أصبح اللاعنف -في عالمنا المعاصر- منهجًا مهمًّا في التعامل مع المشكلات، وإن التعريف التالي يقدم إطارًا عامًّا لمصطلح اللاعنف، وهو أنه: “مجموعة من الافتراضات المتصلة بالأخلاق والقوة والصراع تقود المؤيدين لها إلى رفض استخدام العنف في محاولاتهم للوصول إلى أهداف اجتماعية أو سياسية”[1].
رموز اللاعنف
ويرتبط اللاعنف، كطريق للكفاح الاجتماعي في القرون الأخيرة برموز معروفة بشكل واسع، مثل “تولستوي ليو” (1828-1910م) في روسيا، والمهاتما غاندي (1869-1948م)”، و”ألبرت لوتولي” (1898-1967م) في جنوب إفريقيا، و”مارتن لوثر كنج” (1929-1968م) في الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه المرحلة الحاسمة التي يمر بها العالم اليوم لا بد من دراسة فتح الله كولن الذي يتبنى فكرة اللاعنف بجدارة ويتمتع بتأثير عريض في العالم.
والفكرة هنا هي أن مقاومة العنف بالعنف تخلق حلقة مفرغة وترفع المستوى الإجمالي للعنف. وكما يقول المثل التركي: “لا يمكنك أن تطفئ النار بالمنفاخ”، أو كما يقول تولستوي: “إن الأفعال العنيفة ضد الشر لا تفعل شيئًا غير إضافة المزيد من البنزين إلى النار”[2].
كولن واللاعنف
وفي سياق المرحلة الحاسمة التي نمر بها لا بد من دراسة عالم ومفكر مسلم من تركيا يتبنى فكرة اللاعنف بجدارة ويتمتع بتأثير عريض في العالم، ألا وهو فتح الله كولن.
فقد ظهر كولن كشخصية عامة ومؤثرة في السبعينات من القرن العشرين، وذلك عندما اشتهرت مواعظه وخطبه بين فئات المجتمع التركي. وقد اتخذ كولن طريق اللاعنف في نشاطه، حيث لعبت تجربته الشخصية ومعاناته دورًا حيويًّا في فهمه لمنهج اللاعنف. فقد شهد بنفسه الصراع العنيف بين اليساريين والقوميين في سبعينيات القرن العشرين والذي تسبب في فقدان آلاف الأرواح كان معظمهم من الشباب.
لقد كرّس كولن جهوده للسلام واللاعنف، وخلال كفاحه كان يذكّر من كان حوله دوما بتجنب المشاركة في أي صدام حتى لو تم اغتياله هو.
ومن جانب آخر شهد كولن حرب العصابات الكردية ضد الحكومة التركية والتي تسببت أيضًا في موت 30 ألف شخص على مدى خمسة عشر عامًا. وقد اتُّهم كولن أيضًا بانتهاك القانون وبخاصة المادة 163 من الدستور التركي والتي تحظر ممارسة الأنشطة الدينية، وقضى كولن عدة أشهر في السجن في السبعينات، وتمت تبرئته في نهاية الأمر.
حتى لو اغتالوني
لقد كرّس كولن جهوده للسلام واللاعنف، وخلال كفاحه كان دائمًا يذكّر من كان حوله بتجنب الاشتراك في تلك الصراعات حتى ولو تم اغتياله.
يقول كولن: “يعرف إخواني جيدًا أنه عندما عمّت الفوضى في السبعينات في البلاد، كنت أدعو إلى الهدوء وكظم الغضب. لقد وُجِّهت إليّ تهديدات بالقتل، لكنني طلبتُ من إخواني أن يستمروا في العمل من أجل السلام. وعلى الرغم مما سيشعرون به من غضب إذا تم اغتيالي فإنني طلبت منهم أن يدفنوني ثم يسعوا بعدها لتحقيق النظام والسلام والحب في مجتمعنا. ومهما حدث، ينبغي لنا نحن المؤمنين أن نظل دائمًا دعاة للحب والأمن، وما زلت أقول ذلك حتى اليوم”[3].
أوصى كولن بفتح مدارس في مناطق تشتعل فيها صراعات عرقية ودينية كالبوسنة والفليبين وجنوب تركيا. ولعبت هذه المدارس دورا هاما في تقليل حدة الصراع هناك.
ومن أجل التعامل مع مشكلات المجتمع المختلفة وتحقيق التناغم في المجتمع شجع كولن على التعاون بين فئات المجتمع المختلفة في تركيا، وبخاصة مع أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام إلى جانب العلمانيين.
منتديات للحوار
ولكي يتم تدعيم التعاون والتناغم بين الجماعات المتنازعة في المجتمع التركي كان كولن أحد القوى المحركة وراء إنشاء منظمة تركية غير حكومية باسم “وقف الصحفيين والكتّاب” في عام ١٩٩٤. وقد نجحت هذه المنظمة في تجميع أفراد من خلفيات اجتماعية مختلفة مع بعضهم البعض من أجل تحقيق التصالح الاجتماعي تحت اسم “منصة أبانت”. وقد قامت المنظمة بتوسيع أنشطتها من خلال عقد مؤتمراتها خارج تركيا، مثل ذلك المؤتمر عن “توافق الإسلام والديمقراطية” والذي عقد في واشنطن في جامعة جونز هوبكنز في أبريل 2004م.
مدارس في مناطق مأزومة
ومن أجل سيادة السلام في عالم المستقبل يشجع كولن محبيه على إنشاء مؤسسات تعليمية في تركيا وخارجها، كما أنه يعطي اهتمامًا خاصًّا بالمناطق التي تشتعل فيها الصراعات العرقية والدينية مثل ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا والفلبين وإقليم أتشيه وشمال العراق وجنوب تركيا. وقد لعبت هذه المدارس أدوارًا هامة في تقليل مستويات الصراع في هذه المناطق.
ومن خلال تجربتي الشخصية وبينما كنت في زيارة إلى مقدونيا في صيف 2004م، أتيحت لي الفرصة أن أزور إحدى هذه المدارس التي أنشأها رجال الأعمال الأتراك من محبي كولن، وعلمت أنه في أثناء الصراع بين الألبان والصرب كان الطرفان يقومان بإرسال أطفالهما إلى المدرسة باعتبارها مأوى آمنًا كي يحموا الأطفال من الاشتراك في مثل هذا الصراع[4]. وتخدم هذه المدارس جميع الأطفال المنتمين إلى جميع الخلفيات المختلفة بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والعرقية.
يعتقد كولن أن التعاون بين الأديان ضرورة قصوى في عالم اليوم، وقد أهمل المسلمون هذا التقليد لفترة من الزمان رغم تغلغل جذوره في التعاليم الإسلامية.
الحوار ضرورة
يستخدم كولن التعاون والحوار بين الأديان لمنع الصراعات المستقبلية والعنف بين أصحاب الديانات المختلفة، وقد أصبح كولن رمزًا للتعاون بين الأديان في تركيا، كما زار البابا يوحنا بولس الثاني[5] وزعماء دينيين آخرين مثل البطريرك بارثولوميوث الأول -وهو الزعيم الروحي لأكثر من 300 مليون مسيحي أرثوذكسي-. كل ذلك من أجل تدعيم التعاون بين الأديان في مختلف القضايا لتحقيق السلام في عالمنا.
ويعتقد كولن أن التعاون بين الأديان يمثل ضرورة قصوى في عالم اليوم، وقد أهمل المسلمون -لسبب ما- هذا التقليد لفترة من الزمان بالرغم من تغلغل جذوره في التعاليم الإسلامية. وبالرجوع إلى “وثيقة المدينة” في العهد النبوي يؤكد كولن أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه طبق هذا التعاون، كما يرى تعاون الأديان باعتباره واجبا على المسلمين من أجل تدعيم السلام والتوافق[6].
دعوة إلى حرية المعتقد
وحيث إن كولن نفسه كان ضحية للاضطهاد الديني فهو يدعو بقوة إلى حرية العقيدة للمسلم وغير المسلم على حد سواء. وقد استمر نموذج هذا التناغم الذي حث عليه كولن وكان معلقًا بالأذهان حتى 28 فبراير من عام 1997م عندما حدث شبه انقلاب عسكري في تركيا. وعند ذلك بدأ هجوم مباشر ضد كولن فمثّل عائقًا كبيرًا يمنعه من دعوته، فاضطر كولن -الذي يعاني من مشكلة صحية في القلب- إلى الخروج من تركيا ونقل إقامته إلى الولايات المتحدة، وذلك بسبب الوضع في تركيا ولاحتياجه إلى رعاية صحية أفضل، واتهمه معارضوه -عن طريق بعض شرائط الفيديو التي لفّقوها- أنه يحاول السيطرة على الدولة.
تمثل أفكار كولن السلمية اليوم حلا قابلا للتطبيق نابعًا من رحم الإسلام في عصرنا الذي بات يساوى فيه بين الإسلام والعنف.
المسلم والسلام
ومع ذلك استمر كولن في ممارسة نظريته عن الحوار لأنه يؤمن بأن تعاليمه لها أصول راسخة في مبادئ الإسلام، وقد كتب عدة مقالات عن هذا الموضوع. وعن تفسيره للحديث الذي يصف المسلم بأنه “مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”[7] يقول كولن:
“المسلم هو إنسان السلام والأمن إلى درجة أن المسلمين الآخرين يستطيعون أن يديروا له ظهورهم بكل أمن، لأنهم يعلمون بأنه لن يؤذي أي أحد. وعندما يضطرون إلى إيداع أهلهم أمانة عنده يستطيعون ذلك دون أن يخالجهم أي خوف، لأنهم يعلمون عدم صدور أي أذى منه، لا من لسانه ولا من يده. وعندما يتركون مجلسًا ضمهم معه فإنهم يتركونه وهم مطمئنون بأنه لن يغتابهم في غيابهم، ولن يستمع إلى غيبتهم من أحد الحاضرين. وهو يراعي كرامة الآخرين وشرفهم كما يراعي كرامته وشرفه تمامًا. قد لا يأكل ولكنه يُطْعِم. قد لا يشرب ولكنه يسقي، وقد يفتدي الآخرين بروحه، بل قد يضحي بأحاسيس فيوضاته الروحية من أجل الآخرين. ونحن نستخرج كل هذه المعاني من لام التعريف التي تفيد معنى الحصر”[8].
وبالإشارة إلى قصيدة يونس أمره (ت.1321م) -الشاعر الصوفي التركي الشهير- يؤيد كولن اللاعنف الكامل تجاه الآخرين قائلًا:
“لا يد لنا على من ضربنا،
ولا لسان لنا لمن شتمنا،
ولو جرحوا قلوبنا خمسين مرة فلن نقاطع أحدا،
سنحتضن الجميع بالحب والرحمة،
وبالحب المتبادل نسير نحو الغد”[9].
وقد كرّمت “مؤسسة قيرغيزستان الروحية” كولن فمنحته جائزة لإسهاماته في تحقيق السلام العالمي من خلال جهوده التعليمية عام 2004م [10].
انتصار الروح
إن النصر الحقيقي من وجهة نظر كولن هو النصر الروحي ويقدم في ذلك نموذجًا من التاريخ فيقول: “إن عظمة طارق بن زياد الذي فتح الأندلس لا تكمن في غلبته على جيوش الإسبان، ولكن في هزيمته لنفسه عندما وقف أمام خزائن الملك في طليطلة وقال: “احذر يا طارق فقد كنتَ عبدًا بالأمس واليوم أنت قائد منتصر وغدًا ستكون تحت الثرى”[11].فالقوة الروحية لطارق بن زياد -بحسب كولن- كانت أشد وأقوى من انتصار جيشه. وهذه هي الأشياء التي تجعل مذهب السلم أساسيًّا في فهم كولن.
ويرى كولن أن الحب هو السلاح الذي لا يُقهر، وأن حب الغير ينتج عنه التضحية والتفاني لخدمة الآخرين، أي إن التضحية بالنفس لخدمة الآخرين جزء أساس في مذهب كولن، وهو يقول: “علينا أن نكون مثل هؤلاء الذين لا يعيشون لأنفسهم وإنما يعيشون للآخرين”[12].
ويرمز السلام في رؤية كولن إلى الحب والرحمة، ليس فقط تجاه البشر وإنما تجاه الحيوان أيضًا. وفي مقابلة خاصة معه قَصّ لي كولن واقعة امتد فيها حبه للسلام واللاعنف ليشمل نملة كانت في حوض حمامه وكيف أنه قضى وقتًا طويلًا يحاول أن ينقذها، لأنه يعلم أنها من مخلوقات الله ويجب أن لا تُترك لتموت.
الحاجة إلى السلم
وبالمثل يطبق كولن منهج “اللاعنف” مع العالم الطبيعي، فهو يرى أنه ثمة علاقة انسجام بين الإنسان والطبيعة ويقول: “إن هذا الإعجاز الفني للطبيعة يدل على شيء أكثر براعة، وأبعد من جمالها، شيء يشير إلى خالق هذا الكون بهذا البهاء، والذي يريدنا أن نعرفه من خلال إبداعه سبحانه، ولن نستشعره كاملًا فهو الجليل العظيم”[13].
قد يفخر العديد من البشر اليوم بتنافسهم في ابتكار أفتك الأسلحة وأضخم القنابل ليقتل بعضهم بعضًا، رضينا أم لم نرضَ. وفي هذا العصر الذي يساوَى فيه بين الإسلام وبين العنف والهمجية تمثل هذه حركة كولن السلمية حلًّا قابلًا للتطبيق نابعًا من رحم الإسلام. وهذا الأسلوب مارسه واتبعه الملايين بنجاح على مدى ما يقرب من قرن، وأرجو أن تجذب قصة النجاح هذه الاهتمام الثقافي على النطاق العالمي.
[1] من أجل الاطّلاع على العديد من المصطلحات والتعريفات، انظر ويليام روبرت ميلر في كتابه “اللاعنف”، ص. 23-32.
[2] استشهد ويليام روبرت ميلر بذلك في كتابه “اللاعنف”، ص. 49.
[3] جريدة “حريت (Hürriyet)”، 21/ 4/ 2004م، حوار مع “صفا قَبْلان (Sefa Kaplan)” بـ[اللغة التركية].
[4] لمعرفة تأثير المدرسة التركية في جزيرة مينداناو بجنوب الفلبين وكيف لعبت هذه المدرسة دور المأوى الآمن انظر “فتح الله معلِّمًا” في التطبيق التركي للإسلام والدولة العلمانية: توماس ميتشل: حركة كولن، (حرره م.هاكان يافوز وجون ل. اسبوزيتو) (سيراكيوس: مطبعة جامعة سيراكيوس/ 2003م)، ص. 69-84.
[5] انظر: توماس ميتشل: “قائدان للسلام: يوحنا بولس الثاني وفتح الله كولن”، أوراق لم تنشر قدمت في ندوات قادة السلام التي نظمتها مؤسسة كوزميكوس من 16- 18 مارس 2004م في أمستردام بهولندا.
[6] فتح الله كولن: سلسلة الجرة المشروخة-3: آفاق الغربة، “تحليل فترة التسامح (Hosgörü Sürecinin Tahlili)”، ص. 70-76 (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية].
[7] صحيح البخاري، الإيمان، 4؛ صحيح مسلم، الإيمان، 65.
[8] فتح الله كولن: النور الخالد محمد r مفخرة الإنسانية، ص. 198، (دار النيل-2010م).
[9] مأخوذ من خطاب كولن الذي ألقاه في اجتماع وقف الصحفيين والكتاب في فبراير 1995م.
[10] ظفر أوزكان: “القرغيز يكرمون كولن لإسهاماته من أجل السلام”، جريدة زمان اليومية، 3/11/2004م.
[11] فتح الله كولن: “العصر والجيل-2 “الإنسان في دوامة الأزمات (Buhranlar Anaforunda İnsan)”، “انتصار الروح”، ص. 54، (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية].
[12] وتلك هى واحدةٌ من الأفكار الأساسية للأستاذ فتح الله كولن وهو يركز على هذا الموضوع كثيرًا في كتبه حتى إنه أفرد ذكره في كتابٍ مستقلٍّ أسماه “رسالة الإحياء” ضمن سلسلة “الجرة المشروخة”.
[13] فتح الله كولن: “الطبيعة التي دُمّرت (Tahrib Edilen Tabiat)”، استشهد بها فتح الله كولن في كتابه “شريحة الزمن الذهبية (Zamanın Altın Dilimi)” (إزمير: توف ياينلاري، 1991م) ص. 110- 114، وانظر أيضا: زكي ساري توبراك (Zeki Sarıtoprak)”: “فتح الله كولن” في موسوعة الدين والطبيعة. مجلد 1-2 (بريستول، نيويورك: كنتينوم، 2005م).
المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر كولن، كتاب مشترك، ص: ٩٧-٩٨، ١٠٩-١١٥، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤، الطبعة الأولى، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال وعناوينه الجانبية من تصرف المحرر.