إن فكرة أن يصبح المعلم أكثر من مجرد مُحاضرٍ أو ناقلٍ للمعلومات، هي فكرة مركزية في رؤية الأستاذ كولن التعليمية؛ فالمعلم –بالأحرى– هو مُربٍّ يكشف من خلال حضوره الذاتي عن إمكانيات الطالب.
بصمة المعلم
ورغم ما للمادة الدراسية من أهمية بالغة، فإن أهمية “حضور” الشخص الذي يتوفر على أداء هذه المادة، تكون أكبر تأثيرًا في الناتج النهائي، فوفقًا لأحد أعمال الأستاذ كولن: “ينبغي للمعلمين أن يجدوا طريقًا إلى قلوب الطلاب، وأن يتمتعوا بالقدرة على ترك بصمات لا تُمحى على عقولهم، كما ينبغي لهم اختبار المعلومات التي يُعتزم تمريرها إلى الطلبة، وذلك بتهذيب عقولهم وصفحات قلوبهم هم أنفسهم، فالحصة الدراسية الجيدة هي تلك التي تمد التلاميذ بما هو أكثر من المعلومات والمهارات النافعة، إنها تلك التي ترتقي بهم للقاء المجهول”.
أن يكون المعلم أكثر من مجرد ناقل للمعلومات، هي فكرة مركزية في رؤية كولن التعليمية.
الأخلاق المجسدة
أتذكر بوضوح تام زيارتي لإحدى مدارس حركة الخدمة بمدينة إسطنبول، حين تحلَّق الأطفال –من سن المرحلة الإعدادية– حولي ليمطروني بالأسئلة، وقد أدهشني أن تأتي جميعُها بالإنجليزية. كانوا طلابًا مُفعمين بالحياة وصاخبين ومشرقين وودودين وحريصين على اصطحابي إلى فصولهم الدراسية، واستعراض مهاراتهم في لغتي الخاصة، وإشراكي في رؤية الجوائز التي حازتها مدرستهم. وقد تساوت بينهم أعداد الذكور والإناث، سواء في طاقم الموظفين أو الطلبة. وكانت الفصول مُزدانة بأحدث المعدات، والمدرسة نظيفة بشكل فائق، والجوُّ العام ممتلئًا بالحماسة والصرامة الأكاديمية والامتياز الأخلاقي.
وعندما التقيت مدير إحدى المدارس في وقت لاحق من الأسبوع في حفل عشاء مع المساهمين(4)، سألته مباشرة “لِمَ الطلاب والمعلمون في هذه المدارس مذهلون على هذا النحو؟ هل تُدرِّسون الأخلاق في الفصول الدراسية؟” ليأتي رده – ابتداء– في صورة ابتسامة عميقة متروية، ثم أجاب بهدوء: “إننا لا نُعلِّم الأخلاق، بيد أن معلمينا هم صورةٌ لما يقومون بتدريسه متواضعون ومتسامحون وعطوفون وأذكياء”.
ومن رحم هذه الإجابة البسيطة كان مولد هذه الدراسة؛ إذ تنتقي مدارس الأستاذ كولن معلمين يكونون هم أنفسهم أشخاصًا ورعين مخلصين روحانيين أذكياء متواضعين، يُمرِّرون حكمتهم الذاتية إلى طلابهم من خلال الأفعال لا الأقوال. وحيث إن الطلبة يُشمَلون بالرعاية في بيئة الرحمة والتسامح هذه، فإنهم يصبحون مواطنين عالميين واعين قادرين على التأثير في محيطهم ومستقبلهم.
ولعل هذه العبارة من الأستاذ كولن تصف ذلك أبلغ وصف، إذ يقول: “تتوقف استمرارية الأمم على ما تتلقاه شعوبها من التعليم ومن التوجيه صوب الكمال الروحي. وإذا لم يكن بوسعها تنشئة أجيال متطورة يُمكنها أن تعهد إليها بأمر المستقبل، فسيكون مستقبلها مظلمًا آنذاك”. (كولن، ص:56).
بعد أن التقيتُ بالأستاذ كولن، صرتُ على وعي بأنه أحد الأشخاص النادرين الذين يمثّل حضورُهم شكلاً من أشكال الحب المتجسد.
رؤية كونية
لقد جعلت الحركةُ من الفكرة القائلة بأنك طالما تلقيت الدعم وأنت طالب، فعليك الخروج إلى العالم لدعم الآخرين، جزءًا لا يتجزأ من تركيبتها، وبذا فإنها تعمل على إيجاد شكل من أشكال “الجماعاتية” من خلال التزامها الجوهري بالإسلام، ومن خلال توجهها العالمي.
يقول الأستاذ كولن: “الآن إذ نعيش في قرية عالمية، أصبح التعليم هو أفضل السبل لخدمة البشرية، وللدخول في حوار مع الحضارات الأخرى” (كولن، ص:198)، أي إن الأستاذ كولن نفسه يعي أن حصيلة التعليم هي خدمة الآخرين لا خدمة المصالح الشخصية فحسب، وهو ما يترتب عليه أن تكون الفرضية التي يُنتقى المعلِّمون وعلى أساسها يتعلم الطلاب، هي أولوية التوجه الروحي؛ إذ ليتسنَّى للمرء خدمةُ الآخرين لا بد أن تتكوَّن لديه نزعة روحية تربطه بالإنسانية.
إن الروحانية الإسلامية تعضد من نموذج الأستاذ كولن التعليمي، الذي يتبدى عبر تدريس العلوم ومن خلال التربية الأخلاقية الملموسة، وذلك بهدف خدمة الحياة المدنية وإحلال السلام في الوجود؛ إذ من أجل خلق عالم أفضل للجميع، وليس من أجل نفع الطالب وحده، تُقدِّم هذه المدارس خدماتها التعليمية. وهذه الغاية واضحة ومقصود إليها في آن.
مركزية المعلم
ينبثق نموذج الأستاذ كولن مما يكمن داخل المعلم، بحيث تتم ترجمته ونقله إلى ذات الطالب الروحية، أي إن المعلم نموذج للذات إذا جاز التعبير. وهكذا فإنه (المعلم) يُشكِّل النقطة المحورية في نموذج الأستاذ كولن، الذي يذهب إلى القول بخروج أشخاصٍ أفضل من رحم هذه الطريقة، وإلى القول بأن هذا الأسلوب يساعد على خلق عالم أكثر إنسانية.
بما أننا نعيش في قرية عالمية، أصبح التعليم أفضل السبل لخدمة البشرية، وللدخول في حوار مع الحضارات الأخرى.
تتجلَّى رؤية الأستاذ كولن حول المحبة في كل درسٍ يُعلمه لتلاميذه وأتباعه. وبعد أن التقيتُه أنا نفسي، صرتُ على وعي بأنه أحد أولئك الأشخاص النادرين الذين يُمثِّل حضورُهم نفسُه شكلاً من أشكال الحب المتجسد. وأثناء محادثة أجريتها معه على مائدة العشاء، سألته بشكل محدد عن الحب، مُوضحًا أنماطَه الأربعة التي روَّج لها معلمُنا المسيح، ليجيبني على نحو بالغ الإيجابية قائلاً: “إن الحب يقع في صميم الوجود البشري، وإن تعاليمه في معتقداتنا المختلفة -الإسلام في حالته، والمسيحية في حالتي- هي المرشد لأفهامنا وأفعالنا”. وبعبارة أخرى، فإن الحب -عند الأستاذ كولن- ليس مقولة نفسية، بل مسارًا روحيًّا.
ولعله قد أمكنَ لهذا المؤلف الذي يكتب عن الإيثار الصوفي، أن يوضح منبع شعور الأستاذ كولن الملموس بالحب حين قال: “لِنَعْبُدَ اللهَ مخلصين بتَوَجُّهٍ غيرِ منقوص؛ علينا أن نُفرِغ قلوبَنا من حب كل ما عداه” (هومرين، ص:80). ولذا، فللخروج بأيٍّ من التقييمات التي يُمكن طرحها حول نموذجه التعليمي، سواء بالسلب أو بالإيجاب، علينا أن نعي أنه لا يُمكننا استيعاب حركة كولن ما لم نتفهم عنصر الحب الذي يحافظ على تماسك أجزائها معًا، وكأنه عروة لا تقبل الانفصام.