لقد صدر مؤخرا تقرير عن مركز نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية وصحيفة زمان التركية بعنوان “انهيار دولة القانون في تركيا”. ويأتي هذا التقرير المهم -في توقيته ومصداقية الحقائق التي استند عليها- ليؤكد حجم الانتهاكات التي تمارسها الحكومة التركية الحالية، والتجاوزات التي لا تزال ترتكبها متذرّعة بتصفية الجيوب المشاركة في مسرحية (الانقلاب الفاشل)!!
لماذا لا يزال يقبع أكثر من 300 صحفي في السجون التركية حالياً؟ هل يوجد ما تخشاه الحكومة وتسعى إلى “التكتيم” الإعلامي عليه؟
والحقيقة أنّ تخبط هذه حكومة الرئيس أردوغان سبق الانقلاب المزعوم بسنوات، وهو يمضي في سياق التجاوزات الحقوقية الممنهجة التي فاقت جميع التقديرات، بهدف تكريس نزعة الحزب (الأوحد) وإسكات جميع الأصوات الحرة.. مما يشكل عقبة حقيقية في طريق الديمقراطية ودعم الحريات.
ولا تزال التساؤلات تثار حول الانتهاكات المتكررة للقانون، والتفريغ المتعمد لمبادئ وقيم المؤسسات الحقوقية التي تخلت عن أدوارها وأصبحت تمارس أدواراً بديلة موالية للنظام:
- وهل يمكن تطبيق القانون في ظل حالة الطوارئ القائمة؟
- ولماذا لا يزال يقبع أكثر من 300 صحفي في السجون التركية حالياً؟ هل يوجد ما تخشاه الحكومة وتسعى إلى (التكتيم) الإعلامي عليه ولو بإسكات الأفواه وتقييد الحريات؟
- وما التُهم التي اعتقل بسببها قرابة خمسين ألفاً من القضاة، والنواب العموميين، والمدرسين، والأطباء، وعمال النقابات؟ هل جميع هؤلاء (انقلابيون) يجب معاقبتهم؟ أم أن الهدف أبعد من ذلك؟
- وما الداعي لفصل قرابة ١٥٠ ألف موظف عمومي من أعمالهم -دفعة واحدة- دون تحقيق أو اتهام أو إجراء محاكمة عادلة؟ هل أصبح هؤلاء يشكلون خطراً على مؤسسات الدولة التي ساهموا بكفاءة في نجاحاتها وتسييرها طوال السنوات الماضية؟
- ثم كيف يتناسى (أردوغان) مشكلات حكومته القائمة ثم يتوقد عزمه ويكرّس نفسه لاضطهاد كل من ينتمي إلى حركة الخدمة، ويجيّش سفاراته لإغلاق مدارس (تركية) وملاحقة معلميها (الأتراك) وإنزال علم (تركيا) في بقاع نائية من العالم لم تصلها الخطوط التركية ولا اللغة التركية إلا بفضل هؤلاء المعلمين وتلك المدارس الوادعة.. وبذريعة ماذا؟! (الانقلاب) طبعاً!! إلا إن كان المقصود الانقلاب الشمسي الذي يتعلمه طلاب تلك المدارس، ويحصدون بسبب تفوقهم جوائز ذهبية ترفع رأس كل تركي شريف عالياً.
أين نزاهة القضاء حين كانت رائحة الفساد المالي الضخم عام 2013 تفوح من داخل دوائر مقربة من الحزب الحاكم؟
- لم نفهم حتى الآن سبب هذا الفجور في الخصومة!! أيعقل أن أردوغان نسي بأنّ هؤلاء الذين يطاردهم اليوم كانوا سبب فوزه في انتخابات عام 2003؟ أم هو الحسد الذي جعله يتحوّل من ولي حميم إلى خصم شرس، بعد أن رأى تفوّق مؤسسات الخدمة -في مجالات التعليم والاقتصاد والإعلام والإغاثة والصحة- على ما تقوم به وزارات كاملة في حكومته، وعدم قدرته حتى على تقليص فارق الجودة بالرغم من فصل الوزراء واستحداث أنظمة ومعايير جديدة! فإن كان هذا هو السبب فما ذنب المدارس والمكتبات ودور النشر والمستشفيات؟! لماذا تُغلق في سياق هذه الهجمة الجائرة؟ بل ما ذنب النساء والأطفال الرضع أن يُزجّ بهم في السجون؟!
- لمصلحة من إيصال تركيا لهذه الحال المزرية بعد أن كانت قبل عقد ونصف مضرب المثل في الاستقرار والرفاهية؟! أهي لعنة المثل السائر الذي يقول: وراء سقوط كل خليفة عثماني شاه صفوي؟! أهذا ما يحدث بالفعل؟! هل تحول أردوغان -بالرغم من قامته الطويلة- إلى مجرد أداة بيد دولة مجاورة يؤرقها انتشار مؤسسات أهل (السنة) في العالم؟! وهل يقوم حقاً بتنفيذ أجندات تلك الدولة التي دافع عنها مراراً وعن حقها في تصنيع السلاح النووي، واحتال على العقوبات الدولية ضدها، ورضي بتقريب عملائها في تركيا من مراكز صنع القرار في حكومته، بل أنكر وجود شيء في كوكب الأرض اسمه (سنة وشيعة)!!
- لماذا لجأت المحاكم التركية هي الأخرى -في ظل الحكومة القائمة- إلى لعب دور الخصم والحكم في آن واحد؟ وما السبب الذي جعلها تنحاز بعيداً عن العدالة وتقبل بأن تكون أداة غير محايدة تكرّس الظلم وتهضم الحقوق، عبر إطالة مدة التقاضي المعتقلين، وتعليق قضاياهم لفترات طويلة متباعدة؟
- لماذا تصرّ الحكومة -بعد كل هذا- على ركوب موجة (المظلومية) والتظاهر بأنها (المستهدف) من قِبل خصوم الداخل والخارج لتبرير انحرافاتها، وتنصلها عن الانتهاكات الحقوقية التي تقوم بها؟
- أين نزاهة القضاء إذن حين كانت رائحة الفساد المالي الضخم عام 2013 تفوح من داخل دوائر مقربة من الحزب الحاكم، بل من أردوغان نفسه الذي استخدم صلاحياته لتوسيع نطاق القمع والاضطهاد والاعتقال الجماعي لمخالفيه ومنتقديه تحت شعارات واتهامات جائرة تبرر استمرار العمل بقانون الطوارئ؟
- لماذا يتم فصل القضاة والمحامين الأحرار من هيئة النيابة العامة وأجهزة القضاء وتوظيف قضاة موالين للحزب الحاكم بدلاً منهم؟؟ ولماذا يتأثر عمل المحاكم الحالية بأجندات سياسية للحكومة؟؟
إنّ كل هذا –وغيره- يؤكد بالفعل أنّ دولة القانون لم تعد موجودة في تركيا، بالقدر نفسه الذي يقال عن (العدالة) (والتنمية).