحها المتوهجة نداء الرحمن، فيرتفع رصيدها الإيماني مع مقامات الآذان والتهليل، ويزداد شوقها نحو الخروج لسياحة العاشقين، دون أن تسقط من يدها شمعة النور التي تولت بإضاءتها بعد رحيلها في سماء العلم والمعرفة.. فإكسير هي أَبْلاَ متولية.

أسأل نوردة هانم:

– هل هي متولية بالتعليم، أي تدريس البنات؟

نوردة:

– لا يا مريم أَبْلاَ، هي متولية متصرفة أي كل ما تجمعه من أموال على قلة المورد، تتكفل بالتولي به، والإنفاق على خمسة منح لطلاب أطباء.

هنا تدخّلتْ في حياء شديد السيدةُ إكسير، وبصوت خافت همست في أذن السيدة نوردة، ظننته همسا خفيفا، فإذا به يطول. كنت فقط أنتبه لملامح وجه نوردة تتعجب وهي تردد:

– سبحان الله، سبحان الله..

تتوقف إكسير هانم عن الحديث، ويعقبها صمت السيدة نوردة.. كليهما تمسحان الدموع من أعينهما. توقفت عن شرب الشاي ووضعت كأسي على الطاولة. صمت عمّ الغرفة الدافئة بنور المحبة الرحمانية، أردتُ أن أقطع هذا الصمت بالسؤال، لكن السيدة نوردة فهمت إشارة ملامح وجهي لتبادر بالكلام بعد تنهيدة حمد وشكر لله ختمت بها صمتها.

– مريم هانم، السيدة إكسير كانت تحكي لي قبل قليل عن حكايتها مع أهل الخدمة، فقلبها المتعلق بمجالس الصحبة والهمة، جعل زوجها يستاء من فرط انجذابها نحو فضاءات تلك المجالس الربّانية، نصحها مرارا بالتراجع عن مقامات الإخلاص في خدمة أبناء بلدها، والمساهمة في تنويرهم بالعلوم التي لم تحْظ بها.. كم مرة أعاب عليها كثرة تعلّقها بإنفاق ما تجمعه من مال لتوفير منح الطلاب، كم مرة نصحها بأداء العمرة مرات في السنة تمتّعا عوض تضييع أموالها بالإنفاق على طلابٍ لن يحفظوا لها أبدا هذا الجميل بعد تخرّجهم… نصحها كما نصح أصدقاء قبله هُوجَا أَفَنْدِي المفكّر فتح الله حين قرر تأجير بيوت للطلاب، وصرف منح للدراسة لم يكن يملكها. وكما كانت عزيمة الأستاذ فتح الله قوية في إرادة بناء وعمارة أرض الأناضول بالعلم بالمعرفة بقيم التربية والعطاء، أيضا كانت عزيمة السيدة إكسير محصنة باليقين في مراتب تربية النفس، والإيمان بأن شمس النور ستضيء سماء قرى وبلدان الأناضول بالمدارس وبيوت طلاب العلم والمعرفة. كثيرا ما كانت إكسير تصبر على نقمة زوجها وانتقاداته اللاذعة، وتحتسب أمرها لخالقها، لم تضجر يوما من شدة لومه، ولم تفتن بمفاتن رغباتها الذاتية حتى ولو بإغراء عمرة.

آه يا إكسير كم من أموال تنفق اليوم في فنادق فاخرة تصل لدرجة ثمانية نجوم لأداء العمرة، مرة ومرتين وثلاث في السنة، جميل أن نتقرب لله بأداء مناسك العمرة مرة ومرتين في العمر، ونحن نوازن بفقه أولويات بين رغابتنا الذاتية وبين حق التصرف في أموالنا عدلا لتنوير أبناء المحتاجين بالعلم والمعرفة.

كم من يتيمٍ مشرد لم نبحث عن إيوائه وتعليمه واحتضانه!.. كم من أرملة تجوب الشوارع ضياعا وأطفالها من دون معيل يرحم فلذات أكبادها!.. كم من مريض لم يجد من يدفع له فاتورة دوائه، أو يرحم ضعف مرضه من داء الفقر الكلوي الذي يقضي على حياته بآلام انفجار جسمه!.. كم من أطفال شوارع تائهين لا تغطية صحّية لهم، ولا تعليم ولا مأوى ولا حضن دافئ يحتضنهم!.. كم وكم وكم!..

ونحن ندفع أموالا طائلة للتمتع، ويا لَيته من أجل عمرة تخشع فيها قلوبنا طلبًا لرضاء الله… بل إنه تمتع من نوع آخر في سياحة عوالم التسوق في ديار لندن وباريس ودبي ونيويورك وسنغافورة… كم من دمعة خشوع نزلت لم تحرك فينا شوق الوصال للذة المحبة في الله، ولم تحفزنا على إعطاء حق الله للفقراء والمساكين..

فشتّان بين مظاهر عبادتنا الفردية، ومتطلبات ثلاثية العلاقة مع الله والنفس والمجتمع التي خصنا بها الإسلام.. نعم نبكي ونخشع ونتعبد ونصوم ونقوم ونعتمر، ولكن هذا يدخل في سياق العلاقة مع الله، وتبقى العلاقة مع النفس بترويضها وتوجيهها، نحو العلاقة مع المجتمع مفتقرة إلى هرمية ثلاثية شمولية الموازنة في المبدأ المقاصدي التشريعي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ العرض.

فنحن نحفظ النفس فقط حين نتوجه بالعلاقة الذاتية مع الله دون باقي العلاقات. فأين حق حفظ الدين الذي يضيع بتجاهلنا ترشيد وتوجيه ثلة من أبناء مجتمعنا، ننصحهم عوض الحكم عليهم بالضياع والانحراف، ونسلط عليهم أحكام الجلد بعد الضياع؟! وأين حق النفس التي أمرنا الله بإحيائها حين نترك الفقراء يتضورون جوعا ويموتون بأمراض مستعصية، ونحن نظن أن دعاءنا لهم في المساجد قد يرفع ابتلاءهم؟!.

كم من عقل ضيعناه بالجهل المؤدي للفرفقة والتعصب حينما لم نفتح له آفاقا للتعلم؟ وكم من مال صرفناه في غير موضعه واستثنينا منه محتاجا ومحروما؟ وكم من عرض أهملناه إلى أن بيع في سوق نخاسة الاتجار ببناتنا، حين عرضناهن وأهليهن للفقر والفاقة والحاجة، وحملناهن مصاريف عوائل بأكملها، بتعسيرنا دفع حق النفقة والحضانة حق التعليم والرعاية، حق الوعظ والإرشاد والتوجيه؟!.

آه ثم آه من دموع تسكب حسرة على ذنوب ذاتية اقترفت، ولم تحرك فينا حق ذنوب جماعية اقترفناها نسأل عنها وعن توابعها في أمّتنا الإسلامية؟

إكسير هانم استشعرت هذه الروابط الأخوية في علاقتها بالله، ولم تبخس حق المجتمع وهي تؤدي حق ربها وحق نفسها بالصيام والقيام والتعبد.

نوردة هانم:

– عزيزتي مريم، توفّي زوج إكسير مخلفا في نفس هذه المرأة المطمئن قلبها بذكر الله آلام حرقة فراق لعشرة دامت أكثر من ربع قرن، وظل وفاؤها يصاحب روحها النقية حتى بعد فراقه لسنوات عديدة.. إكسير تذهب لزيارة قبر زوجها، وترسل له الرحمات بتلاوة القرآن يوميا بعد صلاة الفجر، وذات ليلة رأت في منامها، أن أحد الجنود جاء ليخبرها عن مكان زوجها ويأمرها بزيارته، تبعت إكسير بخطوات مهرولة الجندي مقتفية آثار الحبيب الذي صانت حق عشرته، وأكرمته في حياته وبعد مماته، وصل الجندي إلى باحة واسعة محاطة بسياج حديدي يمتد نحو أربعة أمتار في علوه، وأمرها أن تنتظره، غاب عنها قليلا ليعود بالإذن في يده، والإذن عبارة عن مرسوم خط بلغة تقول عنها إكسير، إنها غريبة لا هي تركية ولا عربية ولا أجنبية. استغربت إكسير من هذه الرموز، ولكن لهفتها لرؤية زوجها أعجزتها عن السؤال والتحري عن أمر الرخصة ولم خطت بهذه الرسوم الغير المقروءة.

فالمكان لا يطمئن، والظرف لا يسمح بالاستفسار! المقام جلل، يسمح بالدعاء والتضرع، الانتظار منح السيدة إكسير فرصة إخراج ينابيع وارداتها الربانية فبدأت أنفاسها تتوحد مع نبضات القلب برنة الدعاء والابتهال: “إلهي، لقد تنفست أول ما تنفست بك، ونطقت بك وسمعت بك وأبصرت بك ومشيت بك واهتديت بك، وضللت عندما خرجت عن أمرك.. سألتك يا رب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك.. فها أنا ذا وقد خلعت عن نفسي كل الدعاوي، وتبرأت من كل حوْل وطوْل، ولبست الذل في رحاب قدرتك.. إنك لن تضيعني وأنا عبدتك، وهذا زوجي ورفيق عشرتي.. ربي وخالقي وسيدي ومولاي، ارحم عبدًا ذلّ لربوبيتك، وخشع لجلالك”..

دقات قلبها تتسارع منتظرة إشارة من الجندي الذي أمرها أن تتبع خطاه دون تعقب المكان وإطالة النظر في موقعه، ومن دون تردد. اتبعت إكسير أوامر الجندي، وسارت في خطى ثابتة وراءه، إلى أن وصلا إلى باب حديدي أسود مغلق بخمسة سلاسل، أعطى أحد الجنود من الداخل أمر فتحهما للزائرة.. دقات نبض إكسير تزداد سرعتها.. فتح الباب وعبرت ممرًّا ضيقًا ومظلمًا، بدأ الجندي ينحدر في النزول نحو قبو عميق، آمرا السيدة إكسير بالنزول معه. كل درج بالنسبة لإكسير هانم كان يسوقها نحو قدر مبهم غامضٍ لا تدري مآله ولا مرساه. وبقوة عزم وصبر تتخطى عثرات النزول، لأن الظلام كان يعم أرجاء الممر ويزداد كلما نزلت نحو الأسفل.

وصلت إكسير إلى زنزانة ضيقة مظلمة موحشة، لتجد زوجها مكبّلا من أعلى معصميه ورجليه، بسلاسل حديدية صدئة تكاد تشل حركته، وتقطع أنفاسه، وبمجرد ما رآها، علا صراخه مدويا: “زوجتي أنا هنا منذ تركتك.. حبيبتي، أنا هنا مكبل منذ سنوات.. يا رفيقة عمري، أحتاج إلى مساعدتك، رجاء ارحميني من هذا العذاب، اطلبي منهم أن يخرجوني من هذه الزنزانة المظلمة. فقد نفد صبري ولم أعد أتحمل..”.

تقول إكسير هانم: “صرخت بأعلى صوتي إلى أن أحسستُ بذبحة في حبال صوتي، “أخرِجوا زوجي من هذه الزنزانة، لم يعذب ويسجن في هذا القبو المظلم!؟ فكّوا سلاسل زوجي الآن، فكوها الآن وحالا.. يا الله يا الله برحماتك، أجرنا من عظيم بلائك، وسخّر لنا الطيبين من عبادك. يا الله، اصرف عنا شتات العقل والأمر والتفكير، وأجبر كسرنا، وآمن خوفنا، وأمطرنا بجود لا حدّ له، وفرج لا مدّ له، وخير لا عدّ له.. إلهي وَحدك تَعلم ما فِي القُلوب، وَحدك مَن تعرفُ النيّة الحَسنة، وَحدك مَن تَعرف النيّة السيئة.. فمُنَّ عليّ برحمتك، أبعد عن زوجي كُل شر وسُوء، يا نور السماوات والأرض، لا تدعْ لي في هذه اللحظة همًّا إلا فرّجته.. يا رب فرّج عنه كل ضيق، ولا تحمله ما لايطيق”.

كان زوجي -وأنا أصرخ بالدعاء متضرعة بأعلى صوتي- يبكي ويردّد في خشوع: “اللهم لك داعيًا، ولقسوة قلبي شاكيًا، ومن ذنبي خاشيًا، ولنفسي ظالمًا، وبجرمي عالمًا.. أدعوك دعاءَ من جُمعت عيوبه، وكثُرت ذنوبه، وانقطعت آماله، وبقيت آثامه، وسالت دمعته.. أدعوك دعاء من لا يجد لنفسه غافرًا غيرك، ولا لمأموله من الخيرات معطيًا سواك، ولا لكسره جابرًا إلا أنت يا رب.. اشتدت فاقتي، وضعفت حركتي، وقلّت حيلتي.. ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾”…

وفجأة سمع ضجيج قوي ينزل من الأعلى، وأصوات تنطق بلفظ الجلالة “الله، الله، الله”.. بدأ الصوت يقترب منا، وإذا بأحبابي وأبنائي من طلاب العلم الذين سخّرت مالي لدعمهم بمنح الدراسة، يدخلون بلباس أبيض كالذي يدرسون به في كليات الطب، ويهجمون على الجندي يطالبونه بفكّ أسر زوجي. لم يمتثل لرغبتهم، وأوضح لهم أن وظيفته هي حراسة السجناء لا إطلاق سراحهم، فتوجّهوا نحو زنزانة زوجي وبخفة بالغة كسروا الباب، وفكوا أغلال سلاسله ورفعوه فوق أكتافهم عاليا وهم يكبّرون “الله أكبر، الله أكبر” إلى أن أوصلوه إلى باحة الساحة المضيئة.

كنت أردد في فرحة عارمة وغبطة وسرور تكبيرة النصر “الله أكبر، الله أكبر”، حين سمعت نداء الرحمن يكبر لصلاة الفجر، فتوقفت رؤيتي، وفتحت عيني لأجد العرق يتصبب من أعلى جبيني إلى مخمص قدمي. اللهم يا أرحم الراحمين ارحمنا، وإلى غيرك لا تكلنا، وعن بابك لا تطردنا، ومن نعمائك لا تحرمنا، ومن شرور أنفسنا ومن شرور خلقك سلِّمْنا.. يا فرَجنا إذا انقطعت الأسباب، ويا رجاءنا إذا غُلّقت الأبواب.. اللهم أجعل لنا من كل همّ وغمّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا، وإلى كل خير سبيلا..

يا الله.. هذه صفات مَن عزموا على وقف أنفسهم لخدمة من يعتقدون أن لهم حقًّا عليهم.. إكسير أَبْلاَ صانت قلبها الذي ملئ بحبّ الله عن كل ما سواه، اتخذت خدمة الإنسان والمعرفة طريقا للبقاء في السكينة والاطمئنان، دون التعرض لإغراء جمع المال وضيق القلب الناجم من الإفراط أو التفريط، وهو اتخاذ رضا الحق سبحانه ومحبّته أساسًا، والعيش بحياة تُنسج نسجًا بديعًا على هذين الأساسين.

نعم فهمتُ الآن سر سعادة وابتسامة ثغر “إكسير أَبْلاَ”.. لقد اتخذت لها حبيبا دائمًا لا يفارقها أبدا، إنه حبيب الرحمن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. وبقدر حبّها لله ولرسوله أحبّت المعرفة التي توصل عباد الرحمن إلى سر التفكر والتدبر والتمعن في ملكوت الله وصنعه، لعمارة الإنسان في الأرض.. فهمتُ الآن سر اختلاف شحنة ملامح وجه نساء الرضى والحمد والشكر لربّ الخلق والعباد، مع ملامح وجوه نساء أذبلتهن كثرة الوعود، وأساءهن كذب وغدر الحبيب، وهنا يكمن سر الفرق بين سعادة الحبيب والحبيب، فكما قال مولانا جلال الدين الرومي: “إن قلبًا خاليًا من الحبيب، ومن طلب الحبيب، لا نجاة له من الضيق والقلق.. وإن رأسًا خاليا من حب الحبيب، لا تبحث فيه عن المعنى واللب، لأن ذلك الرأس ليس إلاّ جلدًا”.

الحبيب الذي ملئت به “إكْسير أَبْلاَ” قلبها وفؤادها وعقلها ولبّها، هو الرحمن ، والوصال الذي سعت إليه هو وصال بقاء ضمن الفناء، حيث تشرق الآلام بمتعة اللذة، وينال مراد الوصال بلطائف كؤوس الرضى والارتشاف من عسل جنة الكوثر.

إن منشأ الشوق -كما ذكر الأستاذ محمد فتح الله- هو “المحبة”، ونتيجة المحبة “الشوق”، ودواء القلب المحترق بالشوق “الوصال”، والشوق جناح من نور في هذا الطريق. والعاشق حين بلوغه الوصال يسكن “الشوق”، بينما يزداد “الاشتياق”، ووجدان المشتاق يهتزّ بعد كل حظوة طلبًا للمزيد.. أما الحبيب الذي ملأت به نساء البلدان لبّهن وفؤادهن، هو نابع من حب متقلب الأطوار، معرض للافتراق، غير مضمون تضحياته، فيه آلام تعقب رضى المحبوب وعدم غدره وخيانته.

 

إدريم هانم عروسة حدائق زهور اليتامى

نساء الأناضول ذكرنني بنساء عظيمات في تاريخنا العربي والإسلامي.. ذكرنني بورَع أخت “بشْر الحافي” حين قدمت إلى الإمام أحمد بن حنبل وقالت:

– إنا نغزل على سطوحنا، فتمر بنا مشاعل الظاهرية (عمال الدولة)، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟”..

فقال الإمام أحمد:

– مَن أنتِ عافاك الله تعالى؟

فقالت:

– أخت بشر الحافي..

فبكى أحمد، وقال:

– مِن بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.

تلك هي صفة النساء العظيمات، اللواتي يقدمن كل شيء في سبيل الله، لكسب رضا الله، قبل رضا البشر، يحمدن الله دون انتظار أي حمد أو شكر من البشر.

ذكرتني -يا إكسير أَبْلاَ- بالسيدة إرديم التركية، التي حكت لي حكايتها ذات يوم وأنا في خط طريق رحلتي إلى العاصمة الماليزية كوالالامبور.. وصلتني -يا إكسير- بمن اشتاقت لها روحي الآن حين تذكرتُها، وقد بدأت قصة محبتي لهذه السيدة بسؤال عن هويتي:

– أتركية أنت؟

أجبتها:

– سيدتي أنا مغربية الأصل، أمازيغية العرق، عربية النسب، تركية الهوى والروح…

تبسمت إرديم وهي تمسك برفق يدي وتقول:

– أعرف أعرف.. روحي أخبرتني بأنني سألقاك في هذه الرحلة وقد رأيتك ليلة البارحة في منامي، لذلك تبسمتُ فورًا عند رؤيتك وأنت تسلّمين البطاقة لمضيفة الطائرة…

سبحان من يجمع الأرواح في سماواته، لتتعانق القلوب الطيبة في ساعات معدودة بعذوبة، وسعادة وبهجة لا مثيل لها…

– ما اسمك عزيزتي؟

– مريم، وأنت سيدتي؟

– إرديم، ومعناه بالتركية “حسنة”..

– تشرفتُ بك سيدة إرديم…

– عزيزتي مريم، أنا سيدة أعمال، تجولتُ حول العالم، وسافرت كثيرا، تعرفتُ على أناس من مختلف المذاهب والجنسيات والأديان.. كنت أسمع ترانيم أرواحهم حين تلامس مقاعد الكرسي الذي بجانبي، لتشاركني رحلات السفر في الإنسان، تنشد مقامات تحكي كهوف عوالم تمتزج فيها نشوة الرغبة في الحياة بألم الابتلاءات… أحس يا سيدتي مريم بأن أرواح من سافروا بجانبي، كانت تبحث دوما عن من يحتضنها بحنان وشفقة، عمن يربت على أكتافها بكل محبة، عمن يستجيشها بأشواق المحبة في الحياة بعيدا عن لغة المصلحة والمنفعة… سمعتُ الكثير من دروس الحياة يا عزيزتي. . إن الذي لم يتذوق معاني سمو الروح في الإحساس بآلام الآخرين، إنسان متجرد من المشاعر، خلقنا الله لمواساة بعضنا البعض في هذه الدورة الدنيوية حيث نشترك في الهموم والأفراح، النجاح والفشل، العطاء والتقصي، المحبة والكراهية.. نشترك فيها بلغات مختلفة، وبألوان متشابكة تحتكم لأعراف الشعوب والأمم، ولكن في النهاية يكون مصيرنا واحد: العودة إلى التراب…

كنت أنظر إلى جمال الخالق الذي وهبه لهذه السيدة الخمسينية، وأستشعر أسرار الحكمة تنطق على لسانها:

نغمات بلبل من بعيد آتية،

خزينةً واهنةً واهية…

والزَّهر المختال،

تَهُزُّهُ الأحزان..

وريح الشمال،

ثلجية الهبَّات،

صقيعة اللمسات،

وبالزمْهرير تضرب وجهَ الغريب،

وتعصر الدمع،

وأصوات النحيب…

يا بلبلي!..

هاك قلبي لك وَكْرًا،

وفؤادي لك مأوى..

فرنين صراخك،

في صدري صداه،

وضميري لحزنك سكن…

أنا وأنت ثنائي أحزان،

وثنائي آهات وشهقات…

أعطني باقات آلامك،

وخذ مني حرائق أشجاني،

وانتظر معي شروق الشمس،

وطلوع الفجر…!

على فَنَن الشجر،

الذي لم يلمسه بشَر،

تقضي أيامك،

وتسكب دمعك،

وترسل ألحانك…

ولكن:

أين العين التي تبصر،

والقلب الذي يفهم،

والأذن التي تنصت..؟!

أقطع وصلة هذه الحِكم الربّانية لأتواصل مع سيدة الأعمال الربانية..

– صحيح سيدتي إرديم، حمى الله نفوسنا من علل الخبث والمكر والنفاق والجحود، وسخّرنا في خدمة الناس بالمحبة.. وقد أسرتْني حكمة ذهبية قالها حكيم زمانكم الأستاذ محمد فتح الله كولن: “إن سر الفناء في حب الله، هو الفناء في حب خدمة عباد الله”…

فمن أنا..؟

بك يا ربُّ صرتُ “أنا”…

مولاي أنت،

سواك مولًى لا أبغي!

تولّيتَنِي، ربَّيتَنِي،

رعَيتني، أحيَيتني…

أطعمتَني حلاوة ولايتك،

وسقيتني بَرْدَ معرفتك…

فما أعظمَ ما أكرمتَني،

وما أجلَّ ما جَلَّلتَني من نعمك،

وأسبغت عليَّ مِن كرمك!..

دمعت عيني وأنا أردّد لها في صمت هاته الأبيات التي تسحر عوالم قلوب العاشقين وتأسرهم نحو سموّ معنى المعاني الذي يتشرّبه المتحرقون إلى لذة الوصال..

إرديم:

– مريم، سأحكي لك قصة لطف إلهيّ، تركتْ سر أمانتها في حزمة أنفاسي وأرواحي وعاهدتُ نفسي أن لا أحكيها، ولكنك حرّكت داخلي نشوة سعادة الوصال… أنا -يا مريم تركية- من مدينة بورصا، تشرّبت حب الفقراء واليتامى منذ سن مبكرة، وتعلّقت بحب كل يتيم ويتيمة، أحسن إليهم وأحتضنهم في بيتي، أعيادا ومواسم.. بدأت بالتولّي بأطفال مدينتي، ثم انتقلت إلى يتامى المناطق الأخرى، وبعد مدة تكفّلت بيتيمين من إفريقيا، بدأت أنفق على تعليمهما ورعايتهما وهما طفلان في سن الثانية إلى 12 سنة. وخلال هذه المدة كنت أعيش لذة القرب إلى الله بالقرب من عباده والتفاني في خدمتهم.. لقد تكفّلت بيتامى من حول العالم، من تركيا من أوروبا الشرقية، من دول آسيا ومن إفريقيا، لكن اسمعي -يا مريم- قصتي التي لم أحْك تفاصيلها إلا لمن أحسستُ بنشوة التواصل الروحاني، يشدّني بشوق نحوهم. وقد أُخبرت بانتعاشة هذه النشوة ليلة أمس في منامي، وتيقّنت أنها حاصلة فور رؤيتك وأنت تضعين حقيبتك الصغيرة بجانبي، وتستعدّين للتحليق في سماء ستتعطر بنسيم لقاءنا الرباني مسافة سفرنا هذه الليلة…

مريم:

– نعم سيدتي، كم من الأرواح باعدتها المسافات الجغرافية في الملكوت وقَدّر لها المولى U أن تجتمع في سماء بلدان وجبال وشلالات وهضاب وبحار وجداول وأنهار لا تراها إلا عبر نوافذ الطائرة…

ارديم:

– “إيويت”، -عفوًا- صحيح..

ومعنى “إيويت” بالتركي “صحيح”..

تتابع إرديم:

– كنت ذات مساء في غرفتي، أصلّي المغرب، وبعد صلاتي أحسستُ بألم شديد في رأسي، طلبتُ حبّة مسكّن لآلامي، وكنت يومها مدعوة لحضور مأدبة عشاء لسيدات أعمال ستُقام في فندق جواهر بمدينة إسطنبول.. شربتُ حبّة المسكن وفكرتُ في الاعتذار، أخذت الهاتف وبدأت في الاتصال، وأنا أركب الأرقام أحسستُ بأن حرارة مفرطة مفاجئة تصاحب دماغي، ودوران تحول إلى رؤية نقطة سوداء، تمعنتُ فيها فبدأتْ في الاتّساع… إلى هنا توقّف سجل ذاكرتي مريم، لأخبر بأنني وقعتُ أرضًا بعدها، وثم تحويلي إلى العناية المركّزة في مستشفى “سَمَا” لأمكث فيها ستة أشهر، في حالة غيبوبة تامة. تفاعل الأطباء الأخصائيون مع زوجي وانقطع الرجاء من باب التخصصات الدماغية. توافد الأطباء وتعددت الاستشارات، وأنا كما هي في حالة غيبوبة تامة، شهر ثم شهران ثم ثلاثة أشهر، أخبر الأطباء زوجي بأن حالتي مستعصية، وميئوس منها وأن في بقائي عذاب لي ولعائلتي الواقفة أمامي صباح مساء، دون أن أعلم بوجودهم. فعالمي كان عبارة عن عوالم روحانية، تسبح فيها روحي في أسرار ملكوت الله. دخلتُ في الشهر الخامس، فتغيرت أحوالي، وبدأ الأصدقاء يخففون في زيارتهم لي وحتى العائلة، باستثناء زوجي وأولادي من اليتامى والطلاب الذين يعقدون لي ليالي للقيام والدعاء… بدأ الإنهاك يظهر على جسم زوجي الذي فقد ما يقرب 13 كيلو في هذه المدّة، وفي الشهر السادس قرّر الأطباء وضع حل لمشكلتي، واستدعوا زوجي لموافقتهم القرار، لأن استمراري في هذه الحالة صعب.. فقد انتفخ جسمي وتحوّل إلى زرقة في اللون، وتغيرت ملامح وجهي وكأنني ميّت تتبدل أحواله في القبر..

تذكرت قصيدة الأستاذ وهي تحدثني عن عوالم مغارة كهف سر الحياة:

مثلكم يا فتيان الكهف،

نأتي الكهوف،

ونسكن المغارات…

عندما الدنيا تجافينا،

والنَّاس بقلامهم يرمونا،

ومن “حراء” -يا رسول الله- أُسوةً ومثالاً نتّخذ…

فكم من إيمان في الكهف ينبت،

وكم من إيمان في المغارات يورّق،

وثماره تنضج..

فقبورنا كهوف إيماننا،

إذا حُمَّ القضاء وحان الأجل…

لهذا قد قدِمنا،

ولازدهار استعدادنا للآخرة أتينا..

– نعم سيدتي أنا أتابع معك لقد شوّقتني لسماع تفاصيل نهاية قصة أهل كهفك…

إرديم هانم:

– في اللحظة -يا مريم- التي كان يقرر فيها مصيري، رأيتُ في كهفي المظلم الذي نمتُ فيه ستّة أشهر كجثّة هامدة من دون تقلّب، صبيان إفريقيان يجريان نحوي ويصرخان بأعلى صوتيهما: “أمي، أمي، أمي، استيقظي يا أمي.. فمن أجْلك جئنا من أدغال أفريقيا، نحن أبناؤك.. انظري إلينا، ألم تتذكرينا؟! هيّا انهضي بكل قوة”.. واحد يسحبني من يدي اليسرى، والآخر من يدي اليمنى، والصراخ في أذني “أمي، أمي، انهضي، رجاء لا تتركينا”.. أول مرة أحس بأن رعشة خفيفة هزت عضلة قلبي، تدفّقت معها دماء عروقي، ففتحتُ عيني، لكنني لم أستطع تحريك جسدي الهامد.. في دهشة دخلتْ عليّ الممرضة لتهرْول مسرعة نحو قاعة الأطبّاء وهي تصرخ: “السيدة إرديم عادت للحياة، فتحتْ عينيها”. كنت أكاد أرى الجموع من الأطبّاء يقتحمون غرفتي، لكن صوت أيتامي بإفريقيا كان لا يزال يدوي في همس أذني…

أنا -يا مريم- كنت،

كالسائح الْجَوَّال،

قطعت المفاوز، وجبتُ القفار…

ما كلَّتْ قدماي، ولا تعبتُ ولا مَلَلتُ،

حتى وصلتُ أرض النور…

من حوضه شربتُ،

ماءً سلسبيلاً… لعابر السبيل مبذولاً…

فارتويتُ، والصُّعَدَاءَ تنفستُ…

يا الله، ملكك عظيم، ورحماتك واسعة بعبادك الذين جعلت قلوبهم عارفة بصور لطفك الخفي! كيف استطاعت صاحبة هذا الصوت الخافت، وهذه الربابة المكسورة العاجزة أن تندمج مع النغمات السحرية لتلك الأرواح المشعة نورًا من سالكي الطريق الموصل إليك؟! إلهي نلوذ بحمى لطفك ومسامحتك، وبكرمك الذي وزّعته على جميع خلقك، بقدرتك وحكمتك اللاّنهائية.

مخطئ من يظن أن الفقر هو فقر الجيوب، الفقر هو فقر القلوب… فالجيوب الخاوية قد تمتلئ بالمال ذات يوم، أما القلوب الخاوية فمِن الصعب أن تمتلئ بالمشاعر والأحاسيس… فقلوب بعض أبناء البشر اعتادت الفقر واتّخذته منهج حياة تحيى به وعليه، وتعتبره مصدر قوة وكبرياء، بعدما أوصدت أبوابها أمام العواطف الإنسانية…

فقيرة هي تلك القلوب التي لا تنبض شرايينُها وأوردتها بالحب،

ولا تتفجّر من أعماقها ينابيع العطاء..

ما هي إلا صخور جرداء،

لا تتفجر منها قطرة ماء،

ولا تنبت في زواياها نبتة خضراء..

وإذا ما هطلت عليها أمطار عواطف الآخرين،

سرعان ما تنزلق عنها، لأنها مغلقة من جميع جهاته..

وليس بها منفذٌ يسمح بدخول شيء من المشاعر والأحاسيس إليها، أو الخروج منها..

فقيرة هي تلك القلوب التي تجافي ولا تسامح،

فخلت من الألفة والطمأنينة والمؤانسة،

وما هي إلا حديقة تساقطت أوراق أشجارها،

وذبلت ورودها على أغصانها،

وغادرها شذاها،

فأصبحت خاوية على عروشها…

فالقلوب التي لا تزوّد الآخرين بالحب ولا تتزوّد به،

هي قلوب ميتة وإن كانت تنبض بالحياة…

– هكذا يا مريم هانم، تحرقت أحاسيس شوق الحب والوجد في قلب فتح الله -مَن خطّ لنا منهج الخدمة في بلدي تركيا- أحاسيس استلهمها من شيوخه مولانا جلال الدين الرومي، ومولانا بديع الزمان سعيد النورسي، ليعتصر لنا معاني بعضها بالحبر، وبعضها بالعطر، وبعضها بالقهر قد كتبها، بالدمع قد أغرقها، وبدم شرايينه قد ختمها… سطورها كالورد قد زرعها، كلماتها بالوجد قد رتّبها، كالنور قد نثرها… لأنه بلغة الحب والإخلاص كتبها.. لأنه أحبّنا.. حملها كأمٍّ.. بآلام المخاض ولدها.. في الحب، في الإخلاص، في العطاء بلا أجر، ولا انتظار للشكر يتجسد الإعجاز.. فالحب روح الحياة، وقمة الإرادة والإنجاز.. لا تسأليني مريم، كم عاش من أجلنا، لا من أجله!.. فليس العمر بالأيام، وليس العطاء بالأرقام… فإن كان الحب ذنبه ليلاقى بالجفاء من بعض أهله، فلتشهد الأقلام أنه عشق الليل في حب الله، متوجا بحب العباد… وما أراد من ملذات عيشه سوى تحقيق وهمٍ يحرر خيبة الظلم والانتقام، وعلقت في أحلامه إرادة تحرير الأوهام بالحب بالعشق بالإخلاص، حتى تتجسد الأوهام، وتتحول حقيقة في “مدارس الفاتح” لتمتد نحو ربوع العالم.. هُناك أبواب نور، شعرنا في بلد الفاتح بأنها مُغلقه… وبإيثار أبدال عمروا زمنهم بالبحث عن سعادتنا… انكشفت خيوط الأمل، وبسر حكمة إحياء نبع المعارف.. أضاءت أنوار المدخَل الحَقيقي للبناء الحضاري، تحت قاعدة سطرت بمداد من ذهب مطلعها.. لا توقظوا أوجاعكم بالهزيمة ليلاً.. غلّفوها بالثقة والإرادة في الدعاء لتشفوا منها، وناموا متوكلين.. فكل شمسٍ يومٍ جديد، ستحملُ أشعتها أملا جديدا وفتحا مبينا..

نعم إرديم أَبْلاَ، كل شمس يوم جديد ستحمل أشعة نورانية وفيوضات ربانية، لتعانق نقطة التقاء المد والجزر للعشق والمواجد والانبعاث والانجذاب، والأذواق الروحانية التي تحتضن المكان بالزمان، وتفيض بحركات النفحات الرحمانية التي تنفتح بها العقول، وتنشرح بها الأرواح.

هناك من جسر بوسفورك الآوروآسيوي سيدتي إرديم لتمتدّ إلى نهر بورقراق على ضفتي الرباط وسلا، وتنطلق في فجر يوم آخر من ملتقى المحيط بالبحر الأبيض المتوسط لتمتد غروبا نحو ما وراء المحيط، إلى هناك حيث فوارة الفكر ومنجم العشق والشوق العرفاني المتصل بصفوة الصفوة في حركية الجذب والانجذاب الدائم..

كنت أسأل نفسي في صمت وخشوع عن سر هؤلاء النسوة، ومعدنهن الطيب: “ترى هل كل نساء تركيا بهذه الصفات؟!”..

لقد عايشتُ نساء الخدمة، من مرحلة زيارة التلاميذ في المدارس إلى مرحلة اللقاءات بالأساتذة، والمثقفات، وسيدات الأعمال والعاملات البسيطات، كلهن أبدين رغبة غير عادية في حب الخدمة والتكافل الاجتماعي والعمل بإخلاص لبناء نهضة مجتمعهن… تفاني جد مميز في الخدمة، والمتابعة في تربية أبناء جيلهن، سواء من فلذات أكبادهن أو من أبناء فقراء المجتمع.. أَبْلاَهات الخدمة يحضرن كل مساء لمرافقة أبنائهن من الطلبة والطالبات في الأحياء الجامعية التي يسمّونها “يُورْتْ”.. أبلهات يتولين المدارسة والمطالعة وترشيد القيم، وأخريات أصناف ينفقن على المنح ودعم بيوت الطلاب والطالبات، بأرقى أنواع الأثاث والمفروشات.. سكنتُ في بيت الطالبات، وكنت ألاحظ أن نساء الخدمة يرافقن بناتهن الخمسة أو العشرة بالمصاحبة بالمدارسة بشراء الأغراض التي يحتجنها من محلات التسوق.. كنت أرى -وأنا في طريقي- سيدات مجتمع راقيات يدخلن بيوت الطالبات محملات، بأكلات شهية، وبصناديق متنوعة مليئة بالحلويات، بالملابس، بالكتب، والمشتريات الخاصة بمن تكلفن بهن من الطالبات.. لهفة غير عادية على ترتيب برامج المتابعة العلمية والتربوية للطلاب والطالبات، إنْ في المدارس أو في بيوت السكن، استقبال ورعاية للضيوف والأحباء تترك بصماتها الراقية في نفسية كل من تقرب منهن محبة، حفاوة الترحاب بالاحتضان.. النور يتلألأ مشعّا بإشراقة وجوههن، الابتسامة النقية الصافية لا تفرق محيّاهن.. كم من نساء تجمّلن بوضع زينة الماكياج، لتزهو ابتسامتهن وتنظر في عيون الناس، لكن الوجه المقنع مهما وضع من مساحيق التجميل، لا يمكن أن يلامس خطوط الجذب الروحي العميق لدى الآخرين، لأنه يفتقر للصدق، للنقاء، لصفاء النبع الطبيعي.. فالابتسامة المموهة بالصدق، لا يمكن أبدا أن تصل إلى أعماق الروح، مهما سحرت بجمالها الأنظار.. فكم من ثغر باسم، ينجح ببراعة تمثيل في اقتسام لحظات المتعة الآنية التي تمكّنه من عبور جسر مصالحه، لكن لن تسري أنوار إشراقتها إلى أعماق من بذلوا أرواحهم وزمانهم في هوى المولى، وبأوجاع حبّه تقلبوا…

وفعلا عشت لحظات مع من تبسّموا وأتقنوا خطاب الحب والتقى مع أهل المحبة.. لحظات تقلب فيها هواهم من فرط عطر الود الذي تنسموه، ولكن سرعان ما انجلى نسيم العطر النقي… لأن أرواحهم جبلت على لغة التمثيل والمكر والخداع… لأن عزائمهم شغلتها زينة الدنيا وزخرفها، وشتّان بين من سارت عزائمهم نحو خيام حمى المحبوب، وبين من اختصّوا بالقرب لحظة البحث عن قضاء مصالحهم!..

 

زمن ابتهاج أعياد النساك

في زمن ابتهاج مناسبات أعياد الميلاد، في أماكن مختلفة وبأزمنة متباعدة… كنت هناك في ما رواء المحيط تطل بروحك الفانية في محبة الله على مواليد من أقصى شمال المغرب.. من إزمير إلى تطوان، إلى موقع رباط المجاهد سيدي طلحة الدريج الأنصاري، رفيق دربك ودرب فرسان التوحيد في توحد القبلة.. لتبارك له مولد حفيدته، ولتبعث في مهد روحها أمل حلم عودة الفرسان قبل أن تفتح أعينها على الدنيا، وتكحل مقلتها برؤية فضاءات المحبة وصفاء العشق الإلهي. فحمدًا لله ربي وخالقي ومولاي وسيد نعمتي على كرم جودك وعطفك ولطفك بي.

يا من هو خلق فسوى، وقدر فهدى..

يا من لحق في كل شيء علمه..

يا سرور العارفين، ويا أنيس المريدين،

ويا من بذكره تزهو النفوس وتسعد…

*           *           *

الأستاذ فتح الله كولن من الذين قضوا عمرهم في الإخلاص والوفاء والاهتمام بأبناء الأمة الإسلامية.. لدرجة إيثار مشاعره وعواطفه الإنسانية من أجل إحيائنا… تجاوز طاقته الذاتية التي ينتسب إليها، وحول بإصراره، بصبره، بأناته، ببعد استشراف رؤاه، فضاءاته إلى مركز محوري لطاقة قوة الأجيال الماضية والحاضرة والمستقبلية.. أن يكون كل جهد وهمة، كل قطرة دمعة بعد الآن، شفاء لجروحنا التي بدت مستعصية على الدواء، وضياء للمستقبل الذي يبدو مظلما في عيون البعض من أبناء جيلنا…

تلك هي الحكم والدرر التي ولدت نسيجا مباركا بألوان الغد السعيد، وغزلته بمغازل صوف أفكار الخير والمحبة، ونقشته بنقوش المعرفة.الأبدال في زمن السفر في الأفكار يلقحون النفوس بأمصال الوقاية المستخلصة من مختبرات أرواح الأبطال المتقدة بحماس القلوب والمتجددة بتجدد الزمان والمكان…

من كان يظن أن تغير سلوك منهج التربية والفناء في الخدمة، لتعبر جغرافية الحدود وتتحول بروح متجددة، إلى حال السيولة الإنسانية في البيت والمدرسة والمجتمع والمؤسسات؟!. من كان يتوقع أن تحرر العقول الضيّقة، من قيد تقلبات النزاعات وتلاطمات عواصف الثورات والانقلابات، إلى أمواج صاعدة بالأفكار التنويرية من القاع، أمواج نسجت بتناغم مدّها وجزرها مستلزمات الروح الذاتية، لتلقي بعيدا جفاء زبد الأفكار المتعصبة المتناحرة، وترمي بها بعيدا عن حرمات بحار أمّتها؟!.

فهنيئا لأرض الأناضول بأبنائها الأبرار الذين جابوا حدائق وبساتين أزهار ربيع الفكر والمعرفة وجمال الروح، ووصلوا عند أهل المغرب اليوم وهم يحملون عطر نسائم الخير والفتح والمحبة.. يحملون مشعل هدي نور حضاري أينما حلّوا وارتحلوا… فكم من الضيوف حضروا إلى فاس، وكم من أهل العلم التقوا وتعارفوا.. ولكن مثل أبناء همم الروح والجسد خلقا ورقيا وآدابا وصفاء، سريرة ومحبة، لم نلقى كثيرا..

لأخبركم بأن من سهر على تربيتهم باني مجد الروح ورقيها في مراتب سموّ النساك، هو من سقاهم ورعاهم إلى أن ارتوت أرواحهم بحب ووصال المحبوب.. فأحجموا عن فكّ الاتصال الإلهي بالانفصال الفاني؛ وأبت عيونهم المرتوية بدمع شوق الوصال، أن تفتن بغير جمال تجليات النور الإلهي؛ وتشبّعت قلوبهم العامرة بالإيمان بحب الخالق لا بعشق المخلوق؛ تربّت جنوبهم التي تتجافى عن المضاجع على عطاء الخدمة والسعي والبذل والإيثار، فترفعت عن قداسة الذات وغواية النفس إلى عشق لغة الوصال بالمحبوب الأبدي، بعيدا عن لغة الشهوة وقيد الافتتان بهوى النفس والجسد… ومن أجل ذلك تعانقت أرواحهم والتقت على محبّة الله ورسوله الكريم ، فتسامت أفكارهم وارتقت نحو مدارج السالكين في نسج رؤى المفكّر “فتح الله” المتبحرة في علم الإنسان والكون والملكوت، بعمق منهجه الفكري الاستشرافي، ننسى عقلية التصنيف النوعي ذكورا نحن أم إناثا…

من هناك، من أَدِرْنَة تحرّكت أنفاس متحرقة بشوق حسن رعاية خلايا النحل التي تئز في بساتين خيرات الأناضول العامرة بحب الله.. فأنتجت عسل همم التولي، وجنت أولويات سر المتابعة شهدا في عهدة المؤمنين والمؤمنات النساء أَبْلاَهات التولي، والرجال أبِيهات التولي….

 

تم بتوفيق الله في تطوان المغرب الأقصى

الأربعاء 26 رمضان 1433هـ

15 أوغسطس 2012

مريم آيت أحمد

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.