يرى كولن أن المسلمين يرتكبون جرمًا كبيرًا إذا ما نظروا إلى الدراسات العلمية باعتبارها نوعًا من النشاط البشري الذي ينبغي أن يجري بشكل منفصل ومستقل عن القرآن.
القرآن والعلوم
إن العلم يجب أن يجري في ضوء مبادئ النظرية المعرفية والمبادئ الخلقية والقيم الواردة في القرآن الكريم. وما يعنيه كولن بهذا هو أنه ينبغي أن يكون القرآن هو إطار العمل الفلسفي لدراسة الطبيعة.
إن كولن مهتم للغاية بمسألة سوء الفهم بين المسلمين فيما يتعلق بالدور والوظيفة المحددتين للقرآن الكريم باعتباره كتاب معرفة، وخصوصًا في علاقته بالعلم. وقد دفع هذا السبب كولن دفعًا كبيرًا لتناول السؤال الذي طرحه هو نفسه، وهو: “هل يحتوي القرآن على كل شيء؟”[1]
إن كولن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، وذلك لأن القرآن نفسه قال ذلك. واستدل كولن في هذا الموضع بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (سورة الأنعام: 6/59).
لفهم ما يعنيه القرآن الكريم بـ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أشار كولن إلى آراء عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهما اثنان من أشهر مفسري القرآن الكريم في أوائل العصر الإسلامي، كما أشار أيضًا إلى آراء جلال الدين السيوطي، وهو عالم مصري عاش في القرن الخامس عشر الميلادي[2].
وقد أكد هؤلاء الثلاثة أن القرآن الكريم يحتوي على كل شيء، فنقل السيوطي قول ابن مسعود: “مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَ فِيهِ خَبَرَ الْأوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ”[3]، وقولَ ابن عباس: “لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُه فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى”[4]؛ لأن ما نراه هو ما نعرفه.
يقول كولن إن العلم يجب أن يسير في ضوء المبادئ المعرفية والقيمية الواردة في القرآن، كما يجب أن يكون القرآن إطار العمل الفلسفي لدراسة الطبيعة.
وبالإضافة إلى هذا فإن الأشياء توجد في القرآن على مستويات مختلفة من الحقيقة، ولذلك فهي تتطلب منا مستويات مماثلةً من الوعي كي نكون قادرين على رؤيتها. وهذا يعني أن البشر الذين يقرؤون كتاب الله، القرآن الكريم، سيجدون أنه يحتوي على كل شيء من حيث المبدأ أو الإمكانية.
القرآن ومعرفة الإنسان
ويذكر كولن أن القرآن يضم بين صفحاته كل الأشياء “على هيئة بذور أو نويات أو على شكل خلاصة أو مبادئ أو علامات، كما يمكن أن توجد إما على صورة صريحة أو ضمنية أو تلميحية أو مبهمة، أو إيحائية. ويمكن تفضيل إحدى هذه الصور أو أخرى وفقًا لأسباب النـزول بحيث تناسب غايات القرآن مع الارتباط مع متطلبات السياق”[5].
واكتشاف الحقائق الكامنة في القرآن مرتبط بالمعرفة، فكلما ازدادت معرفة الفرد ازداد ما سيراه في القرآن الكريم، ولهذا فسيكون من مهام العلم أن يساعد القارئ على رؤية المزيد مما يحتوي عليه القرآن الكريم.
إن اكتشاف الحقائق الكامنة في القرآن مرتبط بالمعرفة، فكلما ازدادت معرفة الفرد ازداد ما سيراه في القرآن الكريم.
إذا استطاع المسلمون بشكل عام أن يتحدثوا عن أسلوب القرآن لفهم العلم، فيرجع هذا من حيث المبدأ إلى أن القرآن يحتوي على كل شيء. إن القرآن يتصل بالمسلمين اتصالًا وثيقًا باعتباره مرشدًا لدراستهم وتطبيقاتهم العلمية؛ لأنه، كما قال السيوطي، يشتمل على مبادئ كل العلوم أو فروع المعرفة، بما في ذلك علوم الطبيعة. وفي حديثه عن دور القرآن فيما يتعلق بالعلم يؤكد كولن على قدرة القرآن الإرشادية على توجيه “العلم الحقيقي” إلى الإنسانية، وقال إن أحد الأهداف الرئيسة للقرآن هو نشر عشق الحقيقة، وأن “عشق الحقيقة هو الذي يعطي التوجيه الصحيح إلى الدراسات العلمية”[6].
عشق الحقيقة
ويقصد كولن بـ”عشق الحقيقة” “التعامل مع الوجود بدون أي اعتبار للامتيازات المادية أو المكاسب الدنيوية”. ويرى كولن أنه باستثناء مجموعة صغيرة من العلماء، فإن من يسعون إلى العلم اليوم لا يدفعهم الشوق إلى الحقيقة أو من أجل تحصيلها، بل على العكس يرى كولن أن قدرًا كبيرًا من العلم المعاصر قد تم تحقيقه على أيدي أناس “أفسدتهم الرغبات الدنيوية والطموحات المادية والانحياز الفكري والأحكام المسبقة والتعصب”. وبالتالي فقد انحرف المسار الشرعي للدراسات العلمية وأصبح العلم سلاحًا فتّاكًا يستخدم ضد الموارد والطاقات والإمكانيات البشرية[7].
ويطالب كولن المثقفين والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام بأن يقوموا بالدور الحيوي المتمثل في المساعدة على “تخليص الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوث والقاتل المتمثل في الطموحات المادية والتعصب الأيديولوجي، وأن يوجهوا العلماء إلى القيم الإنسانية الأسمى”.
إن القرآن يتصل بالمسلمين اتصالًا وثيقًا باعتباره مرشدًا لدراستهم وتطبيقاتهم العلمية، لأنه يشتمل على مبادئ كل العلوم بما في ذلك علوم الطبيعة.
مقاصد القرآن
ويعتقد كولن أن القرآن يلح على فكرة أن يقوم أهل العلم بتوجيه دراساتهم العلمية إلى القيم الإنسانية السامية. فالسعي وراء العلم، ووراء كل فروع المعرفة البشرية، لا بد أن يتم في إطار إدراك الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم، وهي:
1- إثبات وجود ووحدانية الله تعالى.
2- إثبات النبوة.
3- إثبات البعث بعد الموت.
4- التأكيد على عبادة الله والعدل[8].
ولهذا السبب فقد بدأ كولن كتابه “في ظلال الإيمان” وقبل أن يناقش قضية الدين والعلم، بتناول هذه الأهداف الأربعة للقرآن الكريم بشكل مطول. ويمكن وصف هذا التناول على أنه يتوافق مع المنظور التقليدي للعلم الديني المتأثر بمذهب أهل السنة والجماعة.
يرى كولن أن الأهداف الرئيسة الأربعة للقرآن الكريم سيكون لها تأثير ينتج عنه علم مستنير من الناحية الروحية، كما أنه مبشر في نفس الوقت بخدمة المصالح الحقيقية للإنسانية. ويطلق على مثل هذا العلم “العلم الحقيقي”[9]. ويعتقد كولن أن الإسلام قد نجح في الماضي في تحقيق مثل هذا العلم، حيث يقول: “إن مفهوم العلم الذي نهض به الإسلام كان مشبعًا بالطموح نحو الخلود، وبمسؤولية تسعى لتحويل الإنسان إلى عضو نافع للبشرية، وبغاية الحصول على رضا الله”[10].
ولهذا فإن إعادة إحياء مثل هذا العلم سيساعد كثيرًا على إنشاء عالم أكثر ثراءً من ناحية الحياة الفكرية، وهو عالم يضم تكنولوجيا أكثر أمنًا وأكثر أخلاقيةً، إضافة إلى علوم واعدة ومبشرة.
يؤكد كولن أن أحد الأهداف الرئيسة للقرآن نشر عشق الحقيقة، وأن “عشق الحقيقة هو الذي يعطي التوجيه الصحيح إلى الدراسات العلمية”.
انسجام بين العلم والدين
يشير كولن إلى الوعي الإسلامي التقليدي الذي يرى أن هناك انسجامًا بين الدين والعلم وأن هناك اتحادًا بين المعرفة الروحية والمعرفة العلمية. وكان الذي صاغ هذا الوعي هو القرآن الكريم الذي يرفض الفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية.
يقول كولن: “إن مصطلح العلم -المبني على الوحي الإلهي، والذي أعطى القوة الدافعة للدراسات العلمية في أرجاء العالم الإسلامي- تم تمثيله بشكل كامل من خلال الشخصيات الشهيرة في ذلك الوقت، وهي الشخصيات التي قامت، متشبعةً بفكرة الخلود، بدراسة هذا الكون من غير كلل من أجل الوصول إلى هذا الخلود”[11].
إن رفض القرآن للفصل بين الحقائق العلمية والحكمة الروحية قد دفع العلماء المسلمين إلى أن يحذوا حذو القرآن في ذلك. وليست لدى كولن مشكلة في قبول الفكرة القائلة بأن القرآن به تلميحات إلى الكثير من الحقائق والتطورات العلمية، ولكنه، في نفس الوقت، يؤكد على أن القرآن لا يشير إليها “بنفس الطريقة التي يشير إليها العلم والفلسفات المادية أو الطبيعية”[12].
كولن يحث على تخليص الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوث القاتل المتمثل في طموحات مادية وتعصب أيديولوجي، وتوجيه العلماء إلى القيم الإنسانية.
القرآن والظواهر الكونية
فالقرآن، على سبيل المثال، لا يتكلم عن الظواهر الكونية والعلمية بطريقة مفصلة، ولكنه عندما يشير إلى مثل هذه “الحقائق”، فإنه يهدف إلى تقديم “التفسير الخالد لكتاب الكون”، وكذلك تقديم تفسير روحي للعلوم التي تتعامل مع الظواهر الطبيعية. إن الله يقدم لنا هذه “الحقائق”، لأنه يريد أن يوضح لنا بعض الحقائق كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك يريد أن يلقن الإنسانية هذه الدروس الروحية والعلمية.
وبهذا يستحث كولن المسلمين على التذكر دائمًا بأن “القرآن يشتمل على تلميحات للعديد من الحقائق العلمية، إلا أن ذلك لا يعني أنه يجب علينا أن نقرأه وكأنه كتاب علمي أو كتاب يضم تفسيرات علمية محضة“[13].
ويعبر كولن في مقاله المعنون بـ”القرآن الكريم والحقائق العلمية” عن لزوم أن يكون الفرد منتبهًا عند قراءة المعاني العلمية في الآيات ذات الصلة بها؛ حيث يؤكد على الموقف التقليدي للإسلام، إذ يقول: إنه عندما يقوم الفرد بتفسير أية آية من القرآن الكريم، فعليه أن يتذكر دائمًا أن هناك معاني عديدة لكل آية، فلا يمكن استيعاب كل ما تحتويه الآية الواحدة من خلال تفسير واحد فقط.
إن مفهوم العلم في الإسلام مشبع بالطموح نحو الخلود، وبمسؤولية لتحويل الإنسان إلى عضو نافع للبشرية، وبغاية الحصول على رضا الله.
وفكرة وجود معانٍ حرفية وظاهرية وأخرى باطنية لآيات القرآن فكرة شائعة بين العديد من مفسري القرآن الكريم. والصوفية، بوجه عام، أشد ميلًا من أي مدرسة فكرية إسلامية أخرى تجاه بيان المعاني الباطنية للقرآن الكريم؛ فليس من العجيب -إذًا- أن يكون كولن، الذي عاش سنين من شبابه في جو صوفي، على درجة كبيرة من الدراية بالمعاني العميقة في هذا الكتاب المقدس، وهي المعاني ذات الأهمية البالغة في بحث الإنسان عن الحقائق الروحية.
الغاية من العلم
لقد سعى أيضًا أن يربط بين المعاني الباطنية للقرآن والحقيقة الباطنية التي تتأسس عليها الظواهر الطبيعية التي لا يصل إليها المنهج العلمي الحديث. إن ما يود كولن التأكيد عليه إذًا هو أن دور الدين المبين هو معاونة الإنسان على اكتشاف حقائق أسمى في العالم الطبيعي. وذلك لأن ما يكمن وراء الحقائق العلمية ليس الشك واليأس اللذين يمثلان نقاط الهروب للمادية أو الإلحاد أو اللاأدرية، وإنما الذي يكمن وراءها هو الحقائق المعنوية والروحية التي تثير الشعور بيقين أكثر في الوعي الإنساني.
وإذا أردنا أن نلخص آراء كولن، فيمكننا القول بأن السبب الرئيس وراء اهتمام القرآن بعلم الطبيعة والعلوم الأخرى هو الرغبة في دعوة الإنسان لمعرفة الله. فعندما يدعو القرآن البشر مرارًا وتكرارًا إلى دراسة الخلق، فهذا يرجع إلى أنه يريدهم أن يدرسوا هذا الخلق من أجل الوصول إلى معرفة خالقهم.
ويعتقد كولن اعتقادًا جازمًا بضرورة الفهم الصحيح للمدخل القرآني في فهم العلم، وذلك لأنه في هذا المدخل الروحي تكمن أسس العلاقة المتناغمة والمثمرة بين الدين والعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تناول كولن هذا السؤال في كتابه “في ظلال الإيمان”، ص. 301-307. وتناوله كذلك في معرض معالجته للخصائص العامة للقرآن الكريم، انظر المصدر نفسه ص. 288-300.
[2] المصدر السابق، ص. 302.
[3] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 4/28 (الناشر: الهيئة المصرية العامة، 1394هـ/ 1974م)
[4] المصدر السابق، 4/31.
[5] فتح الله كولن: في ظلال الإيمان، ص. 303-304.
[6] المصدر السابق، ص. 313.
[7] المصدر السابق، ص. 313.
[8] المصدر السابق، ص. 303.
[9] للاطلاع على المزيد حول تناوله لمصطلح “العلم الحقيقي”، انظر المصدر السابق، ص. 312-315.
[10] المصدر السابق، ص. 313.
[11] المصدر السابق، ص. 312.
[12] المصدر السابق، ص. 323.
[13] المصدر السابق، ص. 323.
المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر كولن، كتاب مشترك، ص: ٧٩-٨٦، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤، الطبعة الأولى، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال وعناوينه الجانبية من تصرف المحرر.