إنَّ فتح الله كُولَنْ بقدر ما هو رجل حركةٍ وعملٍ وتربيةٍ وتهذيبٍ بقدر ما هو مثقفٌ واسع الاطلاع، وهو يكتب في مجالات واسعة -وقد أوردنا قائمة مؤلَّفاتِهِ في الملحق الرابع- وقد أفصح في أوقاتٍ مختلفة عن آرائه وأفكاره بشأن أكثر مواضيع عصرنا جدلًا ونقاشًا، وسنتناول في هذا الفصل أفكارَه وآراءَه حول العلم (ونَقصِدُ بذلك العلمَ الحديث إلى جانب العلم الشرعي)، والتقنية وعلاقة العلم والدِّين التي مثلت أكثرَ المواضيع نقاشًا في عدة عصور، مع إيراد نظرته إلى الإنسان وحقوقه و”الحركة الإنسانية (Humanism)” والمرأة وحقوقها، والدولة والديمقراطية والسياسة والإرهاب والمجتمع النظيف الطاهر.

العلم الشرعي والعِلمُ الحديث،والتقنية والعلاقة بين الدِّين والعلم
العلم والتقنية وعلاقة العلم والدِّين من أكثر المواضيع التي كتب عنها فتح الله كُولَنْ.
ماالعلم؟
يرى فتح الله كُولَنْ:
“أن هذا العالَم كتاب مفتوح لتدبُّرِ الإنسان واستكشافه، ومَعرِضٌ قُدِّم إليه ليشاهده، بل إنه أمانةٌ أُودعت لَدَينَا ومُنِحنا حقَّ التدخُّل فيها…”.
ووظيفة الإنسان تجاه هذه الأمانة هي:
“قراءة كتاب الكون، وتفسيره بإدراك الظاهر والباطن فيه؛ وتحقيق هذا المعرض الملغَّز، وتقييم المعاني التي يحتويها ويعبّر عنها، والاستفادة من هذه الأمانة بحيث ينتفع بها الناس حاضرًا ومستقبلًا…
وهكذا فإننا نُطلِقُ لفظَ العلم على هذه العلاقة القائمة بين الإنسان والوجود واستكشافه إيّاها وإدراكه لها” .
العلموالإنسان
يلفت فتح الله كُولَنْ الانتباه إلى أهمية العلم من زاوية خاصّة؛ فيرى أنَّه عاملٌ مهمٌّ يُميِّزُ الإنسان ويُقَدِّمه على غيره من الموجودات؛ لأن الإنسان فُضِّلَ على الملائكة بالعلم، وتُوِّج تفضيلُه هذا بمنحِه مهمَّةَ الخِلافة؛ أي إعمار البسيطة والتدخُّل في أمور الطبيعة بمعايير معينة لإعمارها؛ لأنه وارث الأرض الحقيقي.
لقد منح الله تعالى الإنسان شيئًا لم يمنحه أيًّا من مخلوقاته بما في ذلك الملائكة؛ منحه معرفة أسماء الأشياء والمخلوقات جميعها، وبتعبير آخر: منحه التعرُّفَ عليها والقدرة على التعلّم بالاستفادة منها، وفضّلَه على سائر المخلوقات بهذهِ الصفة، وهذه الواقعة المذكورة في القرآن الكريم من تعليم آدم  -الإنسان الأوَّلِ- الأسماءَ والمسمّيات كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/31)، مع أنها كانت -أي الأسماء والمسمّيات- كفهرستٍ فِطْري لدى آدم  فقد تجلَّت وتكشَّفت مع كلِّ رسولٍ جاء من بعده في إطار رسالته المرسَلِ بها، ومن خلال الاكتشافات والاختراعات التي تفضل الله بها على العلماء نتيجة سعيهم لخدمة البشرية اكتسبت كل هذه التفصيلات أبعادًا أوسع وأعمق، والمعرفةُ الموهوبة لآدم جملةً واحدةً المتفتِّحةُ فصولًا فصولًا مع الرسل من بعده والقدرةُ على تحصيلها تجلَّت تمامًا لدى سيدنا محمد  النبيِّ الخاتَمِ، ولذلك فإن تطوُّر العِلْم والتقنيَّةِ المترتّبةِ عليه تطوُّرًا عظيمًا قد تحقّقَ بعد هذا النبي الخاتم وسيظل يتحقَّق، وليس هناك فرقٌ بين أن يتحقَّق هذا على أيدي المسلمين السائرين على هَدْيه كما حدث في القرون الخمسة الأولى من الإسلام وكما سيحدث لاحقًا إن شاء الله؛ وبين أن تتحقَّق على أيدي الغربيِّين المتيقِّظين إلى العلم استفادةً من المسلمين، فالأمرُ على كلِّ حالٍ أن البركةَ الجاريةَ في عروق الكائنات منذ بعثته  وحتى قيام الساعة خاصَّةٌ به فهو النبي الخاتمُ .
وثـمَّةَ نقطةٌ أخرى لَمَسَها فتح الله كُولَنْ وتطرَّق إليها فيما يخصُّ العلاقة بين العلم والإنسان، وهي أن الحيوانات تبدو وكأنّها أُرسِلت إلى الدنيا وقد أودعت فيها المعلومات الضرورية لحياتها -كما أشير إليه قبل ذلك- في حين يبدو الإنسان مخلوقًا أُرسل إلى الدنيا دون أن يعلم أيَّ شيءٍ قطّ، وهو مُطالَبٌ بالوصول إلى الكمال بالتعلم والعبادة والدعا.
شروطٌ بالغةُ الأهمّيّة بالنسبة للعِلم
أوَّلًا: يرى فتح الله كُولَنْ أنَّ اضطلاع العلم بوظيفته الحقيقية وكونه عِلمًا حقًّا، وبتعبير آخر؛ تحوُّلُ المعلومات إلى عِلمٍ نافعٍ للإنسان يُمكن أن يتحقَّق بــ”اعتماد شخصيّة وطبيعة الإنسان -الذي يُعدُّ روحَ الفكرِ العلميِّ وأساسَه- على عشق الحقيقة”، وهذا الأمر أيضًا مرتبطٌ بأن تخلو أيّةُ أعمال يُضطلَعُ بها من الطمع والمصلحة الشخصية والشهوانيّة؛ فمشاهدةُ الوجود والأشياء والتعرُّفُ عليها ومعرفتُها وتقييمها دون تفكيرٍ في أيّةِ منفعةٍ ولا مصلحةٍ هي الاسم الآخر لعِشْقِ الحقيقة، ومن يمتلكها لا يستعصي عليه أيُّ مرتقًى كان، وعلى العكس من ذلك؛ فكما أن عِشقَ الحقيقة يستحيل أن يتطوَّرَ ويتنامى في إطار حبِّ المصلحة والمنفعة، فإنه يستحيل أيضًا أن يتحقَّقَ لأن النضال في خِضَمِّ مثل ذلك النوع من الانحرافات حربٌ ضدَّ الحقّ، وطبيعي أن العِلْمَ والإنسانيّة هما المتضرِّران من هذه الحرب .
ثانيًا: إن التعصُّبَ والتطرُّفَ -لا سيما التحجُّر الأيديولوجي- مانعٌ آخر من أعظم الموانع التي تعترض طريق العلمِ والعقليةِ العلميّة التي هي بمثابةِ الشرطِ له، ولا يمكن الحديث عن عشق الحقيقة أو العلم، ولا عن عشق الأخلاق والعقلية الأخلاقيّة في مجتمعٍ توجد فيه تلك الأمور؛ إذ تعاني الروح في مثل هذا المجتمع، ويضعف الفِكْرُ، وينعدم احترام القيم الإنسانية.
ثالثًا: الوجودُ دائمُ الحركة، وهو مع هذه الحركة في تطوُّرٍ دائمٍ -ليس في إطار الفهم الدارويني طبعًا-، والجمادات في هذا العالَم تُـهَـرْوِلُ نحو الحياة دون توقُّفٍ، والحياة تسير نحو الإدراك والشعورِ، ويجري تناوبُ الظلام والنور وتتابعُهما ويتعاقبُ في دورةٍ دائمةٍ، ويُشَكِّلُ أُفقًا من المعرفة يسير كلُّ شيءٍ في طبقاتٍ تعلوه، وينبغي للإنسان أن يُسَلِّمَ نفسه لشلّالٍ كهذا مدعومًا بالإرادة والوعي بسعيٍ وجهدٍ يضغطان على قدرته ومقاومته حتى النهاية، ولكن على نحو مستقلٍّ عن غيره من الموجودات، ويفيض نحو المستقبل، وهذا يعني اكتسابَ رُوحٍ مُتَابِعةٍ ومتجددةٍ دائمًا في المعرفة والفكر والتأمُّل؛ إذ يمكن الاشتغال الروحيُّ بالعِلم الحقيقيِّ على هذا النحو فحسب، ويمكن أن يُؤدِّيَ ذلك العلمُ المهمَّةَ والوظيفةَ المنوطةَ به .
أهمية العلم والغاية المنتظرة منه
ينظُمُ فتح الله كُولَنْ فيما يتعلَّق بأهمِّيَّة العِلم والغاية المنتظَرَةِ منه كلامًا من ياقوت الحِكمة فيقول:
بما أن الحياة الحقيقيّة بالنسبة للإنسان تقوم بالعلم والعرفان؛ فإن مَنْ يهملون التعلُّمَ والتعليم يُعَدُّون أمواتًا وإن كانوا على قيد الحياة؛ ذلك لأن الغاية من خَلْقِ الإنسانِ هي النظرُ والتأمُّلُ وتحصيلُ المعرفة ونقلُ ما تعلَّمَه إلى الآخرين.
إن صحّةَ القراراتِ والتدابير التي يتَّخِذُها أيُّ فردٍ تتناسبُ مع ما يتمتَّعُ به من عقلٍ ومنطقٍ، والعقلُ والمنطِقُ بدَورِهما يتنوَّران ويترقَّيان بالعلم والمعرفة نحو الكمال.
لا تظهرُ إنسانيَّةُ الإنسانِ واضحةً إلا عند محاولته التعلُّم ثم تعليمَه غيرَه وتنويرَه إيّاه، ومنْ لا يحاول أن يتعلَّم -مع كلِّ جهلِهِ- ولا يُفكِّرُ بذلك ولا يُجَدِّدُ نفسَهُ بما تعلَّمه ولا يكون قدوةً لغيره إنما هو إنسانٌ بالصورة فقط وليس بالسريرة.
إن المنصبَ والمقامَ الذي يُستحصلُ ويُكتَسَبُ بالعلم والمعرفة أسمى وأدومُ من المناصب والمقامات المُكتَسَبَةِ بالطرق الأخرى؛ ذلك لأن العِلْمَ يُبعِدُ صاحبَه في الدنيا عن السوء ويجعله من أرباب الفضائل، كما يجعله من أصحاب السعادة في الدار الآخرة بما يحصل عليه من منصبٍ ومرتبةٍ لم يكن يتخيّلهما.
إنَّ الغاية من تعلُّم العِلْمِ هي اتّخاذُ المعرفة مرشدًا وهاديًا للإنسان، وتنويرُ الطرق التي ترقى بالإنسان نحو الكمالات الإنسانية؛ لذا فالعلوم التي لا تتناول جانبَ الإنسان الروحي تكون عبئًا على صاحبها، وكلُّ معرفةٍ لا تُوَجِّه الإنسانَ إلى الأهداف السامية ليست إلَّا عبئًا على القلب والفِكْرِ لا فائدةَ منها.
إنَّ قَدرَ كُلِّ شخصٍ وقيمتَه مرتبطةٌ بمضمونِ ووَفْرَةِ العلم الذي حصَّله، ومنْ يستغلّ علمه في مجال الشائعات تكون قيمتُه بقيمةِ تلك الشائعات، أما منْ يستغلّ علمَه ويستعمله كمَوْشورٍ في تحليل الحوادث والأشياء، ويوجِّه علمه لإضاءة المناطق المظلمة والتحليق بها وإنارتها بعلمِهِ ومعرفتِهِ للوصول إلى الحقائق الموجودة فيما وراء الطبيعة، فَقَدْرُه وقيمتُه بمقدارِ علوِّ تحليقِهِ .
ساحةُ العلم ومنهجُ العمل
إن فتح الله كُولَنْ واقعيٌّ بالمعنى التام للكلمة، ولا سيّما فيما يتعلّق بمجال العلوم التجريبية، فهو يحترمه أيّما احترام، وهو- كما سيأتي لاحقًا- على وعيٍ وإدراكٍ تام بأن لهذا المجال طبيعةً خاصّةً به تُـميِّزه عن غيره، وهو لا يَحصُرُ العلمَ في هذا المجال ويرفض حصرَه في هذا الإطار فحسب، ويُقَدِّر ذلك الأمر، والواقع أن تقديرَ هذا المجال تقديرًا حقيقيًّا، أي معرفة معناه الحقيقيّ بحدوده وأُطُرِه وسيلةٌ مهمّةٌ من أجل تجنُّب السقوط في براثنِ فكرةٍ لا تقبلُ إلا نتاجَ العلوم التجريبية.
ويرى كُولَنْ أنّ العلمَ التجريبيَّ يشتغلُ ويهتمُّ بالأشياء التي تدركها حواسنا، أما الحقائق الأخرى فيمكن السعيُ لتوضيحها في ضوء ما يحصل عليه من نتائج اعتمادًا على التجارب، أما المعلومات التي لم تُحَدَّدْ بالحواس، وتعذَّرَ إثباتُ صحَّتِها فلا مكان لها في بنيته ولا يُصدر أحكامًا بشأنها إلى أن تتَّضِحَ حقيقتُها وفقًا للمناهج العلمية، ومن ذلك على سبيل المثال؛ أنه ليس ثمةَ إنسان يرتاب في أنَّ الأشياء التي نراها بالعين المجرَّدَةِ حقيقةٌ ثابتةٌ، بِغَضِّ النظر عن سِمَاتِها وخصائِصِها، ومثل هذا أيضًا يمكننا أن نُفَكِّرَ في الأشياء نفسِها بالنسبة لما نسمعه بآذاننا، وما نشعر به ونُحِسُّه لَمْسًا، وما يُدْرَكُ بغير ذلك من حواسِّنا، أما التعرُّف على وجود المجالات الكهربائيّة والمغناطيسيّة التي نعجزُ عن إدراكها بحواسِّنا فنسعى لتحديدها بالبوصلة وما شابهها من آلات، ويستطيع العلم أن يُحدِّدَ هذا القدر فحسب بواسطة الآلات والوسائل التي يمتلكها اليوم.
ويرى كُولَنْ أن إجراء أحد العلماء العاملين في مجال العلوم التجريبية دراسةً يتقيَّدُ فيها بمبادئ مجاله تعبيرٌ عن احترام كرامة العلم وشرفه، كما يرى أن شَغْلَ مراكز العلم بنظريات لمّا تثبت بعدُ بدعوى الاشتغال بالعلم، وتقديمَ هذه النظريات وكأنها علومٌ مثبتةٌ وقاطعةٌ، بل وتكوينَ اعتقادٍ معين بناءً عليها يعني تضليلَ الجموع والتلاعبَ بكرامةِ وشرفِ العلمِ على حدٍّ سواء .
مصادرالعلم وسببه
يُقِرُّ فتحُ الله كُولَنْ بمحدوديّة مجال العلوم التجريبيّة، ومع تصريحه بأن العِلْمَ ومجالَه ليسا هذا فحسب، لا يرى أن مصادرَ العِلْمِ تكمنُ في الحواسِّ والتجارب، ولا يحصرها في ذلك فقط؛ فهو يتناول المسألة من منظورٍ إسلاميٍّ، ولذلك يقول:
“إن أسباب العلم أو مصادره ثلاثة: أوّلها: “الحواس السليمة”؛ أي أعضاء الحسّ السليمة التي تؤدِّي وظائفها تامَّةً دون نقصٍ، أما احتماليّة أن تخطئَ أعضاءُ الحسِّ فهي حقيقةٌ واقعةٌ لا ندّعي خِلافها، لذا قيدوها بكونها “سليمة”.
ثاني أسباب العلم: هو العقلُ السليم؛ ويدخل فيما يُعلم بالعقل البديهياتُ وعيرُها، فالعقلانيّة الفَظَّةُ تعتبِرُ أنَّ العقلَ هو المصدرُ الأوحدُ للعلم والحقيقة، في حين أنَّ ثمة وقائعَ وحقائقَ يستحيل إنكارُها كاختلاف العقول باختلاف الأشخاص، واحتماليّةِ أن تُطرح مجموعة من “الحقائق” المختلفة حول مسألة معينة بحسب أعداد الناس، وأنَّ العقل قد يتأثر بكثير جدًّا من الأمور كالحس والرغبة والنزوات النفسية والأيديولجيات والمعتقدات، ناهيك عن أنه مُعرَّضٌ للنمو والضمور أيضًا؛ إذًا فاعتبارُ العقلِ -أيًّا كانت قيمتُه- مصدرَ العلم الوحيد يمثِّلُ نوعًا آخر من الانخداع، وحين أدرج العلماء المسلمون العقلَ بين مصادر العلم أو أسبابه اشترطوا “أن يكون العقلُ هو ذلك العقل المنشود” أو “العقل السليم” أي العقل المتحرِّرُ من تأثير العناصر والعوامل التي ذكرناها آنفًا، ولا شكّ أن كُولَنْ أيضًا يرى الشيءَ نفسه؛ إذ يُعَرِّفُ العقل السليم بأنه: “العقل الذي يُدرِكُ الأشياء ويُقيِّمُها بحالتها الأولى المجرّدة دون اتِّخاذه موقفًا مسبقًا تجاهَ أيِّ شيءٍ”.
وإن كان فتح الله كُولَنْ ليس عقلانيًّا بالمعنى الفلسفيّ إلا أنّه يهتمُّ بالعقل اهتمامًا كثيرًا؛ إذ العقلُ على حدِّ تصويرِه: “شيءٌ مجرّدٌ من المادّةِ، لكنه جوهرٌ ملاصقٌ لها، وهو في داخلِ الطبيعةِ امتدادٌ نورانيٌّ لما وراءها، وأحدُ أهمِّ كلِّيّات الروح، وهو أوضح نورٍ يكمن في ماهيّة الإنسان للتفريقِ بين الحقّ والباطل”.
وينظر كُولَنْ إلى العقل على أنه: “قوَّةُ الروح الحارسةُ من حيث تفكيرُ الإنسان وفهمُه ومنعُه من الوقوع في الآثام وتوجيهه إلى الخيرات”، وقد ربطَ علمُ الكلام في الإسلام المسائلَ المتعلّقةَ بأصول الدين -ربطها- بالعقل إلى حدٍّ كبيرٍ على اعتبار أنه أساسُ التكليفِ، ومناطُ التفكُّرِ والتدبُّرِ، وأوَّلُ جواهر المحاكمة العقليّة، والمميِّزُ للإنسان عن الحيوان، الذي يقوده إلى بابِ الإنسانيّة الحقة، كما أنه أروعُ هدية من الخالق للإنسان.
ومع أنَّ فتح الله كُولَنْ ينظرُ إلى العقل ويعتبره جوهرًا فإنه يُقَيِّمُه في الإطار القرآني من زاوية “المعقولية” في الأكثر، أي إنَّ العقل في فكر كُولَن المستند إلى القرآن يُمثِّلُ فعاليَّةً أكثر من كونه كُلِّيّةً ثابتةً بذاتها؛ ولذلك فإنه يتحدَّث عن “العقل النَّشِطِ الفعّال”، وفي هذا الإطار فإن الشرك بالله -مثلًا- أمرٌ غير معقول؛ لكنَّ التوحيد معقولٌ بكلِّ شُعَبِه، والقرآن والإسلام بهذا المعنى يجعلان العقلَ يُسجِّلُ كل المسائل ويثبتها، وليس فيهما أيَّةُ مسألةٍ مخالفةٍ للعقل، ولم تُترك في أيٍّ من رسائل القرآن وأحكام الإسلام أيّةُ فجوةٍ ولا ثغرةٍ عقليّةٍ أو قلبيّةٍ أو روحيّةٍ أو حسّيّة، بل العكس؛ إذ الإسلام كان ولا يزال منبرًا للعقل السليم والمحاكمة العقليّة المبنيّة على الأسس والقواعد والمنطق المنظّم، وقد أفحَمَ الطرفَ الآخرَ ذا المغالطات والجدال والغوغائية غير المعقولة، وأنهى نضاله مع هذه الأمور بتحقيق النصر عليها” .
وبرغم كلِّ شيء فإنَّ العقلَ لا يقود بمفرده الإنسانَ إلى الصواب الـمُطْلَقِ، كما أنه لا يُمثِّلُ مصدرَ الصواب والحقِّ الوحيد؛ فقدرتُه على أن يكون عقلًا سليمًا مرتبطةٌ ببُعدِهِ عن كلِّ أنواع الأحكام المسبقة وتحقيق المنفعة الشخصيّة، كما أنه ينبغي أن تُرسَمَ له طريقٌ سليمةٌ لصالح فعالياته ونشاطاته؛ أي إنَّ العقلَ محتاجٌ في فعاليّاتِهِ إلى مرشدٍ ودليلٍ يهديه السبيل، هذا الدليل سينير له الطريق الذي يسلكه، وسيمنحه مقاييس ومعايير ثابتة لا تَضِلُّ تجعلُه يبصرُ وظيفتَه المطلوبةَ منه، هذا المرشد والدليل في الطريق هو”الخبر المتواتر”، وهو المصدر الثالث الأهمّ والأوثق في مصادر العلم.
ويمكن تناول الخبر المتواتر في عنوانَين أو فئتَين رئيسَتَين؛ الأولى: الخبر الذي نقلهُ جمعٌ يستحيلُ تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، ومُسْتَنَدُهم الحسُّ، ومن ذلك مثلًا أننا لا نرتاب في وجود أمريكا حتى وإن لم نذهب إليها؛ لأننا نحصل على الأخبار الخاصّة بها من مصادر لا تعدّ ولا تحصى، أما النوع الثاني من أنواع الخبر المتواتر فهو الذي يستند إلى الوحي، أي ما جاء به الأنبياء والمرسلون.
والاعتراض على قبول الوحي مصدرًا من مصادر العلم يجعل ساحة العلم مقصورةً ضيقةً على الخبرة والتجربة الحسية فحسب، في حين أن ثَمَّةَ مجالًا كونيًّا فسيحًا جدًّا يقعُ خارجَ هذه الحدود لا يسوغُ إقصاؤه، لأنّ إقصاءَه ونبذَه خارج حدود العلم -هو في رأيٍ- اعترافٌ بجهله؛ فالعلم يستحيل أن ينكر هذا المجال؛ لأن الإنكار حكمٌ، ومن ثم يضطر العلم إلى إثبات فناء وعدم وجود المجال الذي أنكره، وبالتالي فإن إنكار وجود مخلوقات طبيعتها ووجودها فيما وراء الطبيعة كالشيطان والجن والملائكة -كما يفعل الإلحاد- أو مخلوقات ذات صلة بالطبيعة وبما وراءها؛ ليس من العلم في شيءٍ، وإنما هو مجرد دوغماتية، وفي المقابل فإن الاعترافَ بوجود الله تعالى ووجودِ مخلوقات كالملائكة والجنّ والشيطان تصرُّفٌ علميٌّ صِرفٌ ولا يمتُ إلى الدوغماتيّة بأيِّ صِلة، وهو على عكس ما يزعمه العلم المادِّيُّ من كونه اعتقادًا أعمى؛ لأن ثمة معايير سليمة وعلمية بكلِّ جوانبها تُسوِّغ قبول هذه المخلوقات والاعتراف بوجودها؛ يأتي في مقدِّمتها أكثرُ من مائة ألف نبيّ لم تصحّ نسبة أي كذبةٍ إليهم طوال حياتهم، وقد أبلغوا أنهم خبراءُ هذا المجال، وأنه يُوحَى إليهم إلى جانب أنّه يأتيهم الإلهام، كذلك هناك ملايين الأولياء خُصُّوا بالإلهام ولم يثبت عليهم أنهم كذبوا أيضًا، وباستثناء هذا فهناك ضمير الإنسان والتجارب الوجدانية والروحيّة، وهناك أيضًا كثيرٌ من الناس التقوا بهذه المخلوقات وتحدّثوا معها يمثِّلون دليلًا آخر على وجودها.
إن عدم الاعتراف بكون الوحي مصدرًا من مصادر العِلْمِ سيؤدِّي إلى ردِّ وإنكار كلِّ كلام الأنبياء وجميعِ الكُتُبِ الإلهيّة، وإلى اتهامِ أكثر من مائةِ ألف نبيّ -هم أصدق البشرية وأكملها على الإطلاق، إذ لم ينشدوا أيّة مصلحةٍ أو أيَّ نفعٍ مادِّيٍّ طيلةَ حياتهم- بأنهم كذبوا -حاشاهم- على البشر وخدعوهم، ويؤدي أيضًا إلى اتهامِ مَنْ آمنوا بهم وساروا على دربهم منذ اليوم الأول في تاريخ البشرية من مئات الآلاف من العلماء وملايين الأولياء وغيرهم وغيرهم من ملايين الكُمَّلِ باتباعِ الكَذِبِ والخداعِ، وفوق ذلك فالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة يفيضان بالحقائق العلمية التي ثبتت صحّتها وصدقها بالتوازي مع التطوُّر العلمي، وهناك أيضًا كثيرٌ من الأخبار المتعلِّقة بالمستقبل ستثبت صحّتها حين يأتي وقتها، وهي ما لا يستطيع أحدٌ إنكاره.
الإسلام هوضامن الفكروالبحث العلمي
يقول الأستاذ فتح الله كُولَنْ: “إن هذا الدين الذي جاء بالقرآن والإسلام اسمٌ لَنظامٌ متكاملُ الجوانبِ يمكننا أن نسمّيه الغايةَ المُثلى، وأساسُ هذا النظام هو الإيمان والمحبَّة والعِشقُ وطريقُ البحث عن رضا الله تعالى”؛ وهو بذلك يؤكِّد أن طبيعة الإسلام ترمي إلى التجديد والتكامل دائمًا، وما ذلك إلا لامتلاكِها القدرةَ على الانفتاح إلى الأبد، كما يرى الأستاذ كولن أنَّ الإسلام رغم أنه يشجّع الفكرَ والبحثَ العلميَّ إلى ما لا نهاية، وأسَّسَ أعظم حضارة علميّة ومعنويّة في التاريخ اعتمدَت على العلوم وقطعت شوطًا كبيرًا بذلك؛ إلا أنَّ العدو الأكبر والسبب الحقيقيّ الذي أدَّى لاحقًا إلى انخماد عشقِ العلمِ لدى المسلمين وحَطّمَ سواعدهم وشلّ إرادتهم، وأدى إلى هزيمتهم وأَسْرِهم في العصور اللاحقة هو عدمُ وفائِهم للإسلام بالشكلِ اللازمِ .
العلاقة بين العلم والدين
ينظر كُولَنْ إلى الدين والعلم والإنسان والأشياء والحوادث نظرةً كلّيَّةً، ونتيجة لذلك لا يرى الإنسانَ مخلوقًا من جَسَدٍ فحسب، أو روحٍ فحسب، أو عقلٍ فحسب، ولذا فإنه يُـركِّزُ ويَقِفُ دائمًا على ازدواج العقل والقلب وضرورةِ تنشئة الإنسان تنشئةً كاملةً بدنًا وروحًا، وثلاثيّة المدرسة الشرعية والتكية والمدرسة الحديثة بهذا الغرض التكامليّ، كما أنه يقف بالشكل نفسه وبالحساسيّة ذاتها على تلازمِ الدِّين والعِلْم، وبحسبه:
“إن النظريات الوضعيّة والمادّيَّة قمعت الحياة الفكريّة والعلميّة تمامًا منذ قرنٍ أو قَرنين؛ فصار كلُّ شيءٍ يُفسَّرُ وفقًا لِفَهمٍ بعينه؛ وما ذلك إلا نتيجة لإرجاع تفسير الكون والحوادث إلى نمطٍ واحدٍ، وضُيّقت الطرق المؤدّية إلى الحقيقة، ورُبط كلُّ شيء بالطبيعة والمادة، وأُهملت الأوساط الميتافيزيقية تمامًا”.
وفُصِمَ العِلْمُ عن الدين في هذا العصر، وفي الوقتِ الذي اعتُبِرَ كلُّ ما ارتضاه العِلْمُ حقيقةً؛ اخْتُزِلَ الدِّينُ في مجموعةٍ من النصوصِ معتمِدةٍ على التقليدِ لا حرجَ في الإيمان بها أو إنكارِها، وفي صورة قضية وجدانية ومجموعةٍ من التعاليم الأخلاقية ربما يُرَجَّح الإيمان بها في سبيل راحة بعض الأشخاص ليس إلا، ونتيجة لهذا ففي بعض الدول الإسلامية مثل تركيا -بصفة خاصة- التي وقعت في تقليدٍ أعمى للغربِ متبلِّدٍ محرومٍ من البصيرة والإدراك:
“أخذت الخيالية مكانَ عشق الحقيقة، والقَولبةُ مكانَ الأخلاق البحثية، وتعرضت الحياة الفكرية برُمّتِها لاحتلال الدوغماتية، وفي النهاية شُلّ الفكرُ العِلمي الحقيقيّ، وصار الإنسان يتخبّط ويتناقض مع عقلِه وفكرِه وروحِه، وصارت روحُه وكأنها غريبة أمام حقائقها الداخلية وفي مواجهة هذه الابتزازات والفروض المتتالية” .
أ. تعريف العلم والدين
بعد هذا المدخل الذي يقدم به فتح الله كُولَنْ للعلاقة بين العِلم والدِّين عبر التاريخ وبالمعنى الأصلي الحقيقي ينتقل إلى تعريف العِلم والدِّين ليزيدَ الموضوعَ توضيحًا؛ فيعبّر في هذه المرة عن تعريف العلم الذي عرضنا له آنفًا تعبيرًا مختلفًا في إطار العلاقةِ بين الدين والعلم؛ فيقول:
“يُشكِّلُ العلم جانبًا ظاهريًّا من الحياة الفكريّة، وبُعدًا خارجيًّا منها، ويمكن تلخيص موضوعه في أنه تنظيمُ المعلومات المنفردة المستحصلة على طاولة الأشياء والحوادث، وضبطُها وفقًا لقواعد معيّنة، وإن نظرنا إلى الموضوع نظرةً فلسفيّةً بعضَ الشيءِ فالعِلْمُ هو العلاقةُ الداخليّة بين الموضوعيِّ والشخصيِّ في المعنى، وبعبارةٍ أخرى: العلمُ هو النظام الذي يتناول الأشياء الداخلة في ساحة الحواس، والتي يمكن تجربَتُها”.
ويقف فتح الله كُولَنْ بعد تعريفه العلم على كيفية فهم الدين في الغرب سابقًا؛ فيُقدِّم تعريفاتٍ حوله لبعض كبار علماء الأنثروبولجيا والاجتماع والفلاسفة الغربيِّين، ليتعرَّض لها بعد ذلك بالنقد الجوهري الموجز، ثم يؤكِّد بصفةٍ خاصَّةٍ على أن مثل هذه التعريفات، منذ “دورخيم (Durkheim)” وحتى “رادولف أوتتو (RudolphOtto)” وغيرهما من مئات علماء الاجتماع والمستشرقين ومؤرِّخي الأديان ورجال العلم بل وانتقاداتهم وتفسيراتهم أيضًا؛ وإن أفادت شيئًا بالنسبة لأيِّ دِينٍ غير الدين الإسلامي من الأديان السماوية وغير السماوية؛ إلا أنها لا تعني شيئًا إذا ما ذُكر الإسلام، وتظل عبارةً عن شروحٍ منقوصةٍ ومعيبةٍ تقريبًا، ثم يقف على معنى الدين بالنسبة للإسلام فيقول:
“إنَّ الدين بالنسبة للإسلام مجموعُ القوانين الإلهيّة التي تُخْبِرُ أولي الألباب بالغاية من الخلق، وتحُثُّهم على الصلاح والفلاح والكمال في حاضرهم ومستقبلهم في إطار هدي رسول الله وبإرادتهم الحرّة؛ علاوةً على أنَّه يَعِدُهم بتوفير احتياجاتهم المادية والمعنوية، إن الإسلام بعالميّتِهِ شَمِلَ الفردَ والمجتمع على مرِّ العصور واحتواهما، وأخضع حياة الإنسان للنظام والمراقبة حيث وازنها بروح الكون، والكتابُ والسنَّةُ أكبر ضمانٍ وأقوى مرجع لهذا المحتوى، وإلى جانب ذلك فإنَّ تصوُّراتهما في بعض المجالات التي تبدو وكأنها مُغلقة، وفكرة المؤمن النشطة التي تدور دائمًا في محور “الله – الكون – الإنسان” غايةٌ في الوسعة والرحابة، وتُعَدُّ مصدرًا غنيًّا لدرجة أنه لا يترُكُ مجالًا لأيّ فراغ علمي وفكري” .
ب. حقائقُ الدين السامية
ويلفت كُولَنْ الانتباهَ بعد ذلك إلى وجودِ عناصرَ سامية في الإسلام كما هو الحال في كلِّ دِين؛ فالإسلام -عنده- ليس مجرَّدَ قناعةٍ أو أسلوبٍ ونمطٍ فكريٍّ؛ إنه إلى جانب هذا كله نظامُ شعورٍ وإحساسٍ واسع، وتصرُّفٌ واعٍ محكمٌ، وحركةٌ وعملٌ منظَّمٌ، ومحاسبةٌ دائمةٌ، والواقع أنَّ اعتبار الدين مجرَّد “علم وفلسفةٍ” خطأٌ فادحٌ، وبالطبع فإنَّ إدخاله تحت وصاية العلم والفلسفة وربطَ قَدْرِهِ وقيمتِهِ بالرجوعِ إليهما واعتبارِهِ صحيحًا من نافذة العلم والفلسفة وانتقاده ومساءلتِهِ… كلّ هذا ليس صحيحًا على الإطلاق؛ إذ لا معنى لكون الدين إلهيًّا وسماويًّا إن كانت الحقائق الخاصّة به ستُحدّدُ وتوضع وفقًا لمبادئِ المنطِقِ والتجربة والملاحظة، وبالتالي فإنه وإن كانت للدين علاقةٌ بالعِلْمِ وبأسبابه مثل الحواسِّ والعقل والتجربة بقدر معيّنٍ؛ فمِنَ المؤكَّدِ أن العلم ليس نتاجها ولا ثمرتها، وأهميّة المحاكمة العقليّة والمنطق والعقل في فهم الدين وتمثيله واضحةٌ بحيث لا تقبل النقاش، غير أن للدِّينِ بضع جوانب تسمو على العقل والمنطق والمحاكمة العقلية وتُشكِّلُ أحدَ أهمِّ أعماقه، ويستخدم الدينُ العقلَ والمنطق والمحاكمة العقلية في كلِّ أمرٍ تقريبًا -مثله في ذلك مثل العلم- إلا أنَّ أسلوبه في الاستدلال سماويٌّ يعتمد على الله تعالى وعلى الإيمان به أوَّلًا، وعلى قبول أسس الإيمان الأخرى كذلك، ولا ريب في أنَّ لكلٍّ من العقل والمنطق والمحاكمة العقلية والبحث مكانته في الإيمان، إلا أنها ليست كافيةً؛ فالقلب والوجدان والروح والحبّ السليم الصحيح والإلهام مهمَّةٌ كلُّها بقدر أهمّيّة العقل والمنطق، بالإضافة إلى أنَّ تطبيقَ الدين -ولا سيّما التجربة الداخلية القلبية التي يتوصَّل إليها بالعبادات- من أهمِّ الوسائل والوسائط في الوصول إلى ساحة الوجود والحقائق الغيبيّة التي لا تدركها الحواسّ ويعجزُ العقلُ عن إدراكها،
وهي موجودةٌ في أساس الدين، وما يتوصَّل إليه من حقائق بواسطتها ليس أقلَّ موضوعيّةً من الحقائق التي يُتَوصَّلُ إليها بالعقل والحواس والتجربة التي هي من أسباب العلم، ومن هذه الناحية فإن الدين يُقَدّرُ العقل والفكر والملاحظة والتجربة دائمًا، إلا أنه لا يعتبرها مصدره وأساسه الأصلي.
ج. العلاقةُ بين العِلْمِ والدينِ في الإسلام
إنَّ فتح الله كُولَنْ الذي يتناول العلاقةَ بين الدين والعلم في الأديان القديمة، وكذلك في المسيحيّة واليهودية بطبيعتيهما، بالإضافة إلى العصور الوسطى والحديثة يتطرَّقُ إلى العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام بقوله:
“إن الإسلام بكلِّ مؤسَّساتِهِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيَّة والثقافيّة، ونظرتِهِ الواسعة العالمية، ووعودِهِ للإنسانية، وأُسُسِهِ النظريّة والعمليّة التي أقرَّها هو طريقُ الله ومنهجُه الذي ارتضته وسترتضيه الضمائر، ورجعت إليه العقول، وصدَّقَتْهُ المحاكمات العقليّة، وتحوَّلَتْ في ظِلالِه حقيقةُ “الله – الوجود – الإنسان” إلى اطمئنانٍ في الأرواح، فصار كل منها معرفة متفرِّدَةً، ممّا يجعل الجزءَ كُلًّا متكامِلًا، أُرجع فيه كُلُّ شيءٍ إلى التوحيد بحيث يُفهَمُ كُلّه؛ أي اعتُمِدَ فيه على واحدٍ؛ على المصدرِ والوحدةِ ذاتها، وصينت فيه أُطرُ القيم والشرف والعلاقات وحدودها، ووُجِّه الإنسان إلى عالمٍ أبديٍّ هدَفُهُ السعادةُ الأبديّةُ وفقًا لرغباته الأبديّة المكنونة في روحه وبِقَدْرِ أعمالِهِ القلبيّة في نقطة الْتِقَاءِ العقلِ والقلبِ والروحِ.
وقد بدأ القرآن أصلًا بالأمر “اِقرأ”، فحوّلَ الأذهانَ إلى الكون في زمانٍ لمَّا يوجد فيه أيّ شيءٍ يُقرأ، وبعبارةٍ أخرى يَعْتَبِرُ الإسلامُ الكونَ كتابًا مخلوقًا بقدرة الله وإرادته، والقرآنَ -مع تعريفه الكون- كتابًا موحًى يَفتَحُ ذهنَ الإنسان وقلبَه على الحقائق وعوالم ما وراء المادة فيوصِّله إلى الله تعالى، وكأن الكونَ آلة والإسلامَ دليلٌ يوضِّحُ طريقةَ استخدامه والاستفادةَ منه، ويدعو الناس إلى التعقُّلِ والتدبُّرِ والبحثِ والمحاكمةِ العقليَّةِ والتدقيقِ والتفحُّصِ، علاوةً على أن القرآن الكريم فيه الكثير من الإشارات إلى الحقائق العلمية التي أثبتَ العلمُ مجموعةً منها بمرور الزمان ومجموعةٌ منها تنتظرُ البحوث والدراسات العلمية، ويذكُرُ القرآنُ الكريمُ هذه الحقائقَ كأدلَّةٍ لمقاصدِهِ الأصليّةِ “التوحيد والرسالة والحشر والعبادة والعدالة”، ثم يدعو أصحابَ العقولِ والمحاكماتِ العقليّةِ والبصائرِ والحسِّ السليمِ إلى دراستها.
أجل، لقد انتهجَ القرآنُ الكريمُ نهجًا ينبِّهُ فيه الأذهان دومًا إلى الحقيقة، وقَدْحِ زناد الفِكْرِ أمام الحوادث كلِّها، ووَهَبَ العقلَ قدرةً على الحركة اللامحدودةِ بأنظمةٍ وحقائقَ إرشاديةٍ حيث أزال الموانع كلَّها من أمامه، وأظهر للإنسان مزيدًا من الحقائق كاكتشافِ حقيقةِ الوجود، وأوصاه بأن يُعلِيَ همَّتَهُ دائمًا.
وإن كان ثَـمَّةَ أيُّ نوعٍ من التناقضِ بين العلم وبين تفاسير أحوال بعض الأديان الراهنة وتحليلاتها فإنَّ وضعًا كهذا ليس مطروحًا على الإطلاق بالنسبة للإسلام الذي مصدره القرآن الكريم والسنة؛ فالإسلام لم يمنع أصلًا العقلَ والمحاكمةَ العقليةَ من النشاط والفعالية قط، بل على العكس من ذلك حَمَّلَ العقلَ مسؤوليّاتِ الاعتبار والتفكُّر والتدبُّر والاجتهاد والإنشاء، وأمره أن ينسج هو وجميعُ أعضاء الحسِّ شريطةَ زينةِ قدرتِه الخاصةِ مستنيرًا بأشعَّةِ الوحي المنيرة، ومن هذه الناحية فإنه وإن كان تدريسُ العلوم الطبيعية قد أُخرِجَ من برامج المدرسة الشرعية في عصور تأخُّرنا وتراجُعنا، فإنه لم يقع في أيِّ وقتٍ قطُّ صراعٌ بين العلم والدين يشبه ما كان في الغرب على وجه الخصوص، ولم يكن من الممكن أن يقعَ، وذلك للأسباب التالية:
“الإسلام من حيث مَصادِرُه التي تُغذِّيه وتَمدُّه دائمًا -كالقرآن الكريم والسنَّة النبويّة- لم يقيِّد العقلَ والمنطِقَ والمحاكمةَ العقليّةَ والفكرَ الحرَّ بل تركها حرّة بقدر أطرها، وشَجَّعَ الإنسانَ على تحليل الوجود والحوادث كلَّما سنحت له الفرصة.
الإسلامُ منفتحٌ بمرونةٍ ورحابةٍ فائقةٍ على التفكُّر والتدبُّر والتأمُّل بحسب سمتِهِ وطبيعتِهِ الخاصّة؛ ولذلك فإنه لا التحليلات والتفسيرات الجديدة التي سيأتي بها، ولا الاحتياجات والضرورات -والواقع أن هذه اعتبرت أساسًا لمجموعة من الأحكام بالنسبة لمبادئه الأساسية- استطاعت أن تضغط على إطاره المحيط، بل إنها تكوّنت في توافقٍ دائمٍ معه، كما يحدث من تشكل وتطوُّرٍ وتوسُّعٍ في جيلٍ طبيعيٍّ، وصار نقشًا ينعكس عليه خارجيًّا.
إن مُبَلِّغَ الإسلام ومُمَثّلَه تلك الشخصيّة العظيمة محمد  نظرَ إلى الحِكمة والحقيقةِ على أنهما ضالة المؤمن، وأوصى بالبحث عنهما والاستفادة منهما أينما وُجِدَتا فقال:
“الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا” .
إن الحادثة التي تُعرَضُ على مرِّ التاريخ البشريِّ على أنها صراع الدين والعلم هي في واقع الأمر صراعُ رجال العلم المحرومين منه ورجال الدين الذين لم يفقهوه، أما الإسلام فلا كهانة ولا رهبانية فيه، ولم تكن فيه طبقة كُهّان ولا رهبان في أيِّ زمنٍ قطّ، فتدفع مجموعة من الاعتبارات في وجهات النظر بين رجال العلم والمتديّنين أو الاهتمام بالمصالح الشخصية إلى مثل هذا النوع من التضارُبِ والتشاجُرِ.
لقد تجانس الإسلام وتواءمَ مع العناصر الضرورية والمواد الأساسيّة لروحه كالعِلم والفِكر والمحاكمةِ العقليّةِ، وليس من المطروح أبدًا أن يتصارعَ ويتناقض معها، ليس مطروحًا ذلك؛ لأن صراعًا ونزاعًا كهذا يعني اختلافَه وصراعَه مع نفسه. أجل، وكما أن العلم أساس الوجود، فإن خطَّتَهُ وبرنامجه وهيكلته تجري دائمًا بناءً على أُسُسِهِ، والقرآن الكريم في الأساس ترجمة أزلية للوجود، وبيان تحليلي له، ولسان طلق يعبر عنه، ولذلك فمن المؤكد أنَّ تناقضه وتعارضه مع الأشياء والحوادث ليس واردًا.
وبهذا فكما تتعذَّرُ مقارنة الإسلام أصلًا بغيره من الأديان؛ فإنه يستحيل أيضًا الحديث عن حرب الدين الإسلامي وصراعه مع العلمِ والفكرِ ورجالِ العلم، وثَمَّةَ مجموعةٌ من البيانات والتصريحات اليوم ما هي إلا مفاهيم وأفكار عامّة طُرِحَت دون دراسةٍ لروح المسألة أو أنها حُجَجٌ واهيةٌ اختُلِقَت من أجل خلق عداوةٍ لله والرسول والدين” .

التبليغ بالإسلام بواسطة العلوم الطبيعية والتقنية
يذكر فتح الله كُولَنْ أنَّ العلم جُعِلَ أداةً للإلحاد في حين يجب أن يكون وسيلةً للإيمان، ولا يرى بأسًا في الرجوع إليه -أي العلم- عند شرح الحقائق الإسلامية والقرآنية وإثباتها، بل إنه يؤكِّدُ على ضرورة الرجوعِ إليه؛ ذلك لأن العِلْمَ هو الذي سيسيطر وتكون له الكلمة الأقوى مستقبليًّا، كما أن عصرنا الحاضر هو عصر العلم، ومن هذه الناحية فربما يكون من الأنسب والأوفق عند الحديث عن الإسلام في يومنا الحاضر وفي المستقبل أيضًا أن تُستخدمَ لغةُ العلم في شرح تلك الحقائق الكونية التي تُشكِّل موضوعه بكلِّ شُعَبِهِ وفُرُوعِهِ، وربما الحقائق الإسلامية؛ حيث إنها تعبير عن الحقيقة نفسها بمواد مختلفة، بالإضافة إلى أنه لا يوجد في الإسلام أيُّ شيءٍ على الإطلاق يُناقِضُ العلمَ ويتعارضُ معه، وإن زُعم وجودُ أيِّ نوعٍ من التناقض والتضادّ بين العلم والإسلام في أية مسألة فما هذا إلا لأن العلم لما يَقُلْ كلمته الأخيرة في تلك المسألة ولمَّا يدرك الحقيقة، أو لأنه استحال فهمُ حُكْمِ الإسلام في هذا الشأن ووعيه بشكلٍ تامٍّ.
ونظرًا لما وقع من أخطاء وتفريطٍ في هذا الموضوع فإنَّ فتح الله كُولَنْ يلفتُ الانتباهَ إلى الأمور المهمة الآتية؛ فيقول:
القرآن ليس كتابًا في علم الطبيعة والكيمياء والأحياء والفلك؛ إن مقاصدَ القرآن الكريم الرئيسة هي -وكما سبق عرضُهُ- إقرارُ أُسُس الإيمان وحقيقةِ العبادة والعدالة بالأذهان والقلوب، وإرشادُ الناس في هذا الشأن؛ ويستخدم القرآنُ الكريم القضايا التي تُشكِّلُ موضوعَ العلوم الحديثة اليومَ بصفةٍ خاصَّةٍ كلّما لزم الأمرُ وبين قوسين؛ كمجرَّدِ دليلٍ فحسب في إقرار مقاصده الرئيسة الخاصّة به في الأذهان والقلوب، وحين يستخدمها يختار أسلوبًا يفهمه الجميع، ويطمئنون إليه؛ إذ إنَّه يخاطب الجميع منذ اليوم الأول لنزوله إلى أنْ تقوم الساعة.
يحترم القرآن الكريم فهمَ العامَّةِ وأحاسيسَهم وملاحظاتهم، ولا يدفعهم إلى التعقيد الذهنيِّ حين يتناول هذا النوع من المسائل التكوينيّة دليلًا؛ إذ لا يُعقَلُ أن يكون الدليل مبهمًا وخفيًّا عن القصد؛ لأن معظمَ الناس من العامة.
إن التعبيرات القرآنية الكريمة المتعلّقة بالمواضيع العلميّة صحيحةٌ على الإطلاق، غير أن ما في هذه العبارات من معانٍ ومقاصد قُدِّمَت في كثيرٍ من المرَّات -وإن لم يكن دائمًا- بأسلوبٍ ملائمٍ للتفسير والتحليل؛ ولهذا فإنها تفتح بابًا للعلم والبحث والدرس، بل إنها تُشجِّع عليه.
والعلم حزمةُ نظريَّات؛ وقد يَثْبُتُ خطأُ النظريّاتِ التي يطرحُها، فيطرحُ غيرَها حينئذٍ؛ ومِنْ ثَمَّ يفتح البابَ للبحث بهذه الطريقة، وبالتالي فإنَّ علمًا لا يبدو تحليله وإدراكه أمرًا ممكنًا وواردًا ماثلًا للعِيان كالإنسان يتعذَّرُ التسليم بأن تَصدُقَ تمامًا نظرياته بشأن أمور يصعب عليه إدراجها في مجال دراسته وملاحظته مباشرة، ومن هنا فإنه ينبغي عدم الاعتراض مطلقًا على آيات القرآن اعتمادًا على مجموعة من الاكتشافات والمعطيات العلمية، ولا بدَّ من انتظار التطوُّرات التي سَيُسفر عنها الزمان إذا ما بدا أنَّ هناك نوعًا من التناقض، ويجب الإيمان بالحقيقة التي تَفضَّلَ الحقُّ تعالى ببيانها، يجب ذلك حتى وإن لم يتسنَّ بعدُ الكشف عن تلك الحقيقة بمعناها الكامل.

ماهية الإنسان ومكانته بين الموجودات
الإنسان بماهيته وقيمته العالية بين المخلوقات وتردُّدِه كالمؤشِّرِ أو كالإبرة بين المقام الرفيع (أعلى علّيّين) وأدنى الدركات (أسفل سافلين)، ومكانته بين الموجودات ووظيفته ومهامه يشكّل واحدًا من المواضيع التي ركَّزَ عليها فتح الله كُولَنْ باهتمامٍ شديدٍ.
سماتالإنسانالوجودية
ينظر فتح الله كُولَنْ إلى الإنسان أولًا في إطار قول الشاعر:
دواؤكَ فـيــك ومــــا تُـبـصِــر وداؤكَ مـــــنــــــكَ ومــا تَـشْــعُــــــرُ
أتحسَبُ أنّــك جـــرمٌ صغيرٌ وفيــكَ انطوى العـــالمُ الأكــبرُ

أي إنَّ الإنسان وإن كان يبدو بالنسبة إلى مظهرِهِ وطبيعتِهِ وكأنه “جِرم” صغير؛ فإنه أسمى من الملائكة باعتبار ماهيته؛ إذ تتجلّى فيه جميعُ أسماء الله تعالى التي تمنح الكونَ الوجودَ، ولذلك فإن خلاصة العوالم والوجود كامنةٌ فيه، ومثلما أن الفاكهة نتيجةٌ وخلاصةٌ وجوهرٌ يحوي في داخله -بشكلٍ أو بآخر- حياةَ الشجرة وجميع عناصرها؛ فالإنسان يُمثِّلُ باعتباره شمرة شجرة الخلقة الغايةَ من الخلق والنتيجة والخلاصة التي تحتوي في ذاتها كلَّ شُعَبِ الوجود.
وهكذا فإن فتح الله كُولَنْ الناظر إلى الإنسان من هذه الزاوية الوجودية يرى أنه لا يمكن إنتاج فلسفة ولا الوصول إلى العلوم ما لم يوضع الإنسان في الحسبان، ويبدو أنَّه يُقيّمُ الإنسان ويعتبره موجودًا يصعبُ فهمه بكلِّ جوانبه نظرًا لموقعه ومكانته عالية الخصوصيّة بين الموجودات؛ إذ توجد فيه جميع العوالم والموجودات المخلوقة بكل خلاصتها وماهيَّاتها الخاصة، ولذا فإن فهمَ الوجود ينبعُ -في رأيٍ- من التعرُّفِ على الإنسان أو فهمِه، والأمر لا يقف عند هذا؛ ففهم الإنسان هو الوظيفة الأولى بالنسبة للإنسان نفسه؛ ذلك لأنه يُمَثِّلُ في الوقت ذاته النافذةَ المنفتحة على التعرُّف على الخالق، وهنا يصل فتح الله كُولَنْ إلى هذا الحكم:
“الوظيفة الأولى للإنسان هي اكتشافُ نفسه وتعرّفُه عليها، ثم التوجّه إلى ربِّهِ بعد وضوح ماهية نفسه أمام عينيه، أما الذين لا يتعرّفون على ماهيّة أنفسهم ولا يدركونها ولا يستطيعون تأسيس علاقة مع خالقهم الجليل… هؤلاء من ذوي الحظوظ النكدة، يمرون بهذه الدنيا ويفارقونها وهم لا يعرفون قيمة الكنـز الذي يحملونه بين جوانحهم كما يمُـــرُّ الحمَّالون الذين لا يعرفون قيمة ما يحملون من كنوز” .
ماهيَّةالإنسان وسِمَاتُه وبنيتُه الخاصَّةبِذَاتِهِ
يحاولُ فتح الله كُولَنْ دراسةَ الإنسان بجوانبه الـمُشَكِّلَةِ له والخاصة به؛ إذ إنَّ أوَّلَ أمرٍ مُلفِتٍ للانتباه في الإنسان يُفصِحُ عن نفسِهِ بمجرَّدِ مجئيه الدنيا؛ فبينما كلُّ كائنٍ حيٍّ غير الإنسان حينما يأتي الدنيا يأتيها وكأنَّه رُبّي ونشِّئَ في عالَمٍ آخر؛ فَيَطَأ الدنيا وكأنه على معرفة بقوانين الحياة، يظهر هو -أي الإنسان- أمامنا وكأنه محرومٌ من الوظائف والمهام الضرورية للحياة، برغم كونه أكثرَ المخلوقات تقديرًا وإجلالًا وتبجيلًا، وهنا يتشكَّل كلُّ شيءٍ يتجاوز نظام وجوده الحيواني الذاتي في ظلِّ العقل والذهن والإرادة والحرية والحسِّ والمراقبة الداخلية؛ فيصل بهذه الصورة إلى تكامله الداخلي والخارجي، ويصل أيضًا إلى ذاتية كُنْهِهِ عبرَ هذا الطريق فحسب .
وثمَّةَ أمرٌ آخر مهمّ لدى الإنسان يلفت الانتباه إليه ألا وهو العقل؛ حيث يتناوله كُولَنْ في إطار تعريف الفلسفة فيقول:
“العقل مَلَكَة تستخرج الأحوال الخاصة مما هو عام انطلاقًا من القوانين والمبادئ”.
ويرى أن “العقل الفَعَّال” بصفة خاصَّةٍ هو الأساس في الاختلاف بين ماهية الإنسان والحيوان، وهذا نعمةٌ خاصة بالإنسانية، ويردف قائلًا:
“الإنسان مطالَب بأن يُنَمِّيَ ويُبرز هذا الفرق الجوهري بينه وبين الحيوان”.
ثم يقف عند نقطةٍ مهمَّةٍ حقًّا فيقول:
“يصبح العقل شريانًا رئيسًا بين العالَم الداخلي والعالَم الخارجي، ثم ما يلبث أن يتَّخذ هُويَّةً مختلفةً تمامًا حين يتّحد مع “الوجدان”، إن الوجدان أيضًا يصبح من الناحية العملية كذلك “عقلًا” يَحكُم ويُحدِّد حركَتَنا واتجاهَنا، والغايةُ الـمُثلى والمثاليةُ الأسمى في تفكير العقل وأدائِهِ وظيفته وواجبه هي الوصول إلى معرفة الله تعالى، والعقلُ أو الذهنُ الواصلُ إلى هذه المعرفة قد وصل إلى الكمال ودخل في حيِّزِ التكليفات الوجدانيّة” .
ويرى كُولَنْ أنّ حريةَ الإنسان تُمَثِّلُ إحدى السمات التي تُشَكِّلُهُ؛ أي اختياره حركاتِهِ وأفعالَهُ وامتلاكَهُ “استقلاليّةً” عبر عقلٍ مفكِّرٍ وفعَّالٍ؛ حيث يرتقي الإنسانُ في ظلِّه إلى ما فوق الطبيعة كلِّها بأحيائها وجماداتِها، ويكتسب القدرة على التحكّم في حركاته ومحاسبة نفسه؛ فالحرية النابعة من إرادة الإنسان، أي إنَّ هذا الجانب الاختياري في الإنسان المتحرِّرِ من قيود الجبرية التي تتخطّاه؛ في إطار “الطبيعة” التي تسيطر عليها جبرية قسرية، هذه الخصوصية البعيدة عما في الطبيعة من قوانين تضعُ الإنسان في مواجهة مع سلسلةٍ من المبادئ الأخلاقية، علاوة على أنها تجعل الإنسان مخاطبًا ومؤهَّلًا “لعالم سَامٍ رفيعٍ”، وتضعه في مكانةٍ تمكِّنه من الوفاء بمسؤوليَّات هذا الوضع، ومن التمييزِ بين الخير والشر عبر التلقين الخارجي والمشاهدة الداخلية، ثم تَفتحُ المفاهيمُ والمعاني المتعلقةُ بالعالم الخارجي منافذَ إلى ما وراء عالم الممكنات حيث تجدُ صداها في الوجدان على هيئة حُزَمٍ نورانيةٍ، وتثبت صحتها؛ فيشعر الإنسان في هذه المرحلة أنه يترقى مباشرةً من الأبعاد المكانية التي يعيش فيها نحو الآفاق العُلَى .
ويَعُدُّ فتح الله كُولَنْ الفكرَ سمةً أخرى من أهم السمات الإنسانية؛ فيرى أن الإنسانَ مخلوقٌ متشكِّلٌ وفقًا لعالمه الفكري الخاص فيقول:
“إن الإنسان مرشَّحٌ ومهيَّأٌ بقدر طريقة تفكيره وبحسبها لأن يكون على قدر استعداده، وطالما استمرّت نَظْرَتُهُ إلى الأشياء والحوادث وفقًا لفكرةٍ معيّنٍة يكتسب من حيث بنيتُه الشخصيةُ والروحية -وبشكل تدريجيّ- هُويةً وفقَ منهج تلك الفكرة التي يحملها”.
ويرى أنه أيًّا كان ما يمثله التراب والهواء والمطر والشمس بالنسبة لبَذرَة دُفِنَت في باطن الأرض؛ فإن النيةَ والرغبةَ الخالصةَ والفكرَ أيضًا طلبٌ سامٍ ونبيلٌ، أي إنَّ الاشتياق يعني الشيءَ نفسه بالنسبة للاستعدادات المكنونة في الإنسان، أي القابليات والملكات المفطورة الكامنة فيه، والنية والفكر -بحسب رأيه هو أيضًا- تضطلع بدورها بالدرجة نفسها في تطوُّرِ وتنامي الأخلاق الحسنة والشخصية لدى الإنسان؛ فالروح السامية والسِّمات الكاملة تنبع من الأفكار الحسنة والنيات الطيبة؛ إذ إنَّ الفِكرةَ بَذْرَةٌ، وتصرفاتنا براعمُها، وأفراحنا وأتراحنا ثمارُها، وكما قال الشاعر:
كُنْ جميلًا ترى الوجودَ جميلًا
فمن يفكِّر تفكيرًا طيِّبًا تخضوضِرُ في روحِهِ بذورُ الأشياء الطيبة، وتعيش في جنان فؤاده .
وهكذا يلفت فتح الله كُولَنْ الانتباهَ إلى العناصر التي تُمَيِّزُ الإنسانَ، ويَسُوقُ للتأمُّلِ والتدبُّر فرقًا آخر مهمًّا يفصل بينه وبين الحيوان؛ فيقول:
“كلُّ مخلوقٍ غيرِ الإنسانِ يُستَركَضُ وراء منفعته الخاصَّةِ ومصلحتِهِ الشخصية وتوازن الكون؛ إلا أن الإنسان ينشد معنًى وروحًا تتجاوزُ ذاتَه والوجودَ كلَّهُ والعوالمَ أجمع على حدٍّ سواء، الحيوانات ليس لديها شعور بالدين، ولا هَمٌّ أخلاقي، ولا نضالٌ من أجل الفضيلة، ولا سعي من أجل الفنّ، بينما الإنسان هو الضيف الأوحد لهذه القصور الزمرُّديّة المنفتحة على مشاعره. أجل، إنه المخلوق الوحيد الذي وُلِدَ تَوأمًا للدين ومقرونًا به، وحُوِّطَ بالأخلاقِ ولُفَّ بها، ووَقَفَ عمرَه لتتبُّعِ الفضيلةِ وطلبِها، وعَبَّرَ عن نفسه بواسطة الفنِّ، علاوةً على أنه موجودٌ مجهَّزٌ بالمشاعر السامية الرفيعة، مستعدٌّ ومؤهَّلٌ للفضيلة، عاشقٌ للأبديّة والخلود؛ فثمَّةَ مناخٌ يشبه قوسَ ألوان الطيف تُكوِّنُه فكرة الأبدية، وعشقُ الجمال والشعور بالفضيلة مكنونٌ وموجودٌ حتى في روح من يبدو وكأنه أبْأَس وأتعس إنسان، وكلُّ صوتٍ ونَفَسٍ، وكلّ لونٍ وخطٍّ، وكلّ شكلٍ وصورةٍ بدءًا من الآثار البسيطة التي يصنعها الإنسان ويكوِّنُها وصولًا إلى الخوارق الفنّيّة التي تبلغ الخلودَ بفضل المعاني والقيم التي تعبر عنها هي أطيافٌ خاصّةٌ به تنساب من جوهره الفطريّ وتفيض من أعماقه” .
الإنسانيةالحقةوالتربية
إنَّ الإنسان خُلق خليفةً للخالقِ تعالى، وسيِّدًا وحاكمًا لكلِّ شيءٍ في الوجود؛ أي إنه يتعرَّفُ على بيئته في الأرض، ويستقرِئُ الكون، ولكنه لا يتعالى على غيره بما أسَّسَهُ من العلوم بهذه الطريقة، ولا يُـحَـقِّـقُ منافِعَهُ ورغَبَاتِهِ الشخصيّة، بل سيتدخَّل -وفي إطار ما سمحَ الله تعالى له به- في الطبيعة لإعمارها، وسيعمر الدنيا، ويحقِّقُ العدالة، وسيخطِّطُ أفكاره ومشاعره ويُرتِّبُها بإيمانه مدى العمر، ويُنظِّم حياتَه الشخصية والاجتماعية، ويوازن بين معاملاته العامة وعلاقته الأُسَرِيَّة والمجتمعيّة، ويُعلي رايةَ نوعه البشري في كل مكانٍ بدءًا من أعماق الأرض وصولًا إلى فضاءات السماء، ويسعى للوفاء بحقوق إرادته، سيسعى لذلك؛ فيحافظ على التناغم بينه وبين الوجود حيث يعمر البسيطة، ويستعين بثروات السماء والأرض، ويسعى لجعل لون الحياة وشكلها ولهجتها إنسانية المستوى في دائرة أوامر الخالق وحدود ما يسمح به تعالى .
لقد خلق الله تعالى كلَّ واحدةٍ من الأوصاف التي استلزمتها تلك المرتبةُ الرفيعةُ في صورةِ نواةٍ في عجينِ أو ترابِ خَلْقِ الإنسانِ الذي أرسله إلى الدنيا مُكلَّفًا بوظيفة مهمَّةٍ على هذا النحو؛ فقد اصطفاه الله، وجَعَلَهُ مرآتَهُ اللامعة، وجوهرَ الكون أجمع، وأرسله إلى هذا العالم عبدًا له  وقد منحه القدرةَ على اكتشاف ما في روح الكائنات من أسرار، وإظهارِ ما في باطن الأرض من قوَّةٍ وقُدْرَةٍ وإمكانيَّات كامنة، كما منحه الحقَّ لأنْ يكون ممثّلًا واعيًا مدركًا لصفاته الخاصة “العلم والإرادة والقدرة” مستخدمًا كلَّ شيءٍ في محلِّه حتى لا يعوقه أيُّ شيءٍ أو مانعٍ بينما يتدخّلُ في الوجود ويؤدِّي وظيفةَ الخِلافةِ فيه، وحتى لا يعيش أيَّةَ تناقضات في علاقاته بالأشياء، وحتّى يتمكنَ أيضًا من التجوال في ممرَّات الحوادث ودهاليزها، ولا يَشُقَّ عليه اكتشاف الملكات المفطورة والمكنونة في طبيعته، ولا يعْلَقَ بأية موانع وعراقيل غير متوقَّعةٍ عند تحقيقه رغباته وآماله الممتدة نحو الأبد.
ونشوءُ هذه البذور ونموُّها واستحالتُها شجرةً مُثْمِرةً طاهرةً، ومِنْ ثَمَّ حصولُ الإنسان على وجودٍ جديدٍ مكتسِبًا سِمَةً رفيعةً كهذه مرتبطٌ ومرهونٌ بتفكيره بانتظام، وعمله على الدوام، وتعمُّقه في حياته القلبيّة والروحيّة دون توقُّفٍ ولا انفصام، ولا تتكشَّفُ هذه المَلَكاتُ التي هي عبارةٌ عن نيَّةٍ بداخله ورمزٌ مكنونٌ لِيُصْبِحَ رجلَ المستقبلِ العظيمِ إلا بالتربية والتعليم، وتكتسبُ أبعادًا بالمشاهدة الداخلية والمراقبة، أما إطلاقُ العَنانِ لغرائِزِهِ وتركُها دون رقابةٍ أو قيود فمعناه تركُ نواةٍ أو مجموعةٍ من النواى مؤهَّلَةٍ لأن تُصْبِحَ أكملَ وأتمَّ شيءٍ -تركُها- في حالةٍ هي الأكثرُ دناءةً وانحطاطًا وإشفاقًا.
ووفقًا لـ”كُولَنْ” فلا يكون الإنسان إنسانًا إلا بسعة روحِهِ وعمقِ قلبِهِ وصفاءِ وجدانِهِ، وقد عجز دارسو الإنسان بعَقْلِهِ وشعورِه وما دون وعيِه وإحساساته الحيوانية أو ميولِهِ الاجتماعية فحسب أن يقولوا شيئًا بشأنِ جوهره، ولم يستطيعوا الكشفَ عن أيِّ شيءٍ مهمٍّ وحقيقيّ، وناهيك عن إمكانيّة قولِـهِم أو كشفِهِم شيئًا فقد زادوا الأمرَ إبهامًا وغموضًا، حتى صار الإنسان وكأنه أعجوبةٌ، والواقع أنَّ في ماهيَّتِهِ جواهرَ تفوقُ عقلَهُ وشعورَهُ ووعيَهُ الداخلي وميوله الاجتماعية ويوجِّهُها جميعًا؛ وهو يمتلك ديناميّة داخليّة يستطيع بواسطتها -إن أرادَ- تخطِّيَ العوالم كلها طالما أنَّ القَدرَ قد هيَّأَ له الأمرَ؛ فإن استطاعَ توجيه تلك القوَّةِ والإمكانات الساحرةِ الملغَّزَةِ الموجودة في جوهرِهِ إلى المصدرِ الحقيقيِّ لجميع هذه القوى والطاقات والإمكانيات تفَوَّقَ على نفسه في هذه الحالة، وتخطَّى الفناء وأكسبَ جميعَ أجزاء الوجودِ التافهةِ النَّتِنَةِ المتحَلِّلَةِ المتفرِّقة معنًى وماهيّةً أسمى، وجعلها مرشّحةً للخلود والبقاء.
وهكذا فإن التربيةَ والتعليمَ اللازمين للإنسان لا بدَّ وأن يَحُولَا دون انفصامه عن إنسانيَّتِهِ وغايته المنشودة تأثُّرًا بميوله وشهواته الحيوانية؛ لا بدَّ أن يكون تعليمًا يُحدِّدُ أُطُرَ حركاتِهِ وفعالياتِهِ ويرسمها ويمنع تعطُّلَه وتحلُّلَه وتهاويه، ويستكشف في الوقت نفسه المَلَكَاتِ التي جاء الإنسان إلى الدنيا مقرونًا بها، ويساعد على ظهور الطاقة الكامنة المَرْكُوزَة في روحه؛ إذ إنَّ الخيرَ والجمالَ يكمنان دائمًا في روح الإنسان بخلافِ نوى الشر والقبح، بل إن أشياءَ كالغضب والانتقام هي -من ناحية- بمثابة مَشجَرَة لمظاهرَ غيرِ مباشرةٍ من الجمال، إلا أنه ينبغي ألّا ننسى أنَّ قدرة الإنسان على أن يكون إنسانًا بمعنى الكلمة تعتمد على التربية؛ تربيةٍ تجعل العقل والإرادة والمشاهدة الداخلية تؤدِّي جميع وظائفها، تمامًا مثلما أنَّ الجمال المُشاهَدَ في كل شيءٍ -إيجابيًّا كان أو سلبيًّا- يكون نتيجةَ التربية والتهذيب.
سعادةالإنسان
ويرى فتح الله كُولَنْ أنَّ سعادةَ الإنسان تكمنُ في تحلّيه بالفضيلة؛ لأن الفضيلةَ في الأساس اسمٌ للنظر إلى الوجود أجمع بأسمى الأخلاقِ بمحبَّةٍ ومودَّةٍ، والإنسان الفاضل على صلةٍ بالوجود والأشياء كلِّها، والأحداث في نظر مثل هذا الإنسان مهما كانت حالكةً وسيئةً في الظاهر، ومهما حَزِنَ لبعضها بحسب طبيعة وظيفته وواجبه، بل ومهما شعر بالقهر فإنّها تهُبُّ وتمرُّ مرَّ النسائم الشارحة الروحَ في مناخٍ ربيعيٍّ، إنه في سيل الزمان والأشياء الجارية المتدفِّقة دائمًا يشاهد مناظرَ جديدة؛ فتستيقظُ مشاعرُ السعادة في روحه تأثُّـرًا بهذه المشاهدة.
ويرى أنَّ التحلِّي بالفضيلة لا يعني التخليَ والانسلاخَ التامَّ من الرغبات البشرية، بل إنه يرى أنَّ فهمًا للفضيلة كهذا الذي يفصم الإنسان عن العالم الذي يعيش فيه فهمٌ سوداويٌّ، ومصدرٌ للتشاؤم، ويعني “هلاك السعادة” على حدِّ قول “إيبسن (İbsen)”، وتدلُّ هذه النوعية من المخاوف الـمُفْرِطة وغير المنطقية في الوقت نفسه على تفكير الفرد في نفسه فحسب وارتباطه بها، وحرمانه من مشاعر النُّبْلِ والشجاعة، ومثل هذا الفكر يكشف عن إساءَتِهِ فهمَ الحياة الأخلاقية، وخُلُوِّه من مزايا العيش بالنسبة للآخرين.
والفضيلة -التي مصدرُها الإيمان- تعني الحبَّ والعِشْقَ والشفقةَ والأخوَّةَ والصداقةَ، بالإضافة إلى التصدِّي للظلم وعدم الخيانة، والابتعاد عن أفكارٍ كالانتقام والحقدِ والكرهِ والحسدِ، ومن هذه الناحية فإنَّ الإنسانَ الفاضل يشعرُ في محيطه بهبوب نسمةٍ مركَّبَةٍ من الاحترام والحبِّ الدائم؛ فيعيش في متعٍ لا نهائيّة وبحرٍ من المحبَّة لا حدودَ له بفضل النُّبْلِ الذي تفرضه هذه الأخلاق وبفضلِ الحبِّ والعلاقةِ والمودَّةِ التي يشعر بها نحو عائلتِهِ ووطنِهِ وأمَّتِهِ، بل ونحو الوجود كله؛ فيرتشف مُتَعَ الجنة ولَمَّا يدخلها بعد، هذه المتع هي متعةُ مشاركة الآخرين أفراحهم، ومتعةُ الإحساس بطعمها في الروح، ومتعةُ مواجهة آلامهم ومخاوفهم، ومتعةُ تمهيد الطرق المؤدِّية إلى السعادة، وبهذا الشكل وعبرَ الاهتمامِ بالإنسانية والكون أجمع والتلاحمِ معهما يصلُ القلبُ إلى السعادة الأبدية ولا يزال في الدنيا، ويبلغُ أبعادًا يستحيل أن تخلَّ بها الأحداث الدنيوية .
حقوق الإنسان وفلسفةحبِّ الإنسانية
معروفٌ أنَّ “حقوقَ الإنسان” مصطلحٌ بدأ استخدامه في الساحة العالميَّةِ عقبَ الحربِ العالمية الثانية، وقضيّةُ مَن الذي أدخل هذا المصطلحَ في قواميسنا القانونية والأخلاقية؟ وهل هناك حقًّا دولةٌ في العالم تُقدِّرُ حقوق الإنسان؟ قضيَّةٌ يطولُ الحديث فيها، ومع هذا فإنَّه يُمكن اعتبارُ الحديث عن حقوق الإنسان في العالم مرحلةً من مراحل الإنسانية، ولو كان ذلك بشكلٍ نظريٍّ وكمصطلح فحسب، وفي مقابل هذا نجد الإسلام ضَمِنَ بممارسات الرسول  وبالتطبيقات القرآنية ذاتِها الأمورَ المتعارفَ عليها اليوم باسم حقوق الإنسان الأساسية، حتى إنَّ العلماء توصَّلوا إلى أنَّ الفقه الإسلامي موجَّهٌ لحماية خمسة حقوق أساسية هي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهي ما تسمى في علم الأصول بالكليات الخمس أو الضروريات.
وهكذا يتناولُ فتح الله كُولَنْ قضيَّةَ حقوق الإنسان من هذه الزاوية فيقول:
“الإسلامُ دينٌ عالميٌّ حمى جميعَ الحقوق وضَمِنَها؛ إذ إنَّ منظورَ الإسلام ووجهةَ نظرِهِ الواسعة في موضوع الحقوق تكفلُ لكلِّ البَشَرِ بل والحيواناتِ حقوقَهم على أتمِّ وجهٍ.
فالقرآن الكريم يَعُدُّ قتلَ الإنسان جريمةً ضدَّ الإنسانية جمعاء، إذ القرآن يقول: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/32)، وليس من الممكن العثور على مثل هذا النوع من الحساسية والدِّقَّةِ في هذا الشأن في دينٍ آخر غير الإسلام، ولا في نظامٍ قانوني على الإطلاق، وكما بَيَّنَ سيدُنا رسول الله  في أحاديثه الصحيحة يكون الإنسان شهيدًا إنْ مات دفاعًا عن نفسِهِ ومالِهِ وعِرضِهِ ودينِهِ وعقلِهِ، وقد عُدّ النضالُ في سبيل هذه الحقوق جهادًا.
وينظرُ الإسلامُ إلى حقوق الإنسان من نافذة هذه المبادئ الأساسيّة، ويكلِّفُ كلَّ فردٍ بالحفاظ عليها والدفاع عنها، فضلًا عن أنَّ الإنسان حَظِيَ في الدين الإسلامي بِلَقَبِ “خليفة الله في الأرض”، وقد أُذِنَ له -في ظلِّ هذه المرتبة السامية الموهوبة له- بالتدخُّلِ في الأشياء ومُنِحَت له قدرةٌ على ذلك، أضفْ إلى ذلك أن الإنسان شُرِّفَ بـحُـرِّيَّـاتٍ كحـــرِّيَّـة حماية نفسه ونوعِهِ وحُرِّيَّة العمل والمبادرة والمحاولة؛ لدرجة أنَّه تستحيل معارضة الإسلام بما أتت به الأنظمة الأخرى من مبادئ في هذا الشأن، كما يستحيل العثور على أي جانبٍ سلبيٍّ فيما جاء به” .
إن فتحَ الله كُولَنْ إذ ينظرُ إلى حقوق الإنسان من منظورٍ إسلاميٍّ على هذا النحوِ يتناولُ فلسفةَ حبِّ الإنسانية -التي تُشكِّلُ أحدَ المواضيع الأكثر طرحًا حول العالم منذ قرن من الزمان- أكثر ما يتناوله في إطار حبِّ الإنسان، وبينما يُـبـيِّـنُ أن احترام الإنسان دُرِسَ دراساتٍ عاديَّةً مبتَذَلَةً في يومنا؛ يلفِتُ الانتباهَ إلى أنَّ بعضَ القوى استغلَّت هذا المصطلَحَ واستفادت منه لِصالِحِ أفكارِها ومعتقداتها ومصالِحِها القوميّة الخاصَّة بها، وعندما يتطرَّق إلى حبِّ الإنسان ارتباطًا باحترام الإنسان يقول:
“الحبُّ هو الوردة النَّضِرَةُ في عالمنا القائم على الإيمان والقلب، وقد نسجَ الحقُّ تعالى الكونَ كشريطةِ زينةٍ على أوشِحَةِ المحبَّة، والحبُّ هو الموسيقى الأكثرُ ترنُّمًا وتغنِّيًا يتردَّدُ في صدر الوجود بأداءٍ ساحرٍ أخّاذٍ على نحو دائمٍ، وعلاقةُ المحبَّةِ هي أقوى العلائق بين الأفراد الذين يُشكِّلون الأُسَرَ والمجتمعات والأمم، ويتجلَّى الحبُّ في صورة الرحمة والشفقة من الأبوين إلى الأولاد، وفي صورة الاحترامِ من الأولاد إلى الوالدين، أما الحبُّ العالميُّ فيكشف عن نفسه في صورة التعاون والتعاضد من قِبَلِ الوجود أجمع لصالح كُلِّ جزءٍ وذرَّةٍ في الوجود”.
وفي مقابل سيطرة نوعٍ من الحبِّ اللاإرادي -المستمدِّ مصدرَه من محبة الخالق للمخلوق- على عالم الوجود كله، باستثناء المجال الإنساني؛ يشترك الإنسان بإرادته الخاصة في سيمفونية الحب الكامنة في الوجود هذه، أي إنَّ الإنسان ينبغي له أن ينمي بَذرَة المحبة الكامنة في فطرته وطبيعته، ويقضي حياته في ظلالها؛ فينأى بهذا الشكل عن مشاعرَ كالحقد والغضب والحسد، وفي هذا الموضوع يذكر كُولَنْ أمثلةً من التضحيات الملحمية التي بذلها المسلمون -في تلك الفترات التي فُهم فيها الإسلام حقَّ الفهم- كي ينعَمَ الآخرون بالسعادة والراحة الأبديّة ولا سيما النجاة في الآخرة .
ويؤكد فتح الله كُولَنْ على مدى عمق فكرةِ وملاحظة الحبّ في إطار مبادئ الإسلام العالمية، وهي فكرة متوازنة جدًّا، أي إنَّ الإسلامَ مع وقوفه التامّ إلى جانب المظلوم يدعو إلى الرحمة بالظالم أيضًا وهي تتمثل في خلاصه من الظلم كما ورد في أحد الأحاديث النبوية الشريفة .
المرأةومكانتهافيالمجتمع
إنَّ عدَّ موضوعِ المرأةِ مشكلةً في عصرنا متعلِّقٌ في الأساس بتيَّارات الأيديولجيّة النَسَويّة التي نشأت كردِّ فعلٍ على النظرةِ الغربية إلى المرأة في العصور الوسطى، وتطوَّرَتْ تزامنًا مع إخلال الحروب العالمية ببنية الأسرة والمجتمع الأوروبي في عصرنا، وقد ظهرت هذه المسألة باعتبارها مشكلةً حديثةً كواحدةٍ من مشاكل المجتمع الحديث، ومن ثمّ انتقلت إلينا نحن أيضًا.
وبالنظر إلى أنّ فتح الله كُولَنْ شخصيّة حسَّاسة نَذَرَ نفسَه وكرَّسها في سبيل خدمة الآخرين يمكن تشبيهه بـ”القلبِ الحنون للأمّ”؛ أي إنَّه يتمثَّلُ شفقةَ أكثرِ الأمهاتِ حنانًا؛ ولذلك فربما أن شوقَه وتَوْقَه الداخلي ودموعَه وعطفه ورحمته وعيشه لأجل الآخرين… كل ذلك يساوي ويعادل روح الأم، وحين ينظر إلى المرأة من هذه النافذة بالدرجة الأولى؛ فينظر إليها كوردةٍ حسَّاسة تخضَّبَتْ باللون الأحمر بسبب معاناتها وهي تَبُثُّ الرحمةَ والعطف والعَبَقَ للآخرين في إطار تكريسِها نفسها من أجل أولادها بينما هي تذبل وتشحب .
ليس من طبيعة القيمةِ الحقيقيَّة للإنسان أن تتآكل في أيِّ وقتٍ قطّ مع مرور الزمن؛ فتخالط التراب في نهاية أمرها، وما يُشكِّلُ هوية الإنسان الحقيقيةَ وما لا يفنى بفناء بدنه في التراب إنما يكمن في روحِهِ وشخصيَّتِهِ وفيما يتحلّى ويتَّصِفُ به من فضائل؛ ولذلك فإن ما يُكسِبُ المرأة قيمَتَهَا الحقيقيَّة ليس اختلافها البدنيّ، ولا جسدها ونوعها، وإنما القيم التي تحملها، ويُعَبِّرُ فتح الله كُولَنْ عن هذا بكلماتِهِ الآتية التي تُشْبِهُ الحِكَمَ:
إن عمقَ عالمِ المرأةِ الداخليِّ وعفَّتَها ووقارَها هو ما يرفعها إلى مستوًى أعلى من الملائكةِ وأغلى من الماسِ.
المرأةُ الصالحة هي تلك التي تَصْدُرُ الحكمةُ من فَمِهَا، واللطافةُ والرِّقَّةُ من روحِها، وتبثُّ بتصرُّفاتِها الاحترامَ والتوقيرَ فيمن حولها.
مع أن المرأة التي لم تُوَسِّع ملكاتها الروحية مع نموِّ جسدِها تبدو كزهرةٍ تُزَيِّنُ الرؤوسَ مدَّةً من الزمان، إلا أنها سرعان ما تذبل ذبول أوراق الخريف؛ فتسقط على الأرض وتدوسها الأقدام، فما أفجعها من نهاية بالنسبة للذين ضلُّوا طريقَهم؛ فلم يجدوا الطريق الموصل إلى الحياة الأبدية .
قضيةالمساواةبينالرجلوالمرأة
يُركِّزُ فتح الله كُولَنْ في كتاباته ولقاءاته ودروسِهِ ومواعظِهِ بين الحين والآخَرِ على دَور المرأة في المجتمع، ويرى أن الإسلامَ لم يُميِّز بين الرجلِ والمرأةِ في أيِّ وقتٍ قطّ، وفي حين يشرح خلق السيدة “حواء” من ضلعِ سيدنا آدم الأعوج التي تتناقلها ألسنُ بعض الملحدين للنقدِ فحسب؛ يبين أنَّ هذا الحديث استخدمَ تلكَ العبارة للتشبيهِ، وأنه يدعو إلى حسن معاملة النساء وعدم استخدام الشِّدَّةِ تجاههن، ويَذكُرُ أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ من زوجين اثنين في الكون، وأنه لا تفريقَ في القرآن الكريم بين الرجل والمرأة في موضوع الرِّفْعَةِ والتمييز؛ إذ إنَّ الرجلَ والمرأةَ يُشكّلان فَلْقَتَي ماهية الإنسان اللتين لا تنفصِلان عن بعضهما البعض ويكمِّلُ كلٌّ منهما الآخر؛ ولذلك فإنه يستحيل الحديثُ عن وجودِ تفاضلٍ مطلق بين الرجل والمرأة خلقة.
وإلى جانب هذه الحقيقة الأساسية يُشير فتح الله كُولَنْ إلى نقطةٍ أخرى مهمّة؛ ألا وهي زَعمُ تساوي المرأةِ والرجلِ، فيرى أن مساواةً بمعنى اعتبارهما شيئًا واحدًا، وأنهما عينُ بعضهما دون إظهار أيِّ فرق، وأنهما يتمتعان بنفس الطبيعة والقيمة والأبعاد والماهية؛ يستحيل أن تكون واردة بين الرجل والمرأة أو بين رجلين أو بين امرأتين؛ لأن كلَّ فردٍ من الناس يُمثِّلُ نوعًا معيَّنًا بالنسبة لغيره من الموجودات؛ له سماتُهُ وعالمُهُ الخاصّ به؛ ولذلك فإنه يستحيل الحديث عن مساواةٍ بالمعنى المُطْلَقِ بين الناس.
ويسجل كُولَنْ هذه القاعدة الحقَّةَ أوَّلًا في قضيَّةِ تساوي الرجل والمرأة، ثم يبين انطلاقًا من قول الحق تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/49) أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ زوجين بدءًا من الذرَّاتِ إلى النباتات ومنها إلى الحيوانات والبشر، أي خُلِقَ ذكرًا وأنثى، وأنَّ كلَّ زوج من الأزواج في هذه الخلقة بمثابة مكمِّلٍ ومتمِّمٍ لِكُلٍّ واحد، إذ يُكمِّل كلٌّ منهما الآخر في العَيشِ وتأمينِ سُبُلِ الحياةِ؛ فيعينان ويساندان بعضَهما؛ فالموجِبُ محتاجٌ للسالبِ، والإلكترون مفتقِرٌ للبروتون، والليلُ للنهارِ، والمرأةُ للرجلِ، وكما أن كلَّ شيءٍ سوى الله الواحد الأحدِ ناقصٌ؛ فليس ثَـمَّـةَ شيءٌ لديه القدرة والكفاية على مواصلة بقائِهِ ووجودِهِ بمفردِهِ وبمعزلٍ عن غيره؛ فإن الرجلَ والمرأةَ الناقصين يجتمعان فيُكَمِّلانِ بعضَهما، فيشكِّلان كُلًّا واحدًا.
ولذا فإنَّ الزوجين ليسا “نِدَّينِ” ولا “متنافِسَين” مساويين لبعضهما، وإنّما هما زوجان شطران مكمِّلان لبعضِهما البعضِ، ولا يكون أحد هذين الشطرين عينَ الآخر في أيِّ وقتٍ أبدًا؛ فثمَّةَ كمٌّ هائلٌ من الفروق الفيزيائيّة والنفسيّة بينهما، غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ الرجلَ أكثرُ تطوُّرًا من المرأة من الناحية البيولوجيّة، ولا أن المرأةَ نموذج أقلّ تطوُّرًا من الرجل في هذه الناحية، وكما أن البشر لا يستطيعون التدخُّلَ في اختلاف النوع؛ فعلى الجميع أن يتخلَّى عن خيالات المساواة، ويتقبَّل المرأةَ والرجلَ بطبيعة كلٍّ منهما.
إن فتح الله كُولَنْ الذي يعبِّرُ عن تلك الفطرة هكذا؛ أي عن حقيقةِ الخَلْقِ الأساسية؛ لا يتوانى عن التحذير والتنبيه قائلًا:
“هنا لا بدَّ من توضيح أنَّ اختلاف الخلقة لدى النساء لا يقتضي استحقارَهن ولا ازدراءهن، بل العكس؛ فالحقُّ تعالى هو خالق الرجل والمرأة “في أحسن تقويم”، الهادي إياهما إلى طُرُقِ الرِّفْعَةِ والسموِّ، جاعلُ كلِّ واحدٍ منهما متمِّمًا للآخَرِ وسترًا ووقايةً له” .
ثمّ يتناول فتح الله كُولَنْ المرأةَ والرجل في إطار وظائفهما ومهامهما في المجتمع؛ فيرى أنه نظرًا لأن المرأةَ ليست هي الرجل، ونظرًا لوجود فروقٍ واختلافاتٍ فيزيائيّة ونفسيّة بينها وبينه؛ فإن هذه الاختلافات ستنعكس بالتالي على مكانتها ووظيفتها في المجتمع، ومع هذا فلا بد أوَّلًا من توضيح أن الرجل والمرأةَ مسؤولان بالشكلِ نفسِهِ إزاءَ الأوامر والنواهي الدينيّة، وهناك بعض الاستثناءات -تقتضيها الظروف البعيدة عن ساحة التدخُّل الإنسانيّ والنابعة من الخلقة والفطرة- أُعفيت المرأة في ظِلِّها من مجموعةٍ من المسؤوليات، أما بالنسبة لعدم تحميلِ المرأة بعض الأعمال الأخرى التي يضطلع بها الرجال؛ فما هذا إلا نتيجة للاختلاف الفيزيائي والنفسي لكل نوعٍ منهما عن الآخر، ولمجموعةٍ من السِّمات وهبَتْها قدرةُ الله تعالى لِكِلَا النوعين، ولا تُكلّف المرأة في المجتمعات الحديثة -بما في ذلك أوروبا وأمريكا- بكلِّ أعمال الرجال؛ ومن ذلك على سبيل المثال نُدرَةُ أن تكون المرأة حتى في الدول العظمى رئيس جمهورية أو رئيس دولة؛ ولم يحدُثْ أن تولّت امرأةٌ منصبَ رئيسِ الأركان، أو قائدِ القوات المسلّحة؛ بل إنه قَلَّ أن نجد امرأةً تعمل في منصب المحافظ، كما أنها لم تتولَّ في أديانٍ كاليهودية والمسيحية أيضًا منصبَ الكاردينال أو البابا أو كبير الحاخامات في أي وقت قطّ، ومن يُقَدِّمون المسألة تقديمًا مختلِفًا عن حقيقتها لا يُقَدِّرون المرأة قدرها أصلًا، بل على العكس إنهم يَحُطُّون من قدرها الذي خصَّها به الله تعالى .
وفي حين يمدح القرآن الكريم المؤمنين القائمين بمسؤوليَّاتهم الدينيّة والاجتماعيّة، وعلى حين يمكن استخدام ضمائر بوسعها التعبير في آنٍ واحدٍ عن النوعين بحسب خصائص اللغة العربية؛ فإنه يذكرُ النساءَ والرجالَ كلٌّ على حِدَةٍ، ويشير إلى أنه لا فرقَ بين الرجال والنساء في الأمور المشار إليها؛ فَيُحَطِّمُ بذلك ويقوِّضُ ما كان سائدًا في الجاهلية من قناعات في هذا الموضوع .
ويؤكِّد كُولَنْ دائمًا على أهمية الـمَنْزِلِ والعائلة المقدَّسَين في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم؛ إذ إنهما أول ما تتفتَّح عليه أعين الأجيال، وهما المكان الذي يحصلون فيه على أوَّلِ تربيةٍ وتعليمٍ يظلُّ مؤثِّرًا فيهم مدى الحياة، كما يتكون فيهما عالمُهم فيما دون الوعي والشعور؛
إلى جانب ما يقومان به من وظائف أخرى كأنهما مأوى الأرواح ومستراحها، وساحة لأكثر المشاعر تميُّزًا مثل الحبِّ والشفقةِ والوفاءِ والصدقِ والترابُطِ بين الزوجين والأم والأب والأطفال والإخوة والجدّ والجدة .
ولا شكَّ أن فتحَ الله كُولَنْ لا يرى حتميَّةَ جلوسِ المرأة في البيت وقضائِها جميع يومها في مطبخها، وإنما يُبَيِّنُ أنها تستطيعُ القيامَ بأيِّ عملٍ شريطةَ وضعِ طبيعَتِها وحالَتِها النفسية في الاعتبار، وأنَّ الإسلام ليس فيه من الأحكام ما يمنع ذلك ، كما يتحدَّثُ عن الحرِّيَّةِ الاقتصادية التي مَنَحَهَا الإسلامُ لها ، ولا يكتفي بهذا بل يقول: “ليست المرأة آنيةً ملطَّخَةً ولا قطعة معدن رخيص، ومحلُّها ليس محل الأواني الوسخة والمعادن الرخيصة؛ فهي جوهرةٌ نادرةٌ، لذا يجب أن تُصانَ في علبة جواهر مرصعة بالصدف” ، مُنبِّهًا إلى أنَّ وظيفةَ المرأةِ الأوليّة ليست هي عمل المطبخ؛ إذ يرى أن مهمّةَ المرأةَ بالدرجةِ الأولى هي تعليم الأجيال وتربيتها وإرشادها .
وفي حين يتحدَّثُ فتحُ الله كُولَنْ عن مكانة المرأة في الإسلام؛ يطرحُ للنظر أيضًا الثوراتِ والتغييراتِ العظيمةَ والجذريةَ التي أحدثها الإسلام فيما يتعلَّق بحقوقها .

الثقافة والفنُّ والأدبُ والموسيقى والسينماوالمسرح
ربما يعرف البعضُ فتح الله كُولَنْ رجلَ حركةٍ وعملٍ وتربيةٍ وتسامحٍ وحوارٍ فحسب، والبعضُ الآخَرُ يعرفُهُ إمامًا وخطيبًا وواعِظًا، وغيرهم يعرفُهُ عالِـمًا؛ إذ إنه قلَّ ونزَرَ مَنْ وَقَفَ على جوانِبِهِ الثلاثة التي حاولنا الوقوفَ على أحدِها في الفصل السابق؛ وهو جانبُ تربيةِ النفس، أما الجانبُ الثاني من جوانبه فهو ما سنحاول الوقوف عليه بعضَ الشيء في الفصل اللاحق؛ ألا وهو جانب “كن بين الناس فردًا من الناس”، وأما الجانب الثالث فهو كلامه وأسلوبه في الكتابة.
الكلمةُ والفِكرُ واحترامُ الفكرِ
يهتمُّ فتح الله كُولَنْ بالكلمة والقلم، أو قُل: بالفِكْرِ والفَنِّ والأدب والثقافة أيَّما اهتمام، ويُــبَيـِّـنُ أن الخَلقَ الأوّلَ بدأ بكلمة “كُنْ” المكوَّنة من حرفين اثنين أُلْقيت في صدر العَدَم، ويلفِتُ الانتباهَ إلى أن الطُّرُقَ الممتدَّةَ من الواحد إلى الكثير، ومن الوحدة إلى الكثرة ظهرت بالكلمة واستنارت بها أيضًا، ويؤكِّدُ على أنَّ الكلمةَ ذاتُ تأثيرٍ أكبر من كل الأسلحة، وأن من يسبر أغوارَها ويفتح قلاعها فقد فتحَ ما لم يفتحه حتى القادة الفاتحون، وأن الأبهة التي تبلغها أعلامُ الكلمة لم يبلغها السلاطين. أجل، ربما يستطيع القادةُ والسلاطينُ السيطرةَ على القِلاعِ وأخذَ المدن إلا أن الكلمة هي المسيطرة على القلوب، “فإنَّ رؤوسَ حِرابِ الكلمة المنطلقة من ألسنة أربابها أَحَدُّ من سيوف المحاربين، وأرعَبُ من رماحهم، وقد استطاع الحُكَماءُ والأطبَّاءُ مداواةَ جروح السيوف والسهام، إلا أنهم لم يستطيعوا علاجَ جروح القولِ والكلام، وقد قال الرسل والأنبياءُ أكثر الكلام تأثيرًا وأصدقه، ثم أصحابُ القلوب المنفتحة على الإلهام؛ كلٌّ حسب درجته، وإن رجال “الكلمة الحق” كالشموس ينيرون ما حولهم باستمرار دون أن يَدرُوا، إنهم كالبحار يحملون في صدورهم أكثرَ خزائن الدنيا ثراءً وغنًى دون أن يتفاخروا بذلك، ويضيئون ما حولهم كما تضيءُ الشمعةُ ما حولها في الظلام، إلا أنَّهم يعيشون متواضعين خَجِلِين يَتَلوَّون ألمًا، وبِقَدْرِ ما يتمتَّعون به من تواضعٍ بين الخلقِ بقدْرِ ما يكونون عليه من اليقظةِ والتنبُّهِ حين يكونون مع الحقّ؛ إنهم ينثرون الدُّرَرَ والجواهِرَ في محيطهم دون أن يُدركوا؛ فلا يُدركون ذلك لأنهم يركضونَ في عوالمهم الداخلية في إثر جواهر ماسيّةٍ أنفَسَ وأثمنَ وأغلى .
وكما هو واضحٌ من هذه الجمل؛ يتحدَّثُ فتح الله كُولَنْ عن مجموعة من “رجال الكلمة” -ناهيك عن الأهمية التي يوليها إلى الكلمة نفسِها بمعناها الـمُجـرَّدِ- أسماهم في مقالةٍ أُخرى له بــ”عُمّالِ الفِكْرِ (Fikirİşçileri)” فــ”عُمّالُ الفِكْرِ” هم من سيؤسِّسُ عالمَ المستقبل، وهم الذين يَئِنُّون بـــ”عذاب الفِكْرِ” وتتقطَّعُ صدورُهُم وتتألَّمُ أصداغُهم بعذابِهِ أيضًا، يطوّفون في الكون بين السماء والأرض على نحوٍ دائمٍ، يُكسِبُون أطالسَ قلوبِهم ألوانًا وأبعادًا جديدةً على الدوام، يُسمِعُونَ القلوبَ والأذهانَ رسائلَ شتَّى يتلقّفونها من نسَمات الرياحِ الهابَّةِ، وقطراتِ المطَرِ المتهاطلة، وأنواعِ الطيورِ الطائرة، وشتَّى أصنافِ الأوراقِ المتساقطة؛ فَيُخَلِّصُونَ الأذهانَ ويُنَقُّونَها من الأفكار العَفِنَةِ، ويُطَهِّرُون القلوب من الصدإ والرواسِب الضارَّة.
ويرى كُولَنْ:
أنَّ الفكرَ في أَحَدِ معانيه هو رقَّةُ العَقْلِ وتَـنَـوُّرُهُ، وهناك شعلة إلهيَّة تُنير الطريقَ أمام العَقْلِ وتفتَحُ له آفاقًا جديدةً، ففي ضوءِ هذه الشعلة يمكن قطعُ طريقِ سَنةٍ في ظرفِ ساعةٍ واحدةٍ… هذه الشعلة هي الفكر…
إنّ الفِكرَ تتمثَّلُ مهمَّته في البحث عن الصحيحِ، وأنَّ عناصرَهُ هي عبارةٌ عن المواهب الإلهية، وفي مختبره يتمُّ تعديلُ درجة صحة كثير من المسلّمات… وهنا تكمن أصالةُ الفِكْرِ، وهو لا يعني الإيمان بكل ما يخطر على البال من دون تمحيصٍ وتدقيقٍ… بل هو جهدٌ مباركٌ للوصول إلى الحقيقة، والتفتيشِ عنها دائمًا وفحصِ ما يُظَنُّ سلامته مِرارًا وتكرارًا .
إنَّ فتحَ الله كُولَنْ الذي يتطرَّقُ إلى موضوعِ الكَلِمَةِ والفِكْرِ بهذا القدر يرى “أنّهما إنما هما طرازُ وسمةُ الحياة المعاشة في مجتمعٍ والناتجةُ من عاداتِ ذلك المجتمع وتقاليدِه وتربيَتِه ولُغَتِهِ وفنِّهِ ومشاعرِهِ، وكلُّ جزءٍ منها قطعةٌ مهمَّةٌ من الأسس الكلِّيَّةِ للمجتمع”، ويتطرَّقُ إلى مكانة الثقافة في حياة الأمم والشعوب مبيِّنًا “أنَّ الثقافةَ الحقيقيَّةَ تتشكَّلُ من خلال التمازُج والتفاعُل بين الدين الحقيقي وبين الخُلُقِ السامي والفضيلةِ في بوتقةِ العلومِ المهضومةِ جيِّدًا…”، ويقول أيضًا:
“الأمم التي لم تنجح في إنضاج ثقافتها والأمم التي فقدت ثقافَتَها تُشْبِهُ الأشجارَ العقيمة التي لا تعطي ثمارًا، أو الأشجارَ التي تساقطت ثمارها فلم تَعُدْ تُنتِج، والمصير المحتوم الذي ينتظر مثل هـذه الأشـجار هو تقطيعُها واحتطابُها وحرقُها” .
ووفقًا له كذلك فإنَّ خدمةَ الحياة الثقافية مهمَّةٌ لدرجةٍ يمكن لأجلها تأخيرُ غيرها من الخدمات.
ونجدُ فتح الله كُولَنْ إذ يقول:
إنَّ جميع العلوم الوضعية الموجودة بجميع فروعها تقريبًا في يومنا الحاضر تعتمد على المادية الغربية، أما المسلمون فقد استحال عليهم التخلُّصُ من التفكير الجَدَلِيِّ في هذا المجال، وأنهم لم يفعلوا شيئًا سوى محاولتهم توليفَ نظريَّةِ المعرِفة الإسلامية وتركيبها على أسس ومبادئ العلوم الغربية؛ أي إنهم لما يُطَوِّرُوا فلسفةً علميَّةً بعد.
ويلفتُ الانتباهَ إلى أنه بوسع رجال العلم المسلمين أن يطوِّرُوا نظريَّةَ معرفةٍ إسلاميَّةً حقيقيَّةً عبر النفوذ إلى الكون، والتعمُّقِ في الظواهر والحوادث الطبيعيَّةِ انطلاقًا من الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائِهِ وأفعالِهِ جميعِها، وأنَّ الفهمَ الإسلاميَّ العِلْمِيَّ يستندُ إلى هذا.
ولِأَجْلِ هذا يؤكِّدُ بِصِفَةٍ خاصَّةٍ على ضرورة التخلُّصِ من الفَهْمِ والخلفيَّةِ العِلْمِيَّةِ الراهنة.
ويؤكِّدُ كذلك على ضرورة إجراء دراسات جديدة في كلِّ فروعِ العلوم الإسلامية أيضًا مثل: الحديث والفقه والتفسير وعلم الكلام، ويلفتُ الانتباهَ إلى ضرورةِ مراجعةِ المصادر من جديد وإعادة تصنيفها، والـمَزْجِ بين الحقائق القرآنية والإسلامية وبين حقائق الكون، وبتعبيرٍ أصحَّ كَشْفِ أوجُهِ التطابقِ بين القرآن وبين الكون الذي هو بمثابةِ نسختِهِ في ساحة الخلق، وبضرورة تناول الدين وعلم الاجتماع، والدين والعلوم الطبيعية معًا .
ويولي فتحُ الله كُولَنْ اللغةَ أهمِّيَّةً مستقلَّةً فيما يتعلَّقُ بمسألةِ الثقافةِ؛ إذ إنها تُشكِّلُ جانبًا من جوانب الثقافة.
ويرى كُولَنْ أنَّ المستقبلَ سيكون عصرَ العِلْمِ والبيان، وهذا واقعٌ ظَهَرَتْ أماراتُهُ منذ وقتٍ بعيدٍ، ومن هنا فإن لِلُّغَةِ في مستقبل الشعوب أهمِّيَّةً تساوي أهمِّيَّةَ العِلْمِ في مستقبَلِها ونهضَتِها وتَــبَــوُّئِها مكانةً في العالم المتعولم بسرعة فائقة، والأمر لا يقف عند تعلُّمِ وتعليمِ ما هو موجود، بل لا بد من تنميةِ وتنشِئَةِ مواهب كبيرة عظيمة، وتحميلِها مسؤوليَّات مهمّة، ولأجل هذا فإنه لا بُدَّ -في أثناء عملية إنتاجِ كلمات مناسبة لقواعد اللغة- من الحفاظ على الكلمات والمفردات المستَحدَثَةِ منذُ سنوات والتي أصبَحت جزءًا من اللغة؛ فالكلمات التي تبنَّاها الشعبُ غَدَتْ كلماتِه وبُعدًا من أبعاد ثراء لغته وغِناها .

الفنُّ في رأي فتح الله كُولَنْ هو روحُ الترقِّي، وهو واحدةٌ من أهمِّ الطُّرُقِ المؤدِّيَةِ إلى انكشاف المشاعر، ويُشبِهُ في الوقت نفسه مفتاحًا سحريًّا يكتشف الكنوز المخفيَّةَ ويفتحُها، كما أن الأفكار تتجسَّدُ خلف الأبواب المنفتحة بواسطته، وتتجسَّم الخيالات به أيضًا.
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“الفنُّ هو الذي يأخذ بِيَدِ الإنسان لكي يسبحَ في أعماق البحار الواسعة وقيعانها اللامتناهية، وفي أجواء السماوات الزرقاء وآفاقها، وبفضله يستطيع الإنسان أن يفتح أشرِعَتَهُ ليسيحَ في أجواء السماوات وأعماق الأرض فيصلَ إلى شعور وحدس ما وراء الزمان والمكان”.
ويبين أنَّ الفنَّ هو اللوحة الأولى التي تُصَوِّرُ قوى الإنسان وأعماقه وأسراره، وفي ظِلِّهِ تُسجَّلُ أعمق المشاعر والأفكار وأكثر التثبيتات جاذبيَّةً، وأصدق الرغبات والأُمنيات وكأنها تُدوَّن على أسطوانةٍ حجريَّةٍ، فتبدو وكأنَّها قد خُلّدَت.
إنَّ فتحَ الله كُولَنْ المهتمَّ بـ”التجريد في الفنّ” يذكُرُ أنَّ الفن المتَّحِدَ مع الإيمان بصفةٍ خاصَّةٍ كثيرًا ما يكون منشأً لأروَعِ الجماليَّات، ويضربُ مثلًا لهذا بقوله:
“ألم يجعل الفنُّ -حين يرافق الإيمان- عالَمنا معرضًا للجمال زاخرًا بالمعابد الفخمة والمآذن التي تُشْبِهُ أصبعَ الشهادة المتوجِّهَةِ إلى السماء، ومليئًا بالنقوش المحفورة على أحجار المرمر والألوان والتصاميم الجميلة وفنون الخطِّ والتذهيبِ والنقوشِ الجميلةِ التي تُشْبِهُ جمالَ أجنحةِ الفراشات!”.
ويلفتُ كُولَنْ الانتباهَ إلى أنَّ العِلْمَ يستطيعُ التعبيرَ عن نفسِهِ مع أفضل الفنون، ويُضيفُ أنه يصعُب القول إنَّ الشخص العاجزَ عن إنتاج أيِّ أثرٍ فَنِّيٍ يُتوقع منه شيءٌ كثيرٌ في ساحة العلم والمعرفة، ومن ثمَّ يصل إلى النتيجة والخلاصةِ فيقول:
“الأرواح الخالية من الفنِّ والمنغلقةُ دونه يستوي وجودُها وعدمُها، لأنها ليست إلا أفرادًا لا يستطيعون تقديم أيّ نفع لا لأنفسهم ولا لعوائلهم ولا لأمتهم، بل قد يكونون ضارين أيضًا” .
والأدب بالنسبة لكُولَنْ لسانٌ بليغٌ يعبّر عن البناء الروحيّ لأمّةٍ وعالمها الفكريِّ وحياتِها العلمية والمعرفيَّة، وهو يرى أنَّ الأفرادَ الذين لا يتقاسمون بناءً روحيًّا واحدًا ونظامًا فكريًّا وحياة معرفيَّةً واحدةً يتعذَّرُ عليهم أن يفهموا بعضَهم حتى وإن كانوا أبناءَ أمَّةٍ واحدةٍ، وأنه لولا الأدب لما استطاعت الحكمة أن تتبوَّأَ مكانتها البهية تلك، ولا أن تصلَ الفلسفة إلى ما وصلَتْ إليه في يومنا هذا، ولا أنْ تؤدِّيَ الخطابةُ ما هو منتظَرٌ منها ومنوطٌ بها، ومع هذا فإنَّ كلًّا من الحكمةِ والفلسفةِ والخطابةِ خدَمَ الآخرَ بشكلٍ متبادل وتفاعلت فيما بينها؛ فأكسبتِ الأدبَ الخلودَ إذ قدمت إليهِ المعلوماتِ الغنيَّةَ المتعلِّقةَ بساحة كلٍّ منها كرأسِمالٍ لا ينضب.
ويقولُ فتح الله كُولَنْ:
“الأدباءُ والشُّعَرَاءُ؛ كلٌّ منهم يُشْبِهُ عازفَ نايٍ يُعَبِّرُ عما شاهَدَهُ وأحسَّ به من جمالٍ وحسنٍ في العوالم الداخلية والخارجية (أي في الأنفس والآفاق)، ولا يمكن لمن لا خبرةَ له بألسنةِ اللهب الداخلية التي تأتي بها المشاعرُ وتلفُّ الأرواحَ أن يفهمَ ما يعنيه هذا الناي ولا الصرخة المنبعثة منه”.
ويتطرَّقُ كُولَنْ الذي يُعطي الأدبَ والأديبَ مقامًا مهمًّا كهذا إلى كيفيَّةِ تشكُّلِ وقِيامِ أعمال الفنانين الآخرين، فمثلها مثل نفخة “عازفي الناي” التي تبوحُ بالمشاعِر وتُرهِفُ الأرواح، وهو بينما يقرّرهذا ينوّهُ ببُعدٍ مهمٍّ من أبعاد الفنِّ فيقول:
“كلُّ الحقائِقِ تظهر في روح الإنسان في صورة جوهرٍ أوَّلًا، ثم تُستشعر ويُحَسُّ بها، ثم تَمنحُ الحياةَ بواسطة الكلمة أو القلم أو المطرقة (في فنّ النحت)، وتتبلور ويُسْعَى إلى التعبير عنها في مُحيّا الأثر الفني نقطةً نقطةً، وخطًّا خطًّا، وتَوَصُّلُ أثرٍ من هذا القبيلِ إلى أبعادٍ لا يحُدُّها الزمان ولا المكان مرتبطٌ تمامًا بدرجات الإيمان والعشق”.
ويرى كذلك أن العنصرَ الأساسَ في الأدب هو المعنى؛ إذ يتطرَّقُ إلى الأسلوب انطلاقًا من هذا، ويبين أنَّه من الضروري أن تؤدِّيَ كُلُّ كلمة -منثورة كانت أو منظومة- تُستَخْدَمُ في التعبير عن المقاصد والغايات وظيفةَ المحفظة لجوهرة الفكرِ، وألا تطغى عليها فتحتلَّ مكانها، وألا تخيم عليها بظلالها؛ فيقول:
“إنَّ هذه المحفظة -حتى وإن كانت من زبرجد- تُفقِدُ الكلمةَ قوَّتَها وتأثيرَها والإحساسَ بها بقدرِ تعمِيَتِها وتغطِيَتِها المحتوى والمقصد والهدفَ منها؛ ومِنْ ثمَّ يتعذَّرُ لأيَّة كلمةٍ على هذا النحو أن تُعمّر طويلًا”.
وإذ يؤكِّدُ على ضرورة عدم التضحية بالمعنى في سبيل تزيين اللفظ وألا يتسبَّبَ اللفظُ في تعميةِ المعنى؛ فإنه يذكِّرُ أيضًا من زاوية أخرى بمدى أهمّيّة الأسلوب لصالح المعنى، ويَقِفُ على ضرورةِ اللجوء إلى أسلوب عالٍ رفيعٍ من أجلِ بيان المفاهيم والأفكار السامية، ويؤكِّدُ على أن المسألةَ ليست عبارةً عن استخدام “فنون اللفظ والمعنى كالتشبيه والاستعارةِ والكنايةِ والتلميح والجِناس التي تناولها الأقدمون ضمن مواضيع عِلْمَيْ البيان والبديع فحسب، وأنَّه لا بد من البحث عن الكلام العميق عند المفكرين من ذوي القلوب الملهَمة التي تَتَّسِعُ أفئدَتُها للوجودِ وتُحيطُ به، وعند ذوي الخيال الواسع الذين نجحوا في رؤية الدنيا والآخرة وجهين لحقيقةٍ واحدةٍ، والذين يملكون إيمانًا عميقًا وفكرًا تركيبيًّا قويًّا” .
الموسيقى
يولي فتح الله كُولَنْ الموسيقى أهـمّــيّةً خاصَّةً؛ ويلفت النظرَ إلى أن الموسيقى انتشرت ولاقَتْ رواجًا كبيرًا لا سيما في مجتمعات يومنا الحاضر، وينوّهُ بأنَّ “هذه الساحة التي اندفع إليها المجتمع وانخرط فيها” يجب ألا تُتْرَكَ مطلقةَ العنانِ دونَ مراقبة، ويرى ضرورة إبداع أعمالٍ تحملُ في طيَّاتها رسالةً ومعنًى يسمو بالإنسان إلى القيم النبيلة بما في لُبِّها من أحاسيس وأفكار، وتهديه إلى طرق الكمالات، وتمنحه الشوقَ والشغَفَ في تلك الطُّرُقِ، ثم تُوضعُ لها الألحانُ المناسِبة، كما يقول أيضًا:
“إنْ كان الأثرُ أو العملُ الموسيقي الذي تستمعون إليه يوجِّهُكم إلى القرآن، ويُثيرُ فيكم الشوقَ والرغبةَ في الوصول إلى الله، ويحرقُ صدوركم بتأثيره فيدفعكم إلى السجود لله، ويثير اهتمامكم بِقِيَمِكم الوطنية والدينية، ويهمسُ إليكم بعاطفيَّتِكم، ولا يتردّى في فخِّ التصوير السيّئِ والباطل والأمور المستَهْجَنَةِ؛ فهذا الأثر في غايةِ الروعةِ والجمال حقًّا، أما الأعمال التي تحوي الغيبة بداخلها، وتُصوِّرُ الفاحشةَ في مَشَاهِدِها، وتثير الغرائز الشهوانيةَ، وتُجيِّشُ مشاعرَ اليأسِ والإحباطِ والقنوطِ؛ فيستحيل علينا أن نقول إنه: “لا حرج في سماعها” .
ويُشيرُ كُولَنْ إلى أنَّ القرآن الكريم يَزْخَرُ بتناغمٍ وانسجامٍ موسيقيٍّ خالد، فيقول:
“إنَّ الأهمَّ عند قراءَتِهِ وتلاوَتِهِ هو القدرة على إعطاء كلِّ كلمةٍ تَـرِدُ فيه درجةَ الصوت التي تتطلَّبها بشكلٍ مناسبٍ لموضِعِها انطلاقًا من المحتوى”.
وكمثال على هذا فإن القرآن الكريم حينما يتحدث عن المنكرين المغرورين فإنه يقدم للأنظار بكلماته وعباراته إنسانًا متكبِّرًا، مُعْجَبًا بنفسه يتباهى ويتبختَرُ متحزلِقًا متغطْرِسًا، ويؤكِّدُ على أنَّ قدرةَ أسلوبِ القراءة المتَّبَعِ عند تلاوة الآيات الكريمة -قدرته- على إبرازِ هذا المحتوى أساسٌ مهمٌّ، ويَربِطُ تقييمَهُ هذا بقوله:
“يستحيل القولُ إنَّ القرآن الكريم يُتلى بمراعاة هذه الأُطُرِ في عصرنا الراهن؛ فتلاوته كما ينبغي، ودون هضمِ حقِّ المحتوى إلى جانب تحقيق درجة الصوت والنغمة المناسبة قليلةٌ جدًّا، بل هي نادرةٌ إن لم تكن قد انعدمت، لا سيما الإحساس الصادق وإخلاص القلب والجوارح أثناء التلاوة فهو من أندر النوادر اليوم” .
إن فتح الله كولن إذ يقولُ:
“تمنَحُ الموسيقى للروحِ نزاهةً ولُطفًا وظرفًا بكلِّ معنى الكلمة، باستثناء ما يعبّر عن الأحاسيس الفظَّةِ المحرومة من رِقَّة الروح، غير أنَّ القدرةَ على الوصول إلى هذه النتيجة مرتبطةٌ بالتوجُّهِ إلى الموسيقى التي تَهَبُ الحياةَ الحقيقيَّةَ الروحَ وبمخالطةِ عازفي الموسيقى الحقيقيين والتوجّهِ إلى الروح والمعنى أكثر من التوجُّه إلى الكلمة واللحن”.
ويشير إلى أن التكايا والزوايا التي تتربى فيها النفوس، وتصقلُ الإنسانَ بالأخلاق والشرفِ وكلِّ أنواع الجمال الروحيّ هي مصدر هذا؛ إلا أن الفنَّ الموسيقيَّ خَسِرَ مصدرًا مهمًّا جدًّا من مصادره حين ابتعدت هذه المؤسسات الروحيّة عن وظائفها الحقيقية وصارت مأوى للمساكين.
الروايةوالقصةوالمسرحوالسينما
يمكن القول إنَّ فتح الله كُولَنْ يتناول الرواية والقصَّةَ والمسرح التي توجَّسَ منها العالمُ الإسلامي خيفةً ما يقرُب من قرن أو قرن ونصف فلم يتفاعل معها جيِّدًا، كما يتناول السينما التي عارضها العالم الإسلامي أيضًا في أوائل القرن العشرين، ولأن العلاقة بين الإسلام وبين فروع الفنِّ هذه دائمًا ما شكلت مثار نقاشٍ وجدل؛ فهو يرى تركيا -بصفةٍ خاصَّةٍ- متأخِّرَةً كثيرًا في مجال الرواية والقصة والمسرح والسينما مقارنةً بالغرب، وإن كان السلوك الافتراضي الذي تبنَّاه الإسلامُ في هذه المواضيع اضطلعَ بدور جزئيٍّ في هذا الشأن؛ فإنَّ السبب الأصلي هو الإهمال الذي حدث في تلك الفنون.
بعد هذا التقرير ينوِّه كُولَنْ بعدم تحريمٍ ومنعٍ قاطعٍ وجازمٍ في أيٍّ من فروع الفنِّ هذه، وبينما يُفَكِّرُ حول هذه المواضيع ويحلِّلُ الأمر يُبيّنُ ضرورةَ النأي عن الإفراط والتفريط من قِبل الجانبين، وينقل أن انتقادات خطيرة وُجِّهَتْ بحقِّ الرواية بين المثقفين لا سيّما “جميل مريج (CemilMeriç)” الذي كانت له انتقادات خطيرةٌ بشأنها، أما العلماء المسلمون فمنهم من حكم على الرواية بأنها “إحياء الموتى”، وعلى السينما بأنها “إظهار الموتى وكأنهم يتحرّكون”، وعلى المسرح بأنه “نبش الأموات الراقدين في قبرٍ فسيحٍ يُسمَّى الماضي، ووضعُ أرواح الموتى في أجساد الأحياء”، ويذكرُ أنه يجب ألا يُفهم من هذا أنَّ هؤلاء العلماء عارضوا الرواية والقصَّة بالمعنى المطلق؛ لأنهم أنفسَهم ذهبوا مذهبًا استخدموا فيه القصص التمثيلية في بيان كمٍّ كبيرٍ من الحقائق مثلُهم في ذلك مثل الكثيرين من العلماء المسلمين الذين سبقوهم، ويلفت إلى أن هذه القصص التمثيليّة لا تختلف كثيرًا عن القصص والروايات من حيث الجوهر والمغزى، ويُصرِّح قائلًا:
“إذًا فالإطاحة بالروايات والقصص تمامًا والعصف بهما وبما يرتبط بهما من أعمال كالمسرح والسينما، ووصمها بـ”الممنوع” تصرُّفٌ خاطئٌ غيرُ قويم، وإذا كان الأمر كذلك فيجب تناولُ المسألةِ من ناحية البحث عن ماهيَّةِ المواضيع التي تحتويها تلك الأنواع الأدبيَّةُ، وليس تناولها بالنظرِ إلى وجودِها أو عدمِه، ويوافق الجميع على أن عدم تجويز تصوير الباطل مسألةٌ ضروريَّةٌ، وهذا باتفاق الكلِّ، إلى جانبِ أنَّه يستحيل قبولُ أيِّ تصويرٍ أو قصٍّ أو عرضٍ من شأنِهِ أن يعني التشويقَ أو الترويجَ لِمَا حرَّمه الإسلامُ من أمورٍ تحريمًا قاطعًا (كالزنا والفاحشة والخمر والمخدِّرات والقمار والسرقة وقتل النفس…)، وإلا فإنه ليس من الصحيح معارضةُ الرواية والقصَّة ولا غيرها، وأظنُّ أن القصص والمشاهد التمثيليَّة الواردة في القرآن، وبيانات سيدنا رسول الله  وعباراته المتعلّقة بالموضوع ربما تُعدُّ دليلًا كافيًا ومرشدًا هاديًا إلى الطريق الصواب في العثور على الحلِّ الوسط في هذه المسألة” .
ويلفتُ كُولَنْ الأنظار بعد ذلك إلى موضوع آخر مهمّ، وهو حقيقة أنه من الضروري تمثيل الأشياء بمثلها، ويقول انطلاقًا من هذا المبدإ:
“لا يجوزُ -في رأيي- أن تُمثَّل الشخصياتُ المثاليةُ والقدواتُ العظيمةُ الساميةُ التي عرفها العالم الإسلامي وعلى رأسِها الأنبياءُ والرسل  والصحابة الكرام ”.
ويرى بديلًا عن هذا:
“أنه يستحيلُ القول بضرورة استخدام الأشخاص في الحديث عنهم وتقديمهم، ولا سيّما في يومنا هذا الذي تعدَّدَتْ فيه إمكانيات التعبير والتناول بأشكال مختلفة… فيمكن الحديث عن القضايا المرغوب في التعبير عنها بكلِّ يُسرٍ وسهولةٍ وراحةٍ بواسطةِ مؤثِّراتِ الضوء واللون استخدامًا للإمكانيات التِّقنيّة، وأظنُّ أن مثلَ هذا أصحّ وأكثر تأثيرًا، والواقع أن ثَـمَّةَ تحوُّلًا من الـمُشَخَّصِ إلى الـمُـجّرَّدِ في يومنا الحاضر مِمَّا يُمثِّلُ حقيقةً لا مجال لمناقشةِ مدى ملائمتها وموافقتِها لروح الإسلام” .

الترقِّي والحريَّة والمَدَنيّة
وكباقي المثقَّفين؛ فإنَّ فتح الله كُولَنْ يهتمُّ بالمفاهيم الأكثر شيوعًا وتناولًا في يومنا هذا، وذلك من حيثُ ماهيَّتُها وسِمَـتُها، ويُبَيِّنُ بَينَ الحين والآخر آراءَه وأفكارَه بشأنـِها.
الترقِّي
لا يدخل فتح الله كُولَنْ في نقاشٍ جدليٍّ حول مفاهيم “الترقِّي” و”الحرّيّة” و”المدنيّة” وما شابهها من مفاهيم معاصرة، بل يقبلها كمفاهيم وقِيَم دخلت وترسَّخَتْ في قواميسِنا وحياتِنا اليوميَّة، ومهما يملأ الآخرون محتواها بأيِّ شيءٍ فليملؤوه، فهو يفضل تحميل المعنى والمحتوى اللازم الذي تمتلكه تلك المفاهيم من زاويتِها الخاصَّة، ويرى أن أكثر الأشياء نقاءً ولمعانًا ونظامًا وجودةً هو ما ترقَّى من الأشياء وتطوَّرَ منها، ومن ثم فإن الاكتفاء بما هو موجودٌ ضَعفُ هِمَّةٍ، أي؛ فقدانُ غايةٍ وضياعُ بوصلةٍ وتكاسلٌ، أما تجاوز ما هو موجود وإنتاج أعمال أكثرَ انتظامًا وأفضل مستوًى؛ فهذا هو الترقِّي.
ويَسرُدُ فتح الله كُولَنْ بعضَ المعايير والمقاييس في صورة أقوال وجيزة تتعلَّقُ بالشروط اللازمة لترقِّي أيَّةِ أمَّةٍ من الأمم؛ إذ يرى أنَّ تطوُّرَ أمَّةٍ ما وتقدُّمها مرتبطٌ بدرجةِ وحدةِ الأحاسيس لدى أفرادها وبدرجة عمقِ مشاعرهم، كما أنه مرتبطٌ باتحادِ أفراد الأمة في الأهداف والغايات، وأنَّ ثمةَ نقطة أخرى مهمّة في تقدُّمِ المجتمعات ورِفْعَتِها هي القراءة والكتابة، بل ويرى أن الأهمَّ من هذا هو أنه حتى وإن عرف الجميع القراءة والكتابة؛ إلا أن صعوبةَ نيلِ النتيجة المرجوَّةِ أمرٌ حقيقيٌ طالما أن الأجيال لم تُنَشَّأْ في اتجاه واضح ولم تُزوّدْ بالثقافة الـمِــلِّــيَّــةِ .
ويهتمُّ كُولَنْ اهتمامًا كبيرًا أيضًا بــــ”تلاحقِ الأفكار” في عمليَّةٍ الترقية، كما هو الحال في الاكتشافات والاختراعات العلميَّةِ، والمقصودُ بذلك أن تُسانِدَ الأفكارُ بعضَها على مرِّ العصورِ وتوالي الأجيال، ومن ثم أن تسير الأجيالُ فيما بينها مسيرةً موحَّدَةَ الهدف، ويرى كذلك أنَّ كلَّ محاولةٍ وحملةٍ للتقدُّمِ والترقِّي لا تصل إلى النتيجة المنشودَةِ وتحقيق الهدف المرغوب فيه إلا بِقَدْرِ اهتمامِها بالاستفادة من تجاربِ الأجيالِ الماضية، وتقييمِها الوقتَ الراهن تقييمًا جيّدًا .
الحرية
لا يقفُ فتح الله كُولَنْ على الحرِّيَّةِ باعتبارها قيمةً ومفهومًا حقوقيًّا واجتماعيًّا معاصِرًا فحسب، بل وباعتبارها حالةً وقيمةً لها مكانتُها المهمَّة في التصوُّفِ وفي حياةِ الإنسانِ المعنويَّةِ؛ فالحرّيّة عنده أوّلًا هي أهمّ خصائصِ الإنسان، وأبهى جوانبِهِ التي تميِّزه عن غيره من المخلوقات الأخرى، وهي التي تسمو بالإنسان فوق وجودِهِ الحيوانيِّ، وتجعلُه مستقلًّا في مواجهة الطبيعة المتحركة وفقًا لقوانين الأسباب والنتائج، ثم إنَّ السِّمَةَ المميّزة التي تربطه بالموجود المطلَقِ المختار (أي بالله تعالى) لا بدَّ وأن يُبحث عنها في كونه موجودًا عقلانيًّا يمتلك الإرادة والمشاهدة الداخلية، وهكذا فإن الحريَّةَ خاصيَّةٌ من الخصائص التي تجعل من الإنسان إنسانًا؛ أي إنها تُمَثِّلُ تحديدَهُ حركاتِهِ الخاصّة وتعيينَهُ إيّاها، وامتلاكَهُ عقلًا فعَّالًا؛ فيسمو الإنسان في ظلِّ هذا فوق الطبيعة كلِّها بأحيائها وجماداتها، ويتمتَّعُ بِحِسِّ المحاسبة، ويكتسبُ القدرةَ والملكةَ على التحكُّم في حركاته، ولا يمكن استيضاحُ وجودِ الأخلاق من عَدَمِها دون أن تُوضَعَ الحُرِّيَّة وإرادة الإنسان في الحسبان .
إن فتح الله كُولَنْ الذي ينظر إلى الحرية من زاوية مهمَّةٍ إلى هذا الحدِّ يُعرِّفها بقوله:
“الحرّيّة هي أن لا تقبلَ الروحُ سوى المشاعرِ العلويَّةِ والأفكار السامية، ولا ترضى بالإِسارِ لأيِّ مبدإٍ سوى مبدإِ الخير والفضيلة، وهي تحرُّرُ الفكر الإنساني من كلِّ قيدٍ يمنعه من الرقيِّ المادِّيِّ والمعنويِّ بشرط عدم السقوط في وَهْدَةِ اللامبالاة وعدمِ الشعورِ بالمسؤوليّة” .
فالحرية عنده هي اللون الأساس للإرادة التي تُعَدُّ ركنًا مهمًّا من أركان الضمير الإنساني، وأهمَّ كُلّيّةٍ من كُلّياته، وهي واحدةٌ من أبرز العطايا الإلهية للإنسان وأفرَدَها باعتبارِها بُعدًا ضروريًّا من أبعاد حياته، وهذا الإحسان العظيم الفريد عَرَّفَه التراثُ الإسلاميُّ بأنه: امتلاك الإنسان حقوقه الخاصة؛ ومع هذا فإن القدرة على فهمِ الحرّيّةِ حقَّ الفهم مرتبطةٌ بفهمِ نقيضِها بعضَ الشيء، ونقيضُها هو امتلاكُ الفردِ لحقوقِ غيرهِ الشخصيّة، وهذا ما يعني العبوديَّةَ الصريحةَ، والله وحده دون سواه هو مَن وهبَ الإنسانَ هذه الحقوق، ولذا فإنه ليس من حقِّ الإنسان تغيير هذه الحقوق ولا بيعها، ومَنْ يَهُمُّ بفعل ذلك فقد أنكر إحسانَ الله، وقَبِلَ العبودية للآخرين، وأَثِمَ فعلًا.
ويقتربُ فتح الله كُولَنْ من المسألة في نقطة الأفق الإنساني، وربما من زاويةٍ لم يتناولْها منها أيُّ محلِّلٍ معاصرٍ قطُّ، ويَعُدُّ أنَّ أساس الحُرِّيَّةِ وضمانها هو أن يكون الإنسانُ على وعيٍ بوجودِهِ وكيانِهِ أوَّلًا وأخيرًا، وبالتالي معرفته الله تعالى، ويرى كذلك أنَّ عدمَ معرفة الله يفرِضُ على الإنسان أو على غيره من المخلوقات العبوديَّةَ والرِّقَّ، ومثل هؤلاء لا يمكن الحديث عن كونهم أحرارًا إذ إنهم لا يمتلكون حقوقَهم الإنسانيّة.
إذًا فالحرِّيَّةُ -في فكر فتح الله كولن- هي ألا يخضعَ الإنسان لغير خالِقِه تعالى، وألا ينحني أمام أيِّ شيءٍ، ولا يخنعَ إلى أيِّ إنسان، والوصولُ إلى الحريةِ هو أوضحُ الأمارات على أن القلبَ صار مرآةً برَّاقةً لامعةً تعكِسُ الحقَّ، إلا أنَّ الإنسان الذي يَصِلُ إلى هذه النقطةِ -التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالإيمان والمعرفة وقطعِ كُلِّ العلائق القلبيّة بأصحاب القوَّةِ والثروة والسُّلْطَةِ والجاهِ سوى الله تعالى- هو مَنْ حَطَّمَ كلَّ القيود والسلاسل المحيطة بنفسِه، أي تخلَّصَ من تأثيرِ أنانيَّتِهِ، وهكذا فإنَّ الحرِّيَّةَ الحقيقيَّةَ يمكن أن تتحقَّقَ فحسب في ظلِّ انسلالِ الإنسان من الهموم الدنيوية والغوائل والآفات القلبيّة كالمال والمنال، وتوجُّهِهِ إلى الحق تعالى بكلِّ خصائِصِهِ الخاصَّةِ بعالم الفِطْرَةِ، وأعماقِهِ وأبعادِهِ الخاصَّةِ بالعوالم المعنويَّة.
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“الحُرّية الحقيقيَّةُ ضرورةٌ من ضرورات العبوديّة الكاملة لله تعالى؛ حتى إنه يمكن اعتبارُ العبوديَّةِ لله تعالى بالمعنى الكامل والحريةِ الحقيقيّةِ مترادفتين”.
ثم يُورِدُ هذا التقييم قائلًا:
“يمكن القولُ إنَّ الإنسان حرٌّ بقدرِ عبوديَّتِهِ لله، ومن حُرِموا العبوديَّةَ لله لا يمكن أن يُدركوا القِيَمَ الإنسانيَّةَ الحقيقيَّةَ مثلما يتعذَّرُ عليهم أن يكونوا أحرارًا أبدًا؛ لأنه يشقُّ عليهم أن يتخلَّصوا في أي وقت من الدَّوَّامات البدنيّة والجسديّة، وأن يشعروا بجواهرهم وبما لها من أعماق خاصة بها، وطالما أنَّ القلب أَسَرَتْه وكَبَّلَتْهُ مطالبُ وأحبّةٌ وأهدافٌ مختلفةٌ فيستحيل أن يكون الإنسان حرًّا أبدًا، وأنَّى لشخصٍ مَدينٍ للآخرين دائمًا أن يكون حرًّا!” .
المَدَنيّة
كما هو معلوم فإن مفهومَ المدنيَّة واحدٌ من أكثر المواضيعِ تناولًا ودرسًا منذ عصرَين من الزمان، وقد تناولَهُ البعضُ مع “الحداثة”، حتى إنهم جعلوهما شيئًا واحدًا، بينما البعض فرَّقَ بينهما تفريقًا مهمًّا، ويمكن القول إن فتح الله كُولَنْ واحدٌ من ضمن المجموعة الثانية هذه؛ وكما هو ديدنُه وشأنُهُ؛ فقد تجنَّبَ الدخول في نقاشاتٍ نظريّة أو متضاربةٍ حول هذا المفهوم كما تجنّبَهُ فيما يخصُّ مفاهيمَ الترقِّي والحرِّيَّة وما شابهها، وسعى أنْ يُحَمَّلَ هذا المفهوم -الذي صار جزءًا من معاجم الإنسانية جمعاء، بل من حياتها اليومية- المحتوى والمعنى الواجبَ أن يُـحَمَّلَهُ.
فهو يرى الإنسانَ مخلوقًا مدنيًّا في الأساس بحسب ما تقتضيه فطرته؛ أي إنَّه خُلِقَ ملائمًا للتَّمَدُّنِ بالنظر إلى ماهيَّتِهِ، وقد استطاع منذ أن جاء الوجودَ وحتى الآن أن يكون مدنيًّا بقدرٍ ما، أو أنه بَحَثَ عن الطُّرُقِ الموصلة إلى ذلك؛ فالرغبةُ في المساواة بين التمدُّنِ والتقنيّة والتكنولوجيا والصناعة، بل والمساويين بينها إن كانوا موجودين؛ كلّ ذلك وسيلةٌ وأداةٌ في عمليَّةِ “تحديث” الحياةِ، والمدنيَّةُ ما هي إلا مناخٌ وجوٌّ ملائمٌ لتطوُّرِ ملكات الإنسان ومواهبِهِ وتناميها، أما الإنسان المدنيُّ فهو المنفتحُ المتطوِّرُ في هذا المناخ مشاعريًّا وفكريًّا، المُنصَاعُ لأمر المجتمع بما طوّره من مشاعر سامية، ولذا فينبغي ألا يُبحَثَ عن الثراء في عناصر الازدهار المادية كالقصور والعمائر الفخمة، ولا في أودية المشاعر الجسدية كالإنتاج والاستهلاك باعتباره أمرًا روحيًّا وذهنيًّا، بل ربما يجب البحثُ عنه في الظواهر المعنوية الذهنية كوجهة النظرِ والرُّؤَى المتعدِّدَةِ والنظامِ الفكريِّ ورحابِ الروحِ.
والمدنيّةُ عند كُولَنْ ليست غنًى مادِّيًّا ولا إشباعًا للرغبات الجسدية ولا انغماسًا في الشهوات والسفاهات، بل إنها غنًى في القلب ورقّةٌ في الروح، وعمقٌ في النظرة إلى الأمور، واعترافٌ بحقِّ الآخرين في الحياة، وتقبُّلُهم وعدم التضييق عليهم أيضًا، ولقد تحقَّقَتْ المدنيَّة الحقَّةُ في تلك المناخات والبيئات التي سار فيها العلمُ مع الأخلاقِ جنبًا إلى جنب؛ لذا فإن المدنيَّة التي لا تستند إلى الفضيلة والأخلاق، ولا تتغذَّى من منابع العقلِ والضميرِ؛ لا يمكن أن تكون وسيلةً لسعادة الإنسانيّة، وكلُّ ما تستطيعه مثلُ هذه المدنيّة هو أن تخدم بعضَ الأغنياء وأربابِ الأهواء برهةً من الزمن لا أكثر؛ ولكي يصبح الأفراد مدنيِّين يلزم البحث عن الطريق الموصلة إلى اكتسابهم فطرةً ثانيةً عبر تنمية بذور الأمور الطيبة الخيِّرَةِ الكامنة في جواهرهم.
ويتطرق فتح الله كُولَنْ إلى تكوّنِ المدنيَّات؛ فيعتقد أن كلَّ مدنيَّةٍ جديدةٍ إنما ظهرت وتكوَّنت بفضل حملة عشقٍ وإيمانٍ جديدة تمامًا، ويرى أن الوصول إلى الأفق المدنيّ يستحيل أن يتحقَّقَ في بيئةٍ كهذه، ولا سيما في مجتمعٍ يفتقرُ إلى هذا الإيمان والحماس، حتى وإن اخْتُرِقَت السماوات في ظلِّ العديد من أفرُع العلم، ويُسجِّل أنَّ:
“المدنيَّةَ الغربيَّةَ التي حَسِبَت كلَّ شيءٍ محصورًا في العلم ظلَّت مدنيَّةً مشلولةً، أما المدنيَّات الشرقيّةُ التي انعزلَتْ عن العلم، وتقوقَعَتْ على نفسها فهي بالنَّظَرِ إلى موقِفِها ووضعِها الراهن بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن أن تُكوِّنَ مدنيَّةً مناسبةً للحاضر والمستقبل”.
ومن هذه الناحية يرى كُولَن أن حضارةَ المستقبل سوف تنمو وتتطوَّرُ وتترعرع بعد أن تَتَبَرْعَمَ فلسفةُ الشرقِ الإيمانية والأخلاقيةِ، وتتمازجَ بعلومِ الغربِ وصنائعه .

بعضُ المصطلحات المستحدثة
يَطْرَحُ فتح الله كُولَنْ أفكارَهُ ويُصرِّحُ بآرائِهِ في مختلفِ القضايا اليومية والاجتماعية والسياسية مثل الجمهورية والديمقراطية والاستبداد والإرهاب والفساد والبحث عن المجتمع النظيف إلى جانب السياسة التي هي: “فنُّ إدارة الخلقِ وقيادتِهِم على نحوٍ يُرْضِي الخالقَ”، ويُجيبُ على ما يُطرَحُ عليه من أسئلةٍ سواء في كتاباته أو في أحاديثِهِ أو في غير ذلك من المواقف.
السياسةُ: الحكمُ،والعلاقة بين الدولةِ والشعبِ، والصِّلَةُ بين الحقِّ والقوَّةِ
مع أن فتح الله كُولَنْ بعيدٌ تمام البُعد عن ممارسة السياسةِ الفعليَّةِ إلا أن له حزمةً من الأفكارِ الخاصَّةِ يتناولُ فيها ما يجب أن تكون عليه إدارة العباد ومقدّراتُ البلاد، فيقول:
“إنه فنُّ إدارةِ الخلق وقيادَتُهم على نحوٍ يُرْضِي الحقَّ سبحانه”.
ويرُكِّزُ على السياسة أكثر ما يركز عليها باعتبارها فنَّ إدارةِ بلدٍ وشعبٍ، ويؤكِّدُ على ضرورة أن يكون القائمنون بتطبيق سياسة بهذا الفهم أشخاصًا:
“لا يُفَكِّرُونَ في متَعِهِم الشخصيّة أبدًا، بل يُسَرّون لِسُرُورِ الشعب، ويتلوَّونَ بآلامِهِ…”.
“يجبُ البحث عن الإدارة الجيِّدَةِ والسياسة الرفيعة المستوى لدى أصحاب الأرواح النبيلة والعقول المفكِّرة وخدَّامِ الحقيقة الرافضين التحرُّر منها”.
ويتناول المسألةَ في أساس الإنسان، ويلفت الانتباه إلى أَهَـمِّــيَّة السِّمَاتِ والخصائصِ التي تُعمِلُ القوانين وتنفذها حتى تصل إلى درجة كفايتها وصحَّتِها ومناسبتها؛ فيرى ضرورة أن تكون القوانين نافذةً على الجميع في كلِّ وقتٍ ومكان، وأن يتمتَّعَ مُنَفِّذوها أيضًا بالشجاعة والعدلِ والجسارة؛ فلا يفقد الناس ثقتَهم ولا أمنَهم تمامًا من جانب، بينما يخافونهم من جانب آخر، ويؤكِّدُ كذلك على أهمّــيَّـةِ فكرة الحقِّ وسيادة القانون والوعيِ بالواجب والوظيفة، ومفهوم المسؤولية في الأعمال الصعبة القاسية، والمهارة والكفاءة في الأعمال الرقيقة الحسّاسة خاصَّةً.
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“تولد الحكومات المجيدة من الأمم المجيدة، وتتكوَّن الأمم المجيدة من نُخبَةِ الأجيال المؤمنة التي تملك قابلية علمية عالية، وإمكانيّاتٍ مالية كبيرة وآفاقَ نظرٍ واسعة وتحاول أن تحافظ على ذاتيَّتِها وأصالتِها وهويَّتِها…”.
“بقدر ما تحظى به وحدةُ المشاعر والأفكار والثقافةِ من أهمية كي تصبح أيَّةُ أُمَّةٍ من الأمم قوية؛ بقدر ما يؤثِّرُ فسادُ الوحدة الدينيَّةِ والأخلاقيّة وانهيارُها في تمزُّقِها وتفرُّقِها”.
كما يرى أن للدين مكانةً مهمَّةً في حياة المجتمعات، وفي هذا يقول:
“إذا ما وُضع في الاعتبار كون الدّين موحِّدًا ومكمِّلًا؛ فهو المؤسّسة الضرورية الحتميّة الواجب على حكام الشعوب الْتِفَافُهُم حولَها ووضعهم إيَّاها في حسبانهم ولجوؤهم دائمًا إلى قوَّتِها التي لا تُهْزَم”.
ويُشيرُ إلى دور الدّين كقوَّةٍ عظمى تُسيطر على الضمائر والأفئدة ولا سيما السلم والأمن؛ فيُبَيِّنُ أنَّه هو العنصر الأكثر سيطرةً وإحكامًا في إخضاعِ تصرُّفاتِ الأفراد وحركاتهم للمراقبة والملاحظة؛ فيُذَكِّرُ قائلًا:
“لذا كان على القائمين بإدارة الدولة إبقاءُ الدّين حيًّا في النفوس وفي الضمائر، وليدركوا يقينًا أن حياةَ الأمَّةِ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بحياتها الدينية”.
ويرى أنّ الحكومات تكون ناجحةً سياسيًّا بقدر حمايتها شعوبَها من الشرور باستخدام قوّتها وسلطاتها وعدالتها، ومثل هذه الحكومات تُبَشِّرُ بمستقبلٍ ناجحٍ زاهرٍ.
ويقول فتح الله كُولَنْ:
“الحكومة تعني العدالة والاستقرار والأمن، فإن لم تكن هذه الأمور متوفِّرَةً في مكانٍ ما فمن الصعب الحديث عن وجود حكومةٍ هناك، وإنْ شبَّهْنا الحكومةَ بمطحنةٍ فإن الدقيقَ الذي تنتجه هو النظام والأمن والاستقرار، والمطحنة التي لا تنتج هذا ليست إلَّا آلة ضوضاء جوفاء لا تَطحن سوى الهواء”.
ويأتي بتقييم مهمٍّ جدًّا في علاقات الحكومة بالشعب فيقول:
“قبل أن تقول الحكومة عن أمَّتِها “ها هي أمتي” فمن الأفضل والأهم أن تبادرَ الأمَّةُ قبلها وتقول عنها “ها هي حكومتي”؛ لأن هذا هو المطلوب فيما أرى، وبعكس ذلك ترى الأمةُ في حكومتها قوَّةً ظالمةً مسلَّطَةً على رأسها، أي إنَّ بنية الأمة تكون قد انفصلت تمامًا عن رأسها” .
ولا يقبل فتح الله كُولَنْ أن تركَنَ الحكومة أو الدولة إلى القوَّةِ فحسب؛ لذا يقول:
“القوَّةُ في الحقِّ، وليس الحقُّ في القوَّةِ”.
ومع هذا فإنه يرى لـِخَلْـقِ القوَّةِ حِكمةً؛ ومن ثَمَّ فيجب أن تكون الدولةُ والحكومة قويَّة، إلا أنه وكما يلزم ألَّا تستند إلى القوة بالدرجة الأولى في الإدارة؛ فيجب عليها ألا تُفرِطَ فترى الحقَّ في القوَّةِ، وألا تُفرِّطَ فتتركَ الحبل على غاربه أيضًا، بل عليها أن تخضعها لأمر الحكمة والقوانين ، ويتناول كُولَنْ العلاقةَ ما بَيْن “الحكمة والقانون والقوة” ويقيمها فيقول:
“دساتير الحكمة إن لم تُزوَّدْ بالقوانين والقوَّةِ ظلَّ كلُّ شيءٍ حبرًا على ورقٍ، واستحالَ أن تؤثِّرَ في الناس التأثيرَ المتوقَّعَ، بالإضافة إلى أنَّ تطبيقَ الحكمة على الحياة لا يمكن أن يتحقَّقَ بسهولةٍ تامَّةٍ؛ وبالتالي فثمَّةَ حكمةٌ في خلقِ القوَّةِ أيضًا، ولذا يجب أن يحظى كلٌّ منهما بما يستحقُّه من الأهمِّيَّةِ، فلا بدَّ أن تجتمعَ “الحكمةُ والقانونُ والقوَّةُ” معًا ويتحقَّقَ الاتِّفَاق بينها” .
إن فتحَ الله كُولَنْ المؤكّدَ على أن الدولة والحكومة يستحيلُ عليها تحقيقُ سيادَتِها وسيطرتِها بالشِّدَّةِ والظلم والاضطهادِ والخداعِ يرى أنه:
“لا ينبغي فرضُ احترامِ الدولةِ وتقديرِ الحكومةِ على الشعب بالقوة والإكراه، بل بالجدّيّة والوقارِ في تصرُّفات وسلوكيَّات من يديرون الدولةَ، وصدقهم في أعمالهم وخدماتهم؛ إذ لم يتسنَّ لأيَّةِ إدارةٍ أو حكومةٍ حتى اليوم أن تبقى أو تدوم؛ لا باستبدادِ الموظَّفين الظالمين ولا بخداعها الشعوب والجماهير”.
وبحسبه أيضًا فإنَّ الدولة تكونُ جيِّدَةً وقويَّةً إذا ما جرى اختيارُ جميع البيروقراطيّين والموظَّفين العاملين فيها بناءً على نُبْلِ الجوهرِ والفِكْرِ والحِسِّ، ويلفت كُولَنْ الانتباهَ إلى ضرورةِ أن يتحرَّكَ الموظَّفون في معاملاتهم في حدودِ القوانين، ويتَّصِفوا بالرِّفْقِ واللين بحسب ما في وجدانهم من رفقٍ ولينٍ، ويُنوِّه بأنَّ التصرُّف هكذا من شأنه أن يحمي سمعَتَهم الشخصيّة ويُرسِّخَ في القلوب احترامَ القوانين والدولة كذلك، وهو يُحذِّرُ من أن الممارسات القمعية المتشدِّدَة تتسبَّبُ في وقوعِ انفجاراتٍ غير متوقَّعة، وأنَّ اللين الـمُفْرِطَ الزائدَ يجعلُ المجتمع بيئةً صالحةً لنشوء أفكارٍ لقيطةٍ، ويُفصِّلُ القولَ أكثر في هذا الشأن فيقول:
“الأساس في الولاة (المحافظين) توفُّرُ الشفقة والوعي والتحلّي بروحِ المسؤولية؛ أما في رؤساء البلديات فهو توفُّر النظافة والنظام والقدرة على توفير الأمن العامّ، وأما في القضاء فسيادةُ فكرةِ الحقِّ والحيادِ وعزيمةِ الشجاعةِ المدنيّة” .
ويهتمُّ كُولَنْ بالاستشارة في الحُكْمِ أيضًا، ولهذا يعتقدُ ويؤمنُ بضرورةِ احترامِ الأفكار، ولا سيما توفير مناخٍ من الحرِّيَّةِ يستطيع الأفرادُ الخبراءُ في مجالاتهم المخلصون أصحابُ النيات الطيِّبة أن يُعَبِّرُوا في ظلِّه عن أفكارهم، ويؤكِّدُ على ضرورة البحث عن سبلٍ وطُرُقٍ للاستفادة من آراء هؤلاء الناس وأفكارِهِم حتى وإن كانوا أصحاب فلسفات وأفكار مختلفة، وأنه لا بدَّ من التحاور والالتقاء بهم، ويُرَكِّزُ أيضًا على نقطةٍ أخرى مهمَّةٍ في هذا الموضوع فيقول:
“ينبغي للإنسان الاستفادة من المعلومات والآراء والملاحظات التي من شأنها أن تنفع نظامه وفكره وعالمه الخاص؛ أيًّا كان مصدرُها، ولا سيما أنه يجب ألا تُهمل الاستفادة من تجارب الخبراء المجربين” .
الرائد
ويهتمُّ فتحُ الله كُولَنْ بِسِمَاتِ القائِدِ الذي بوسْعِهِ أن يُرْشِدَ الشعوب والأمم؛ فيرى أن القائدَ هو الإنسان القادر على إثبات نفسِهِ والإحساس بها والتربُّعِ في القلوب دائمًا بجوهَرِهِ وسِماتِهِ الخاصّة بشخصه، إنَّه إنسانُ المستوى القادرُ على جمع الأنظار حوله -دون رغبةٍ منه في ذلك- بقدرته على الإقناعِ الكامنةِ في وجهةِ نظرِهِ، وعمقِهِ في الفهم، وبدقَّةِ آرائِهِ، وسعةِ إدراكِهِ ومعرفتِهِ، وسلامةِ استنتاجاته، وعشقِهِ التعلُّمَ، واستعدادِهِ للتعليم، وقدرته على التغلُّب على كلِّ شيءٍ، والوفاءِ بكل مسؤوليَّاته والتزاماته، المحبوبُ والمعتبر والأثير إلى النفس، ومن ثم فهناكَ آلافٌ بل مئاتُ الآلافِ من الناس على استعدادٍ دائمٍ للتضحية والموت في سبيله.
ويضع فتح الله كُولَنْ التفكيرَ السليم والحديثَ الصائب وحبَّ الصدقِ والصوابِ والاشمئزاز والنفورَ من الكذب، وبثَّ الثقة والصدقَ والوفاءَ أيضًا؛ بين أبرز سمات القائد وصفاته، ويسجِّلُ ضرورة أن يتحلَّى بالشفقةِ العميقة والإدراك العالي والجسارة الموزونة والحزم والصبر والمتانة إلى جانب اهتمامه بأسلوب مأكَلِهِ ومشرَبِهِ، وقيامِهِ وجلوسِهِ، وتصرُّفاته واتِّزانه ومعاملاته، ووقاره وبشاشة وجهه دون تغاضٍ منه عما يدور حوله أو تساهُلٍ في الأمور، إنه إنسان الاحترام والإجلال والأدبِ والمحبَّةِ الذي يحترم ويُوقِّرُ الكبيرَ ويرحمُ ويعطِف على الصغيرِ.
فالقائدُ هو في الوقت ذاتِهِ بطلُ الأخلاق والفضيلة؛ فبرحمته ولينِ طباعه يُمَثِّلُ قلبَ جميع الأحياء الخافق، ونبضَها الناطق، وهو بجسارته وفُتوَّته في الحقِّ حامي وطنه الثابت الذي لا يملّ، وبعالمه الحسِّيِّ والقلبيِّ يمثِّلُ آمنَ مأوى وملاذٍ للضعفاء، وبتواضُعِهِ وتفانيه يُمثِّلُ المصدرَ الوحيد للسائلين المدفوعين بالأبواب، وبفضلِ مناخِ العفوِ والصفحِ الخاص به يمثِّل مصباحَ الأمل للمتخبِّطين المترنِّحين؛ فالقائد يكون رحيمًا إذا ما كان عادلًا، ومستقيمًا إذا ما فاض بالرحمة، لا تُسمعُ في دنياه آهات مظلومين ولا صرخاتُهم، ولا عبثُ ظالمين ولهوهُم؛ إنه يمتلك بِنيَةً روحية تتمازج فيها الأضداد بحيث يستطيع الإحساس في وجدانه بالمهابة والخشية، ومن ينظرون إليه من هذه الزاوية يشعرون أنهم أمام قِمَّةٍ يستحيلُ تجاوُزُها، ويقشعرُّون حيرةً وتعجُّبًا، أما من سنحت لهم فرصةُ التعرُّفِ إليه بارتباطه بعالم الغيب وإخلاصه وصِدقِهِ فيظنُّون أنهم يجلسون إلى واحدٍ من الروحانيين المعنويين، ويغيبون عن وعيهم أمامه .
الجمهورية والديمقراطية
فتح الله كُولَنْ إنسانٌ يساندُ تمامًا النظام الجمهوري؛ فيقول:
“الجمهوريَّةُ تعني النظام الإداري الذي يملك فيه الشعبُ حقَّ الانتخاب والشورى، وأوَّلُ كِتابٍ في تعليم هذا الأمر دون نقصٍ هو القرآن الكريم؛ لذا فالادِّعاء بأنّ الإدارةَ الجمهوريَّةَ تُخالِفُ القرآن؛ إن لم يكن ادِّعاءً مُغْرِضًا فهو سوء فهمٍ، أما مناصرو الجمهورية الذين يتناسَون مصدرها الحقيقي ويتعامَون عنه قصدًا فهم معاندون ليس إلّا”.
ويضيف قائلًا:
“مثلما لم يَدَّعِ الرسول  أنه مَلِك؛ لم يَدَّعِ خلفاؤُه كذلك من أصحابه الذين جاؤوا من بعده أنهم سلاطين أو ملوكٌ، ولم يَظهَر النظامُ الملَكِيّ إلا بعد الابتعاد عن روح الإسلام، وبنسبة هذا الابتعاد أصبحَ هذا النظام واسطةَ ظلمٍ واستبدادٍ”.
ويؤيِّدُ فتح الله كُولَنْ الجمهوريَّةَ الحقيقيَّةَ التي يراها مصدرًا للحرية ومُغذِّيةً وحاميةً لها ومربِّيَةً للأجيال العاشقة للحرِّيَّة، كما يؤيِّدُ تمامَ التأييد الحكومةَ المنبثِقةَ عن الحرِّيَّةِ الفاضلة والأخلاقية، ولا يُؤَيِّدُ “الجمهوريَّةَ الشكليَّةَ”، وفي هذه النقطة أيضًا يَقِفُ على قضيَّةِ الإنسان مجدَّدًا فيقول:
“الجمهوريَّة الحقيقيّة هي شكلُ إدارة النفوس العالية، وهي أكثرُ أشكال الإدارةِ لياقةً بالكرامة الإنسانية، أما النفوسُ الغليظةُ التي لم تتلقَّ التربية والثقافةَ اللازمة، ولم تَسِرْ في درب الكمال الإنساني؛ فإن الجمهورية تبدو لها سرابًا بِقِيعةٍ أو خيمةً لا يمكن السكن فيها”.
وينوّه بأنَّ الجمهورية برغم كونها شكلًا إداريًّا آمنًا رفيعَ الشأن يعتمد على مفهوم الحرية والعدالة الحقيقية؛ إلا أنها نظام حساسٌ ورقيقٌ جدًّا، مُنَبِّهًا إلى ضرورة ألا تصبح أرضيَّةً وساحةً للإلحاد والفوضى، ولأجل هذا فإنه يؤكِّد على مجموعة من المبادئ والأسس؛ فيلفت الأنظار أوَّلًا إلى رغبةِ الروحِ البشريةِ في الحريةِ، وميلِها إلى رفضِ كلِّ قُوًى تُسيطرُ عليها، وحقيقةِ أنها تُواجِهُ -بنوعٍ من ردّةِ الفعل- كُلَّ القيود التي توضع على أفكارها وتصرُّفاتها وبياناتها، وبالتالي فقد يتحوَّلُ الإنسان إلى عنصرٍ فوضويٍّ؛ فيُحَذِّر قائلًا:
“لذا فعلى أنصار النظام الجمهوريِّ عندما يعطون حرِّيَّاتٍ واسعة للأفراد أن لا يُهمِلوا ناحية الأخلاق والفضيلة ليصبحوا من ذوي الإرادات القويَّةِ”.
ووفقًا له أيضًا فالدين هو المصدر الأهمُّ بالنسبة للخصال السامية كأن يكون الإنسانُ إنسانَ الأخلاق والفضيلة والشعور بالمسؤولية والفكر والإرادة؛ ومن ثمَّ فإنه ينبغي للنظام الجمهوري أن يحميَ الحسَّ والفكرَ الدينيَّ ويرعاه .
ويُصَرِّحُ كُولَنْ بأفكارِهِ حول الديمقراطية أيضًا بين الحين والآخر، ويلفت الانتباهَ إلى أنه ليس صحيحًا عقدُ مقارنةٍ بين الديمقراطية والإسلام على أساسٍ واحدٍ، وأن ذلك ليسَ منهجًا علميًّا، كما يؤكِّدُ على صعوبةِ إجراءِ مقارنةٍ كتلك في المناخِ الثقافيِّ والعقليِّ المعاصِر، ويُبَيِّنُ أن الإسلام في الأساس “دين متكاملٌ” ليسَ إلّا، أي إنه يرى الدينَ تجربةً تتعلّقُ بالجوانب الثابتة من الحياة الإنسانية بالدرجة الأولى، ونظامًا للحِسِّ والشعور والعيش، بينما في الثقافة الحديثة -سواء في الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان بل وحتى في علم النفس والتحليل النفسي- يتم تناولُ الدين بمناهج وأساليب اختبارية، علاوةً على أنَّ من ينسبون أنفُسَهم إلى الدين يرَونَهُ مادَّة للفلسفة والاستدلال أو حادثةً روحيَّةً معنويّةً، ويُبيِّنُ أن الصعوبةَ تتضاعفُ عند تناول الموضوع من زاويةِ الإسلام، وأن ثَمَّة مجموعةً من المسلمين وكذلك القوى السياسية المهيمنة على العالم الحديث تَعْتَبِرُ الإسلامَ في وقتِنا الراهن أيديولوجيَّة سياسيَّةً اجتماعيَّةً اقتصاديَّةً.
كذلك يُبَيِّنُ فتح الله كُولَنْ أنَّ الإسلام يعتمدُ على الوحي، ويهدفُ بالدرجة الأولى إلى سعادة الآخرة وسعادة الدنيا استنادًا إليها، وتوفير السِّلْمِ والهدوءِ والطمأنينة والعدالة في العالم، وهو بجوانبه الأساسية هذه يحتوي مبادئَ وأُسُسًا ثابتةً ترتبطُ بالزمان والمكان، في حين أنَّ الديمقراطية مجردُ نظامٍ ومنهجٍ إداريٍّ على الأكثر؛ ويُذكِّر بأنّه إن كانت ثمة نية لعقد مقارنة بينهما -أي بين الإسلام والديمقراطية- فيمكن إجراؤها بين الأُسُسِ الإدارية لكلٍّ منهما، وفي هذا الموضوع يُشيرُ إلى الحديث النبوي الشريف الذي يوضِّحُ أن الإسلام يُساوي بين الناس جميعًا أمام القوانين باعتبارهم بشرٌ، إذ يقول : “النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ” ، وإلى أنَّ الحديث الشريف الآخر القائل: “كُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا” ؛ وهذا مبدأٌ وأساسٌ مهمٌّ جدًّا في هذا الشأن، ثم يقول:
“إن الإسلام يرى أنَّ القوة تكمنُ في الحقِّ، وأن الحقَّ سَامٍ ومُقَدَّسٌ يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه”.
ويؤكِّدُ على أن سيادةَ القانون والعدالة هي الأساس بالمعنى الـمُطْلَق في الإسلام، ثم يطرحُ حرّيّةَ الاعتقاد والفكر والحياة والمال والجيل للتدبُّرِ والدراسة، ويرى:
“أنَّ تحمُّلَ كلِّ إنسانٍ وِزْرَهُ أساسٌ كما أن عِصْمَةَ الفرد أساسٌ، ومن ثم فالمتَّهَمُ بريءٌ حتى تَثْبُتَ إدانتُه، ويستحيلُ أن يتحمَّلَ أحدٌ وزرَ أحدٍ، ثم إنه لا استهانةَ في حقٍّ، ولا يمكن التضحية بحقِّ الفردِ لصالِحِ المجتمعِ”.
وبهذه الصورة يلفت فتح الله كُولَنْ الأنظارَ إلى وجودِ مجموعةٍ من القِيَمِ والمبادئِ الأساسية للإسلام يمكن مقارنتها مع الديمقراطيّة، ويرى الإنسانَ المُحَرِّكَ الأساسَ في التاريخ، ويتطرَّق إلى أن الإسلام أضاف بُعدًا كونيًّا أو قدرِيًّا إلى الموضوع بدساتيره وقوانينِهِ الأساسية التي عُبّر عنها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/11)، وفي الحديث النبوي الشريف: “كَمَا تَكُونُون يُوَلَّى عَلَيْكُمْ” ، إلى جانبِ رؤيتِهِ الإنسانَ محرِّكَ التاريخِ وعمادِهِ.
ويؤكِّدُ على أنَّ القرآنَ الكريم حمّلَ وظائفَ الدولة الحديثة للمجتمعِ في صورة أوامرَ ونواهٍ بدرجاتٍ معيَّنةٍ واضحةٍ، ومن ثمَّ فإن المجتمعَ نفسه مسؤولٌ عن الإدارة، وأن هذه المسؤوليَّة مهَّدت السبيل لتتكوّنَ مجموعةٌ من المؤسَّسات، وأن نظامَ الإدارة في الإسلام يبدو في أحد جوانِبِهِ بمثابة “عقدٍ اجتماعيّ”.
ويلفت الانتباهَ كذلك إلى أن الإسلام مهمٌّ لأقصى درجةٍ بالنسبة لحياة الفردِ والمجتمع، وإلى بعض دساتيره المهمَّةِ التي لم تهتمّ بها الديمقراطيّة ولو حتى نظريًّا، ويوضِّح تلك الدساتير على النحو الآتي:
يُقرُّ الإسلامُ بالحقِّ بديلًا عن القوَّةِ كنقطةِ ارتكازٍ واعتمادٍ في الحياة الاجتماعية، وأن هدفَ النظام الاجتماعي هو الفردُ الفاضلُ والمجتمعُ الفاضلُ، ومن ثم الفوز برضا الله تعالى عبر سلوكِ هذا الطريق، ويتَّخِذُ الإسلامُ التعاونَ والتكافلَ أساسًا له في الحياة بدلًا من التصارع والتباغض، والرابطة التي أقامها بين طبقات المجتمع هي القِيَمُ والمشاعر المشتركة والإيمان لا العنصرية والعرقيّة، ولا يتبنّى إشباعَ الأهواءِ والرغبات النفسيَّة أيًّا كانت وبأيِّ طريق يكون ذلك، وإنما يجعلُ غاية النظام الاجتماعي تنشئة أناس كاملين بدفع الروح إلى بلوغ الكمالات الإنسانية، وإنّ ميزة الحقِّ ونتيجتَه هي الاتفاق بدلًا من الاختلاف؛ وميزةَ الفضيلةِ ونتيجتَها التكافلُ والتضامنُ، وميزةَ التعاون ونتيجتَه هي التوحُّد والتكامل والسعي إلى مدِّ يد العون والتعاون بدلًا من التفرُّق والتشرْذُمِ، أما ميزةُ الإيمان والقيم والمشاعر المشتركة ونتيجتها فهي الأخوَّة لا العداوة، وأما سمة الإنسان الكامل -بدفع الروح وحثِّها على إدراك الكمالات- ونتيجتُها فهي السعادة في الدنيا والآخرة على حدٍّ سواء .
ويُبَيِّنُ فتح الله كُولَنْ أن الديمقراطيَّةَ وتيرةٌ مستمرَّةٌ، وأنَّ أنواعَها ودُعاتَها كُثُرٌ، وأنه يمكنُ تحديثُها وتطويرُها، بل إنه يجبُ ذلك، فيقول:
“إنني أرغب في ديمقراطية تستطيع -إلى جانب حمايتها الثورات الفكرية المعروفة في العالم واحتضانها إياها- أن تحُلّ مشكلاتي المتعلِّقَةِ بحياتي فيما بعد القبر”.
ويَذكُرُ أنَّ الإنسانَ المتكاملَ علميًّا وروحيًّا يمكنه على الدوام النجاحُ في تحقيقِ هذا، ومع هذا فإنه يقول:
“إن كلَّ شيءٍ يُنجَزُ باسمِ الديمقراطيَّةِ لا بدَّ وأن يأتيَ عبرَ طُرُقٍ ديمقراطيَّةٍ أيضًا”.
كما يتطرَّقُ إلى الممارساتِ الخاطِئَةِ المرتَكَبَةِ باسم الديمقراطيَّة، ولا يتوانى عن التحذير منها ومن أمثالها، فيقول:
“نظرًا لأنَّنا مطالَبون بالعيش في مكانٍ موحّدٍ رغمَ تبايُنِ أوضاعِنا ووجهاتِ نظَرِنا؛ فإنَّ نقطة النهاية بالنسبة لحُـــرِّيَّـــتِنا هي تلك النقطة التي تبدأ عندها حرِّيَّةُ الآخرين، وإنَّ المقياسَ والميزانَ في استخدام الحرّية هو القيمُ والمبادئُ الأخلاقيّة والأمورُ والمواضيعُ التي تخصّ بقاءَنا الـمِلِّيَّ ووحدةَ بَلَدِنا وتكاملَها؛ وإلا اندلعت الفوضى واستحالَت ممارسةُ حتى الحريات الأساسية” .
الفوضىوالإرهاب
وبينما يكشف فتح الله كُولَنْ عن آرائه الخاصَّةِ بالفوضى والإرهاب والجرائم المجهولة الفاعل التي تُشَكِّلُ واحدةً من أهمِّ ظواهر القرن العشرين ولا سيما النصف الثاني منه، والتي انتقلت إلى القرن الحادي والعشرين بشكلٍّ أشدّ؛ يُنوِّه أوَّلًا بنقطةٍ أخرى مهمَّةٍ فيقول:
“يستحيل طلبُ غاية مشروعةٍ بقتلِ الأبرياء، ولذلك فقد قلنا منذ البداية “يستحيل أن يكون الإرهابيُّ مُسْلِمًا، كما يستحيل أن يكون المسلمُ إرهابيًّا”. أجل، إن ابن عباس  يرى أن قتلَ الإنسان مساوٍ للشِّرْك؛ حيث إنَّ الأبرياء هم من يُقتلون دائمًا في الأحداث الإرهابية التي تمثِّلُ مصيبةً وبلاءً لنا في هذه الآونة، وتُهدّم البيوت والنُزُل؛ فتترمَّلُ النساء، ويتيتَّم الأطفال، ولا يمكن إقرارُ كلِّ هذه الأمور في منهج العقيدة الإسلامية، ويقول بديع الزمان سعيد النُّورْسي متحدِّثًا عن العدالة في الإسلام:
“هبْ أنكَ في سفينةٍ أو في دارٍ ومعكَ تسعةُ أشخاصٍ أبرياء ومجرمٌ واحدٌ، ورأيتَ من يحاول إغراق السفينة أو هدمَ الدارِ عليكم، فلا مراءَ أنك في هذه الحالة ستصرخ بأعلى صوتك محتجًّا على ما يرتكبه من ظلم فادح؛ إذ ليس هناك قانون يُسَوِّغُ إغراق سفينةٍ برمَّتِها بما فيها من أبرياء من أجل القضاءِ على المجرمين فيها حتى ولو كان عدد المجرمين تسعة إلى جانب بريء واحد” .
ويذكُرُ فتح الله كُولَنْ أنَّ الإسلام أصلًا لا يجلِسُ مع الجريمة والفوضى والإرهاب على طاولةٍ واحدةٍ في أيِّ وقتٍ ولا في أيِّ مكان أبدًا، وأنَّ هدفَهُ السلمُ والهدوءُ والسلامُ العالميُّ والقضاءُ على الفِتْنَةِ والفسادِ من على وجهِ البسيطةِ، وأنه لا يمكن أن يكون ثَـمَّةَ دِينٌ ولا نظامٌ آخر غير الإسلام أَوْلَى حياةَ الإنسان قيمةً بقدرِ ما أولاها الإسلامُ، ويؤكِّدُ على حقيقة ذلك وبُرهانِهِ مبيِّنًا أن الإسلامَ حكمَ في القرآن الكريم على من قتلَ نفسًا بأنه قتلَ الناسَ جميعًا ومن أحيا نفسًا بأنه أحيا الناس جميعًا؛ إذ قال الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/32) ؛ ولذا فإنه يؤكد استحالةَ أن تكونَ للإسلامِ أيَّةُ مسؤوليَّةٍ أساسًا في الجرائم والحوادثِ الإرهابية التي تقعُ ضدَّ العالَم ولا سيما في البلاد الإسلامية، وبالتالي فإنه يؤكِّدُ على أن من آمنوا بالإسلام حقَّ الإيمان وجعلوه منهجَ حياتِهم يستحيلُ أن يُدبِّروا مثل هذه الحوادث والجرائم الإرهابية، وإنْ ساهَمَ في هذه الجرائم بعضُ من سُمُّوا بأسماء المسلمين فإنهم إمّا مجموعة من النماذج الـمُغرَّرِ بها التي لا علاقةَ لها بالإسلام سوى الاسم، وإما أنَّ بينهم مجموعةً من المنظَّمات الإرهابية تسلَّلَتْ إلى داخلهم، وحملت أسماء المسلمين؛ فهذه المنظَّمات إما أن تكون ذيولًا تابعةً للإرهابيّين ومرتكبي الجرائم الحقيقيّين، أو أنها منظَّمات وهميَّة موجودة اسمًا لا جسمًا.
ويرى فتح الله كُولَنْ أن بعضَ المسلمين في يومنا أتوا على الإسلام بمجموعةٍ من التفسيرات والتحليلات المتشدِّدَةِ التي لا توافق روحَهُ أصلًا، وأنهم لم يُعارضوا في الأقل الشدَّةَ والوحشيَّةَ المرتَكَبَةَ باسم الإسلام بدعوى التحيُّز له، ويبين إلى جانب هذا أنَّ المسلم لن يستطيع تحقيقَ أيِّ هدف إسلامي بالقتل وارتكاب الجرائم وإثارة الفوضى وممارسة الإرهاب، ومع أن التاريخ أثبتَ وجود بعضِ الطوائف كالخوارج والقرامطة والحشاشين الذين لجؤوا إلى الإرهاب وتحركوا باسم الإسلام؛ فإنه من الواضح تمامًا أن هذه الطوائف لا علاقة لها بالإسلام أساسًا، وأنَّ أهلَ السنة والجماعة الذين يُشَكِّلُون السواد الأعظم من المسلمين اعتبروا هؤلاء جميعًا فِرَقًا ضالَّةً؛ فلقد اعتبرَ العلماءُ الخوارجَ وأمثالهم مارقين من الإسلام مروقَ السهم من الرميّةِ وذلك استنادًا إلى أحاديثِ النبي ، ومن ذلك عن أبي سعيد الخدريِّ وأنس بن مالكٍ  أنَّ رَسُول اللهِ  قَالَ: “سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَومٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيؤونَ الْفِعْلَ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ” ، فهُمْ حتى وإن بَدَوا وكأنهم يقرؤُون القرآن ويُكْثِرون من الصلاة ويعزُون كلَّ حركاتهم إلى الإسلام؛ فما يقرؤونه من القرآن لا يتجاوز حناجرهم، إذن يستحيل أن يكون للإرهاب والجريمة دِينٌ، وكما أنه ظهر كثير من المجرمين والإرهابيّين من بين أتباع الديانات الأخرى، وأنَّه ليس من الصواب اتِّهامُ أديانهم إذا كانت لا تأمرُ بالإرهاب والجريمة أساسًا بل إنها تحتقِرُه وتنبذُه؛ فإنَّه لا يمكن على الإطلاق اتِّهام الإسلام بالإرهاب والجريمة إن كانت هناك مجموعة من المسلمين خُدعوا واستُغِلُّوا وغُرِّرَ بهم، أو فقدوا صوابَهم واعتدالَهم بسبب الضغوط المستمرَّةِ التي يخضعون لها منذ عصور؛ فضَلَعُوا في ارتكاب جرائم وأعمال إرهابيّة بالفعل.
وفيما يتعلَّق بهدف المسلم الحقيقي وبالطريق الموصلة إليه يقول فتح الله كُولَنْ ما يأتي:
“لا إرهابَ في الإسلام؛ فالمسلمُ له غاية وحيدةٌ فريدةٌ على وجهِ البسيطةِ ينسجُ حولها أفكارَه وأعمالَه في الحياة الدنيا، ويُعِدُّ خُطَطَهُ ومشروعاتِهِ حتى يتمكَّنَ من الوصول إليها، فما هي تلك الغاية؟ إنها رضا الله ولا شيءَ سواه.
أجل، إن المسلمَ إن كان قد تمكَّنَ من فَهْمِ الإسلام حقَّ الفهم ووعاه جيِّدًا وَجَبَ عليه ألا يُفكِّرَ في شيءٍ سوى رضا الله تعالى؛ فهو مطالَبٌ بينما يسير نحو هدفٍ وغايةٍ مباركةٍ ومثاليَّةٍ على هذا النحو بأن تكون وسائلُه ووسائطُه لتحقيقها مشروعةً؛ لأنَّ غايةً ساميةً كهذه لا يمكن الحصولُ عليها إلا بالطُّرُقِ والوسائل المشروعة، و”الغاية لا تُبرِّرُ الوسيلة”، ويستحيل الوصول إلى هذه الغاية عبرَ التصايُحِ والصُّراخِ في الشوارع وقتلِ الناس أيًّا كانوا، ومن ثمّ فإنه لا يمكنُ في هذا الإطار التوفيقُ بين جرائم الإرهاب والقتلِ والغَصْبِ وحوادثِ الخطفِ وما شابهَ ذلك وبين الإسلام”.

مقدمة الكتاب