كلما هممت بإنجاز دراسة عن الأستاذين بديع الزمان النورسي وفتح الله كولن إلا وأجد روح وفكر المرحوم فريد الأنصاري تقدم لي مفاتيح لفهم أعمق لفكرهما باعتبارهما من خدام القرآن الكريم المتوسلين به إلى قراءة مسددة للعالم والحضارة من حولنا.
ولعله بكتابه “مفاتح النور”وروايتيه “آخر الفرسان “و”عودة الفرسان “كان يرشدنا إلى فروسية من لون جديد، هي فروسية الفكر والبناء الحضاري.
وأنا في هذه القراءة سأضيف مفتاحًا آخر من عدة المرحوم فريد الأنصاري مستمدًّا مما يقدمه تبصرة ومنهجًا للقراءة، أما منطلقه فمن القرآن إلى العمران، يشرحه قائلا: “لا نبني بناء، ولا نعمر تعميرًا، إلا على أساس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن القرآن العظيم تصميم رباني راق لبناء فخم، ما كلف الإنسان إلا بإنجازه، على شموليته وامتداده بدءًا بعمران الإنسان، حتى عمران السلطان”. (بلاغ الرسالة القرآنية: من أجل إبصار لآيات الطريق ص16).
كما أسمح لنفسي وفق ضرورات المنهج بأن أقدم قراءة لكتاب “ونحن نقيم صرح الروح” باعتباره مقدمة لكتاب “ونحن نبني حضارتنا”، فقد وجدت فيه تأكيدًا للعلاقة الجدلية بين بناء الروح وبناء الحضارة، كما وجدت تفسيرًا لمعنى وراثة الأرض، وهي نواة مركزية في فكر الأستاذ فتح الله كولن أحسن الإشارة إليها الأستاذ علي جولاق في تقديمه للكتاب قائلا: “إنه مرجع تحت الطلب لا يستغني عنه جيل الإحياء والانبعاث، أو من يسميهم الأستاذ “ورثة الأرض.” (ونحن نقيم صرح الروح ص6).
يعلن الكتاب منذ عنوانه “ونحن نقيم صرح الروح” عن مشروع عمراني عظيم لا يقام على أرض خلاء، وإنما داخل نفس خلاء أو لا تحس بما خصها الله عز وجل به من تكريم، وهيأها له من عمارة جوانية تمكّن صاحبها من وراثة وعمارة الأرض.
لا يغفل الأستاذ كولن أهمية البناء الفني الجمالي للإنسان والمجتمع والأمة والحضارة، فيعالج إشكاليتها ومواصفاتها وفق التصور الإسلامي المنطلق من التوحيد ومن الكلمة المفتاحية لفتح القلوب “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
هو الكتاب/المشروع، كما يقول الأستاذ علي جولاق مقدم الكتاب، “لتعريف وتعليل نهضتنا الإصلاحية التي تقف على أعتابها، نهضة تتحقق في سياق عودة الشعب برمته إلى جذوره الروحية”. وهو بهذه الإشارة يؤكد على الفكرة المركزية التي تهيمن على الكتاب وقد تنسحب على مؤلفاته، فكرة وراثة الأرض كما يصرح بها في أولى مقالات الكتاب “وارثو الأرض “فيقول: “لقد وعد الله بإرث الأرض للصالحين من عباده… وهم ممثلو الروحية المحمدية والأخلاق القرآنية، المنشغلون بالاتحاد والاجتماع، المدركون لأحوال عصرهم، المسلحون بالعلم والفن، المقيمون لميزان الدنيا والعقبى… إنها سنة الله (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:44) سنة ثابتة وشريعة فطرية لن تتغير.” (ونحن نقيم صرح الروح ص14).
سنة التبدل الإيجابي الموصل إلى وراثة الأرض مرتهنة بوعي المجتمعات بهذه السنة أولاً، وبالسعي الجاد في الصالحات ثانيًا، وبالالتفات إلى “الشريعة الفطرية” ثالثًا، حتى لا تتحول نحو سنة التبدل السلبي فتتعرض إلى التبدل داخليا في حياتها المعنوية، فيكون مصيرها إلى الخذلان غدًا، مهما كانت ظاهرة اليوم” (نفسه ص14)، ويصبح تبدلاً سلبيًّا ناتجًا عمَّا ارتكبناه من خطأ “من أعظم ما لا يغفره التاريخ: “حين ضحينا بالدين في سبيل الدنيا، طمعًا في عمارة دنيانا وتبنينا فهمًا يرجح الدنيا على الدين … فوجدنا أنفسنا مذاك أسرى في شباك “الممتنعات”… وضاع الدين وفرَّت الدنيا” (نفسه ص15).
نعود مرة أخرى إلى المرحوم الأنصاري مستعينين بواسطته المنهجية، إذ فيها توضيح لفكر الأستاذ كولن والفكر الرسالي عمومًا، وتفهيم لمعنى الحياة، فها هنا لمفهوم (الحياة) حقيقتان: حقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الأخرى. فأما الحياة الدنيا فأهم خصائصها الجوهرية أنها فانية، فهي محكوم عليها بـ “الفناء”، ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي “الحياة الدنيا”، فهي حياة، نعم، لكنها إلى حين، إنها (دنيا): أي قريبة الأجل، لا خالدة، ولا حتى ممتدة امتدادًا… طوليًّا حقيقيًّا، بالنسبة إلى امتداد “الحياة الآخرة” (بلاغ الرسالة القرآنية ص96/97).
هكذا نفهم حقيقة الحياة فلا نضحي بالحياة الآخرة في سبيل الحياة الدنيا، بل نسعى للخروج من سني التيه الطويلة “لإثبات أننا وارثو الأرض الحقيقيون بفهم الإسلام، مصدرنا الكافي لانبعاثنا المادي والمعنوي، كما هو في أصله، ثم بالانخراط في جموع عباد الله الصالحين” (ونحن نقيم صرح الروح ص17).
لا يغادر الأستاذ فتح الله كولن فكرة وراثة الأرض دون أن يدقق في الأوصاف الثمانية لهؤلاء الورثة وهي: الإيمان الكامل، والعشق، والتوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور، وإعادة النظر في ملاحظاته عن الكائنات والإنسان والحياة، وحرية التفكير وتوقير حرية التفكير، وحلول الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محل الدهاء، والفكر الرياضي، والجمع بين الفكر الصوفي والبحث العلمي وأخيرا الفكر الفني.
وحتى نطمئن إلى واقعية الرؤية التي يصدر عنها الأستاذ كولن في فكرة وراثة الأرض وأوصاف هؤلاء الورثة يذكر منهم نماذج معاصرة وفقت في الجمع بين إنسان الفكر والعمل الحركي: أحمد حلمي فِيلِيبَهْ لي، ومصطفى صبري، وفريد قام، ومحمد حمدي يازر، وبديع الزمان سعيد النورسي، وسليمان أفندي، ومحمد عاكف، ونجيب فاضل.
إنهم ورثة الأرض الموكول إليهم أمر الإصلاح والبناء، وهم بمصطلحٍ مرادفٍ مفردٍ “مهندس الفكر والروح، المنفتح على الوجود بقلبه، العامر عقله بشعور العلم، المقتدر على تجديد ذاته كرة أخرى” (نفسه ص83).
وهم مهندسو الروح الربانيون حسب المصطلح الآخر المرادف لورثة الأرض، هكذا تتناسل المصطلحات المرشدة إلى “أهمية القيم الأخلاقية والأعماق الداخلية للإنسان وأهمية الحياة القلبية والروحية لكن لا شبهة أن السبيل للوصول إلى الإنسانية الحقيقية هو هذه القيم” (نفسه ص85).
هؤلاء هم قادة عقبان جيش النور المنوط بهم مستقبل بلادنا والبلاد المرتبطة بشؤوننا، وهم الممثلون السامقون للعلم والفضيلة والأخلاق في أيامنا، والذين نذر أكثرهم نفسه للتربية والتعليم” (نفسه ص107).
فإذا تساءلنا عن ورثة الأرض هؤلاء، المُعْلُون من شأن عمارة الأرواح، ما هي فلسفتهم في الحياة التي يصدرون عنها؟ فإن الأستاذ فتح الله كولن يخصص مقالة بكاملها لشرح وبيان فلسفة هؤلاء “الذين يعيشون حياتهم مفكرين… ويحتسبون الزمن الحاضر مركزًا استراتيجيًّا لتنفيذ أفكارهم المثالية، ومصنعًا لإنتاج التقنيات الضرورية في هذا السبيل … فهم من وجهة يطالعون الوجود والزمان في هذا المستوى، ومن وجهة أخرى ينسلخون من ضيق الحياة الجسمانية وينفسحون في رحاب عالم الفكر” (نفسه ص121).
إنها فلسفة شمولية رحيبة إذ “الحال أن نظام الفكر وفلسفة الحياة عندنا رحيبة، تتناول عوالم الوجود، وما عدا الوجود، وما قبل الوجود، فتقيم الأشياء وما عدا الأشياء في كلية، وتعيِّن معالم نمط الحياة في تكامل وإحاطة. فهو نظام يحقق العدالة الكونية المرتقبة في الأرض كلها بتحويل السلوك الأخلاقي إلى حال السيولة في المجتمع وأجزائه الأفراد، ويستجيب للمتطلبات الإنسانية، فيصل المجتمع في ظل ذلك إلى القدرة على تجديد نفسه ذاتيًّا بالتربية على الروح والأخلاق والفضيلة والتفكر” (نفسه ص126).
هؤلاء هم ورثة الأرض/مهندسو الفكر والروح/مهندسو الروح الربانيون حسب المصطلحات المترادفة الواردة في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”، وهي كلها تؤكد انشغال الأستاذ فتح الله كولن بموضوع الإنسان وعمارته الروحية. كما تؤكد موافقة المنهج المقترح من المرحوم الأنصاري، الداعي إلى الانطلاق من القرآن قبل العمران، فمنه تتأسس عمارة الأرض على عمارة الروح أولاً، بالتفصيلات الهندسية الدقيقة التي وضعها الأستاذ كولن لإقامة صرح الروح، حتى يتحقق الوعد الحق في قوله تعالى في القرآن البديع البيان: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)” (ونحن نقيم صرح الروح ص13).
ورثة الأرض/ مهندسو الفكر والروح/ مهندسو الروح الربانيون حسب المصطلحات المترادفة الواردة في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”، كلها تؤكد انشغال الأستاذ فتح الله كولن بموضوع الإنسان وعمارته الروحية.
ويتحقق أنك إذا انطلقت من القرآن إلى العمران، فقد انطلقت من الروح إلى العمران متى أدركت أن القرآن روح “فمن أعجب الأوصاف وألطفها، ومن أغرب الأسماء وأروعها؛ التي سمى الله بها كتابه الحكيم، هي: أنه روح وذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)” (فريد الأنصاري بلاغ الرسالة القرآنية ص40).
قلنا إننا في قراءتنا لكتاب “ونحن نبني حضارتنا” سوف نفتتح بقراءة الكتاب الأسبق للأستاذ فتح الله كولن “ونحن نقيم صرح الروح” وبررنا ذلك بهدف منهجي نسعى لتحقيقه هو أن عمارة الحضارة ينبغي أن تتأسس على عمارة الروح أولاً، وهو ما تأكدنا من صحته حين عرجنا على رؤية الأستاذ لورثة الأرض وأوصافهم وفلسفتهم في الحياة، فلننتقل مطمئنين على سلامة اختيارنا المنهجي إلى رؤية الأستاذ إلى بناء الحضارة:
إنه بناء مؤمن بسنة المداولة المتحكمة في تاريخ الأمم والحضارات: “فالذين ظهروا على مسرح التاريخ قد اندثروا واحدًا تلو الآخر، ثم تبعهم الذين جاؤوا من بعدهم في مداولة تاريخية لا تتوقف… والزمان في خضم سيلانه بينما كان يقدم باقات زهور الإقبال لطائفة، كان يطبع بأختام الإدبار على طائفة غيرها” (ونحن نبني حضارتنا ص5).
هي مداولة لصالح ورثة الأرض الذين عرَّف بهم وقدَّم تفاصيل عن أوصافهم ومزاياهم وفلسفتهم في كتابه “ونحن نقيم صرح الروح”، أما هنا فهو يزف لهم بشائر النصر “فإن أجيال اليوم المؤمنة السائرة في الطريق، المشدودة بالتحفز الروحي الكامل استعدادًا لمنازلة الغبن والقهر والظلم الذي أصابها منذ قرون، يزفون بتحفزهم هذا من الآن ببشائر مهمة عما سيتحقق من تجديدات في جميع طبقات المجتمع في مطالع الألفية الثالثة” (نفسه ص6).
لكنها مداولة لا تقوى على تغيير قواعد “الشريعة الفطرية”، “فالذي يناطح السنن الكونية كلها فسيخر منهزمًا، عاجلاً أو آجلاً. إن العبقرية في أرض غير أرضها محكوم عليها أن تكون كعصف مأكول، كما يُحكم على البذرة بالفناء في أرض لا ترعى فيها بالهواء والماء والقوة الإنباتية” (نفسه ص17).
كما لا يفوته توجيه النذر للعالم المتباهي “بالعلم والتكنولوجيا إزاء الفراغ والاكتئاب الذي أوجده في الحياة الاجتماعية نتيجة لخطئه العظيم في تحديد نقطة الانطلاق.. ولنتركه يسلِّي نفسه ويلهو باللذائذ والأذواق، أو يتطلع ببصره إلى أعماق الفضاء في حين أنه يعاني من افتقاد الروح والمعنى الذي ضيَّعه في قلبه، مهدرًا العمر خلف ضالته في وديان أخرى” (نفسه ص9).
هكذا يتأكد تركيز الأستاذ كولن على أهمية البناء الروحي في كل معالجة لبناء الحضارة، ويعتبر التجديد والإحياء هو هذا الذي “صارت الجموع تستشعره في عوالمها الداخلية وفي أرواحها وقلوبها. وسيحظى الجميع -الجميع من غير استثناء- بوجودٍ ذاتي جديد، عاجلاً أو آجلاً” (نفسه ص13/14).
بل يقف عند “روح الإسلام “التي: “لا تعني حاله الذي يبدو في واقعنا الحاضر ومن زاوية نظرنا ووجهة تقويمنا له، باهتًا وذاويًا وفاقدًا بريق جاذبيته السماوية بل بألوانه ورقوشه البراقة، وكما كانت -ولا زالت- أرواح طاهرة تستشعره فتتذوقه، وكما أحسه إنسان عصر السعادة وعاشه” (نفسه ص98).
ويعتبر سعي الإنسان إلى تلبية الدوافع المادية سبيلاً إلى ملء الروح بالإيمان وإعلاء شأنها مما يؤدي إلى: “تحفيز قوة الإرادة الفردية بمشاعر الإيمان والمعرفة والإحسان” (نفسه ص103).
وبحسه العلمي النقدي يحدد معنى الحضارة من وجهة أنتروبولوجية فهي: “مجموع النشاطات المتعلقة بتنظيم الحياة الإنسانية، أو التصورات الفكرية والاعتقادية والفنية لأي أمة، أو كل الأوصاف الخاصة بوجودها المادي والمعنوي” (نفسه ص14).
ويجعل منطلقها ودعامتها داخلية تركز على الإنسان وكينونته الذاتية: “لا شك أن المعنى الذي نقصده من “الكينونة الذاتية”هو إبراز هويتنا الداخلية المنسوجة من ميراث حضارتنا الذاتية وثقافتنا الذاتية، وجعلها المحور الذي ندور حوله” (نفسه ص23).
وهو ما يعيد التأكيد عليه في محور آخر من الكتاب حين يقول: “فإن كنت مهندسًا فعليك أن تعد العدة قبل البدء بإنشاء صرح فتتفحص متانة عناصره وسلامتها، وانسجام آحادها فيما بينها ومشاركتها في جمال ذلك الصرح ومظهره” (نفسه ص46).
وهو ليس مهندسًا عاديًّا مثل حال بقية المهندسين، بل ينبغي أن تكون عقليته وعقلية أمتنا “عقلية إعمار وإنشاء، وأن ننجو من هذه الحالة التي نتخبط فيها والتي نعاني فيها من فقر التفكير وغياب الأهداف. ونحن اليوم بحاجة ماسة -قبل كل شيء- إلى هدفٍ سامٍ بعيد المرام، هو انبعاثنا برؤيتنا الحضارية وبثقافتنا الذاتية” (نفسه ص50).
ويقوم بمسح لمكونات الحضارة فيتعهدها بالتوجيه والبناء:
1- البناء التربوي: يبدأ بالبناء التربوي فيقدم رؤيته للمدرسة: “ذلك بأننا إن كنا عازمين على المضي قدما نحو المستقبل، فلا مناص من أن نكون ذاتيين في المنطق والمحاكمة العقلية والأسلوب، باستثمار تراكمنا العلمي والتجريبي في مواقعه المناسبة.
لعل الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله بكتابه “مفاتح النور”وروايتيه “آخر الفرسان” و”عودة الفرسان”كان يرشدنا إلى فروسية من لون جديد، هي فروسية الفكر والبناء الحضاري.
فقد تُكسب المدرسةُ الإنسانَ تراكمات وتجارب علمية واجتماعية واقتصادية وسياسية؛ لكن تقبلَها من قبل فئات المجتمع كافة ودوامها مرتبط بامتزاجها وتكاملها مع الجذور المعنوية للمجتمع وبنيانه الفكري” (نفسه ص28).
ولا يفوته التأكيد على الهوية الذاتية للمدرسة حتى لا تكون وكرًا للأفكار الدخيلة: “إن المدرسة بقدر ما تكون متوجهة نحو الهدف ومتسمة بالعمق تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة، بشرط أن تصهر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية” (نفسه ص29).
يترتب على هذا البناء التربوي ذي الهوية الذاتية أن يقوم: “بتحفيز رد الفعل المشترك ضد الأفكار الماسخة والغريبة المنكرة، إلى جانب استشعارها والإحساس بها بكامل عناصرها من قبل كل فئات المجتمع … حتى نبقى وندوم بذواتنا وبخصالنا الذاتية من جهة، وحتى نسير إلى المستقبل من غير السقوط في دوامة الباطل والخرافة والتغرب من جهة أخرى” (نفسه ص31).
ومن قواعد التربية الفردية نزع فتيل الأنانية: “إن من ينسى المقصود ويضيع الغاية المنشودة سيسقط -بالضرورة، كائنا من كان- في شباك الأنانية، وتحل رغباته الجسمانية محل عشق “الخدمة” وتنطفئ عنده مشاعر العيش من أجل الآخرين” (نفسه ص47/48).
كما يهيئنا هذا البناء التربوي المعتمد على البناء الذاتي لما يسميه بحق “انبعاثا” “يتطلب رجال قلوب متحفزين بالإيمان، ومهندسي فكر سائحين في الغد بأفقهم الفكري، وعباقرة يحتضنون الوجود والأحداث بتصوراتهم الفنية، ويتعرفون بتحسساتهم وتفحصاتهم الدقيقة على آفاق جديدة أبعد من الآفاق التي نحن فيها” (نفسه ص36).
ومن منطلق يقينه بعالمية الإسلام وإنسانية رسالته، يوجه ورثة الأرض إلى أن يكونوا مهيئين للتعايش مع الإنسان، “فإن وفقنا في استثمار هذا الوضع العام باستراتيجيات متماسكة ومنسجمة، ونظمنا التحفز المعنوي الموجود في المجتمع والنشاط الفعال المتراكم فيه منذ عصور، حول هدف سام، فلسوف يجتمع الجمهور الأعظم من الإنسانية -ولو بنسبة معينة- حول هذا المركز الجاذب، إن لم يكن من يومه، ففي القابل القريب” (نفسه ص39).
كما يوجههم ليكونوا مهيئين للسلام العالمي، “وقد كان -ولا يزال- كل نداء منه ترنمًا للسلام العالمي، وتناغمًا للانسجام الاجتماعي، ونفَسًا للتسامح والحوار. أما الصلف والوحشية والحقد والبغض، فهي إما من الغثيان المنعكس من البناء الروحي لخصومه في الخارج، أو من عسر هضم جهلة المنتسبين إليه لتعاليمه.” (نفسه ص59).
2- البناء الجمالي: لا يغفل أهمية البناء الفني الجمالي للإنسان والمجتمع والأمة والحضارة، فيعالج إشكاليتها ومواصفاتها وفق التصور الإسلامي المنطلق من التوحيد ومن الكلمة المفتاحية لفتح القلوب “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، فتتشكل فعالياته الفنية وأنشطته الثقافية بهذه المقومات الداخلية، وتتوسع بها وتبرز بألوان القلب وأدائه الجميل تمامًا. وإذا كان الحاصل الظاهر أثرًا فنيًّا أو كتابًا أو رسمًا أو شعرًا أو لحنًا، فإنه يهتف بمشاعر وأحاسيس القلب المتغذي بهذا الأنموذج والجوهر الداخلي” (نفسه ص53).
وعلى سبيل الاستطراد يدقق في تميز التصور الإسلامي للفن في المجال التشكيلي فيقول عن الفن الإسلامي: “إنه يحتوي آفاقًا واسعة خصوصية بتحريه “التنوع في فلك التجريد”. فهو إذ يؤكد على التوحيد، يتخذ موقفًا بيِّنًا وواضحًا ضد التشبيه والتجسيم” (نفسه ص54).
والأستاذ كولن باستطراده هذا -حسب عبارته- يعيد رسم طريق الفن التشكيلي الإسلامي ليحافظ على خصوصيته وتميزه ويقدم له أمثلة فيها شيء من نَفَس الأستاذ النورسي وشيء مما يتيحه التأويل السليم للقرآن الكريم فيقول: “وبحكمة “إبقاء باب التأويل مفتوحًا أبدًا”، يريد أن يري بحرًا في قطرة، ويصور شمسًا في ذرة، ويشرح كتابًا في كلمة واحدة” (نفسه ص54).
ومن هنا لا يدعو إلى استخدام آلية التحريم أو الإباحة أمام من يود سلوك طريق الفن الإسلامي، “فنحن لا نريد أن نفهم الفن الإسلامي بحصره في رفض موضوعات ذاتية أو موضوعية، أو إشهارًا وإبرازًا للمهارات … بل تأليفًا -من جهة- بين الروح والمعنى والمحتوى فيما يشاهد من علائق الوجود والحوادث، وما يتحسس منها فيفهم أو ما يتحسس وينبغي أن يفهم، وبين لغة القلب والشعور والحس -من جهة أخرى- فيتمكن -من ثم- أن يرشد على الدوام إلى الموجود الذي ليس كمثله شيء بالإيماء والإيحاء من مختلف المستويات والترتيبات” (نفسه ص61/62).
3- البناء العلمي: لا يغفل الأستاذ كولن ما أكدناه في بداية هذه الدراسة حول العلاقة الجدلية بين البناء الروحي والبناء الحضاري، حين يؤسس رؤيته لهذا البناء على هدي تصوره للعقل في علاقته بالروح: “فالعقل -بمعنى من معانيه- هو مركز حراسة للروح باعتباره موجِّهًا للإنسان إلى التفكر والإدراك والفهم ومانعًا له عن القبائح وحاثًّا له على المحاسن” (نفسه ص64).
وعلى هدي الرؤية الراشدة للأستاذ النورسي: “فما نريد أن نركز عليه هنا بإيجاز هو العقل في إطار وظائفه -وذلك حسب رؤية الأستاذ النورسي في رسائل النور- وهو إما العقل المنشئ (العقل المكوِّن) الذي يتكاتف مع الوحي والإلهام والوجدان، وإما ضده الذي هو العقل الضيق غير الملتفت إلى النواحي الروحية، المنسلخ من العلائق السماوية، المحدد قدرة مرونته ومجال حركته” (نفسه ص64).
ومن يستشهد بالأستاذ النورسي عليه أن يستشهد بهدي القرآن الكريم الذي “يخاطب المشركين المعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة بلسان العقل، ويوسع آفاقهم بلسان المنطق، ويحقنهم بالمعقول بقوة المحاكمة المنطقية، ويعيد عليهم صفحات من ديمومة التكرر التاريخي، ويضعضع -بسرد الأمثال- لا منطقية الشرك في تلك الأيام إلى جانب الفكر الإلحادي في قابل الأيام، ويدعو إلى التعقل في كل الأمور” (نفسه ص70).
وعليه أن يستشهد بآيات بينات من القرآن ترشد إلى الطريق وتدعونا إلى إعمال القلوب/العاقلة لاستطلاع الأرض التي نعيش عليها (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46) (نفسه ص72).
ومن يستشهد بالأستاذ النورسي ونور القرآن الكريم عليه أن يستشهد بالإنسان الكامل مجسَّدًا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ورؤيته القرآنية للعقل “يسند إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قول مآله: “أن الأحمق عدونا”… فجعله مولانا جلال الدين الرومي عنوانًا وصاغه شعرًا بلسانه الفصيح (ترجمته):
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأحمق عدو لنا، شقي يقطع طريقنا. إذَنْ العاقلُ حبيبنا… نَسِيمُه المعتلُّ بردٌ يفوح رَوْحًا وريحانا. فإنْ غضِبَ العقلُ مني فسبَّني وشتمني، أُطأطِئْ رأسي وأُدِمْ صمتي، لأن العقل من (الله) الذي يمنُّ عليَّ بالفيوض أبدًا. أما الأحمق فإنْ وَضَع في فمي حلوى، أعتلُّ من حلواه ويصبني بالحمَّى”. (نفسه ص74).
ثم يقف عند إشكالية العلم برؤية إسلامية عميقة لا تغفل الروح، ولا الإيمان، كما بينا في بداية هذه الدراسة فيقول: “تستطيع كل أمة سليمة المشاعر والفكر والمعتقدات، ومنتصبة على ساقيها بثبات ورسوخ، أن تعتصر هذه العلوم الصرفة وتقطرها على روحها، فتجعلها صوت قلبها ونفسه، ووسيلة توصل البشر إلى الله تعالى” (نفسه ص56).
ويرتب على هذه العلاقة بين العلم والروح والإيمان مسلَّمة انعدام التناقض بين العلم المسدد بالوحي مع حرية الفكر فيقول: “ومع أنه لم يكن للعالم الإسلامي مشكلة البتة مع العلم أو حرية الفكر، ولكن زُمَرًا من أعداء الدين تغاضوا عن هذه الحقيقة الفارقة واتخذوه غرضًا لمراميهم العدائية الدنيئة مساوين له بالمسيحية الكنسية” (نفسه ص57).
4- البناء التشريعي: يعيد الأستاذ كولن أهمية البناء التشريعي إلى خطأ نرتكبه حين نروم التجديد: “والحال أننا ملزمون بإعداد البيئة الطيبة لزمان ثقافي جديد يطور حياتنا الفكرية بتفسير ثقافتنا تفسيرًا معمَّقًا، وتقويمها تقويما دقيقًا، -ليس من أجل منطقتنا الجغرافية وحدها- بل من أجل تأسيس جسر متين ودائم بيننا وبين العالم المتحضر” (نفسه ص80).
ومن ثم فهو لا يغفل عن صلة الحضارة بالثقافة وما يؤطرها من المرجعية الفكرية والدينية، لذلك فهو يقف عند البناء التشريعي للحضارة ورديفتها الثقافة، حتى يكتمل البناء وتتضح عناصر الرؤية الإسلامية المسددة لكل منهما.
إذا انطلقت من القرآن إلى العمران، فقد انطلقت من الروح إلى العمران متى أدركت أن القرآن روح “فمن أعجب الأوصاف وألطفها، ومن أغرب الأسماء وأروعها؛ التي سمى الله بها كتابه الحكيم، هي: أنه روح.
ويعتبر هذه العناصر أسسًا راسخة “نجد أنفسنا ملزمين بأن نربط كل مضمون ومفهوم وأسلوب فكري وتفسير ومقاربة بتلك الأسس. حتى إن الثقافة بألوانها المختلفة تحوم وتدور في محيطها، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان” (نفسه ص80).
هذه الأسس كما يحددها ويعرض لها هي الكتاب والسنة والتفسير والحديث وأصول التفسير وأصول الحديث والفقه وأصول الفقه، وهي أسس مرتبطة في دراستها وتطويرها وعلاقتها بنظامنا الحقوقي وبآلية توجيه هي”العقل السليم”.
ويخص القرآن الكريم والسنة المطهرة بأهمية أكبر “فيشير إلى ما أنجز حولهما من الدراسات والتفسيرات والتأويلات في ضوء قواعد اللغة العربية وأساليبها، أو أسباب النزول… والمعنى عينه جارٍ على الحديث أيضًا. لكن اللازم أن تصان هذه العلوم بالعقول الوفية والمقتدرة، وإلا فلا منجى و لا مفرّ لأمتنا من حياة الشقاء في هذا الثراء، إن دام ما يراد لهذين المصدرين النيرين الفياضين من تكدير لصفائهما أو إغفال لوجودهما، نتيجة للعداوة اللدود من الخصوم، والخذلان أو السكون من الأصدقاء” (نفسه ص82/83).
ثم يقف عند القرآن الكريم بوصفه كتابًا فوق الزمان والمكان، ويدعو إلى صيانته من العقول الكسيحة والأرواح الأسيرة مما ينتجانه من انحراف النية والنظر أحيانًا، مما قد يسحبه من مقامه المتعالي إلى سجن الفكر البشري الضيق. (نفسه ص83).
ويؤكد على رتبة الصدارة للقرآن الكريم في البناء التشريعي: “لا أظن أن من يعرف هذا الكتاب يحتاج إلى مصدر غيره في المواضيع الأساسية المتعلقة بالإنسان والكون والله… إلا في تفصيل مجملاته وتدقيقها” (نفسه ص85/86).
ثم يردفه بالسنة المطهرة بوصفها مجموع أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وما أمر به أو تفضل بالإشارة إليه. وهي “بفضل سعة مساحتها في التشريع أو بمرونتها القابلة لتفسيرات متنوعة، لا زالت مصدرًا مباركًا لا نجد له نظيرًا في العطاء، في أي دين آخر أو أمة أخرى” (نفسه ص88).
ثم يقف عند الإجماع في رتبته الثالثة بما يعني اصطلاحًا “اتفاق علماء الإسلام المجتهدين في العصر الواحد على مسألة دينية معينة” (نفسه ص88). وينبه إلى أنه لا يعتد في شأن الإجماع بالنظرة المختلفة لبعض الفرق أو التفسير المختلف للشيعة أو حصر الظاهرية نفاذه في مرحلة زمنية معينة.” (نفسه ص89).
ثم يقف عند القياس في معناه الاصطلاحي الدال على إجراء حكم مسألة أو عمل على شيء نظير له أو شبيه به. (نفسه ص90).
ويقف عند الاستحسان في معناه الاصطلاحي الدال على توجه إلى دليل أقوى مما يقتضيه القياس في مسألة معينة أو تخصيصًا للحكم الثابت بالقياس، أو استنادًا إلى دليل أرجح. (نفسه ص91).
ثم يقف عند المصلحة في معناها الاصطلاحي الدال على الوسيلة للصلاح أو الأمر المفيد والصالح والخير. ويشير إلى عدم رقيها إلى مستوى الأدلة الشرعية الأخرى في الأخذ بها كدليل، لكن هناك فقهاء كثيرون وعلى رأسهم السادة المالكية أولوها عناية خاصة. (نفسه ص91).
يفاجئنا الأستاذ كولن حين يدرج التصوف في بنياننا الثقافي/الحضاري، ويعتبره مصدرًا مهمًّا للمعرفة والثقافة في مساحة واسعة تمتد من الحياة الروحية إلى الأخلاق وآداب المعاشرة. (نفسه ص92). ويوليه أهمية في المستوى الأخلاقي “إن التصوف هو الحفاظ الدائم على طهارة القلب حيال دوافع الشيطان والنفس… وردع النفس عن ميولها الخاصة وتضييق مجالها بقدر المستطاع.” (نفسه ص93).
ولعل ما يشفع للأستاذ كولن في هذا الإدراج للتصوف ضمن بنياننا الثقافي هو التجربة الذاتية التي عاشها في سيرته وتكوينه، وعاشها قبله الأستاذ النورسي، “فمهما بدا منه من نقد للمتصوفة ومقولاتهم، فإنه لم يتجاوز التصوف تجاوز نقض وإضراب، وإنما تجاوزه تجاوز احتضان واستيعاب “هكذا لم يسجنا نفسيهما في البرزخ الصوفي كما ألمح إلى ذلك المرحوم فريد الأنصاري وانطلقا في المعراج القرآني. (بتصرف من دراسته “بديع الزمان النورسي من برزخ التصوف إلى معراج القرآن” ضمن حلقة دراسية حول “الإدراك الروحي بين التصوف والنورسي” ص 49).
كما يدرج علم الكلام في إطار الكتاب والسنة، ولا يرى بأسًا في مدِّه بالبرهان وإثرائه بالعرفان، وتوسيعه بالمحصلات الصوفية والفلسفية، بل رأى أن الاشتغال بها على هذا الوجه خدمة للدين” (ونحن نبني حضارتنا ص94).
ويختم بالعرف والعادة والعمل باعتبار مصدريتهما في التشريع، وباعتبار العرف مطلقًا والعادة والعمل مقيدين بشرط عدم المخالفة لروح الدين. (نفسه ص96).
هكذا يُذكِّر، من خلال عرض مصادر البناء التشريعي لحضارتنا، كتابًا وسنةً وإجماعًا وقياسًا واستحسانًا ومصلحةً وتصوفًا وعلمَ كلام وعرفًا وعادةً وعملاً، يُذكِّر بخصوصيتنا الذاتية مع التنبيه على الوحدة العضوية بين المصادر المتنوعة لثقافتنا الموروثة والتي تبدو وكأنها منفصلة عن بعضها البعض” (نفسه ص96).
ملاحظة أخيرة نختم بها قراءتنا لهذا الكتاب وهي إلحاحه بشكل ملفت على الهوية التركية رغم أن الأستاذ فتح الله كولن يعتبر مفكرًا ومصلحًا إسلاميًّا منفتحًا على البشرية جمعاء:
هكذا نلاحظه في أكثر من صفحة من صفحات الكتاب يمجد الخصوصية التركية في مثل قوله: “لقد تكاثفت المساعي الفردية كلها إبان الكفاح الوطني (حرب الاستقلال) في اتجاه تحقيق “تركيا المستقلة”. فهذا الهدف كان بسيطا جدًّا، ولكنه استطاع أن يحوز على الاحترام من كل الفئات، فيستحوذ على العقل والمنطق والعواطف، ويكثف الحركات كلها في نقطة واحدة.” (نفسه ص41). ثم يعيد التأكيد على الأمة العظيمة وحرب الاستقلال في الصفحات 43 و 45.
وهذا لا يقلل من شمولية الخطاب عند الأستاذ كولن ليصل إلى عقول وقلوب وأرواح المسلمين، بل يتجاوزهم إلى مخاطبة البشرية جمعاء، ساعيًا إلى الإجابة عن سؤال، نعتقده إشكاليًّا، لكنه يختزله في مطلب عزيز وبسيط، ثم يجيب عنه بشكل بسيط: “فأنت أيها الإنسان إذا سألت عن غايتك وهدفك من هذا البناء الذاتي والحضاري، فهو رضى الله تعالى. فسواء بعد ذلك إن تحققت نتيجة الخدمات المقدمة باسم أمتنا بارتقائها إلى المكان اللائق بها في التوازن الدولي، أو لم تتحقق، فإن المؤمن يسعى لنوال رضاه تعالى في كل خدمة إيمانية وكل فعالية دعوية.” (نفسه ص50).
إن من ينسى المقصود ويضيع الغاية المنشودة سيسقط -بالضرورة، كائنا من كان- في شباك الأنانية، وتحل رغباته الجسمانية محل عشق “الخدمة ـ الخدمة” وتنطفئ عنده مشاعر العيش من أجل الآخرين.
نعود إلى الفرضية التي بدأنا بها قراءة كتاب “ونحن نبني حضارتنا”، فرضية البدء بالبناء الروحي كما جلَّاه في كتابه الأسبق “ونحن نقيم صرح الروح” مسجلين وعيًا عميقًا عند الأستاذ كولن بالعلاقة الجدلية بين البناء الحضاري والروحي، وعيًا مستوعبًا من قراءته المسددة للقرآن الكريم.
كما نعود إلى الإقرار بنجاعة العدة المنهجية التي أمدنا بها المرحوم فريد الأنصاري حين دعانا إلى بدء كل عمران حضاري بالعمران القرآني: “لا نبني بناء، ولا نعمر تعميرًا، إلا على أساس من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن القرآن العظيم تصميم رباني راق لبناء فخم، ما كُلِّف الإنسان إلا بإنجازه، على شموليته وامتداده، بدءًا بعمران الإنسان حتى عمران السلطان” (بلاغ الرسالة القرآنية ص16).
وقد تحققنا من صدق الفرضية بالفعل حين ألحَّ في كتابيه على أهمية بناء صرح الروح قبل بناء صرح الحضارة، وهو البناء المستمد من هدي القرآن الكريم المبشِّر بوراثة الأرض لعباده الصالحين المصلحين، بأوصافهم الثمانية، كما يبشر بانبعاث جديد للمهندسين الربانيين، مهندسي الفكر والروح، قادة عقبان جيش النور، وهم يشيدون صروحًا تشمل المجالات التربوية والعلمية والجمالية والتشريعية.
وإلى قراءة مقبلة لفكر الأستاذ فتح الله كولن، حتى نؤدي بعض ما علينا من دَين لهؤلاء الأعلام على الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
(1) فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1433ه-2011.
(2) فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، دار النيل للنشر، القاهرة، الطيعة الرابعة، 1428ه-2008.
(3) فريد الأنصاري، بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصارٍ لآيات قرآنية، سلسلة: من القرآن إلى العمران (2)، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1430ه-2009.
(4) فريد الأنصاري، بديع الزمان سعيد النورسي من برزخ التصوف إلى معراج القرآن، بحث منشور في مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية، العدد 9 السنة الخامسة يناير 2014.
Leave a Reply