في هذه الأيام نجد أنفسنا بصدد التعرُّض لِلُغةٍ حادَّةٍ وخطابٍ هدَّامٍ لم نعتَدْهما من قبل، حتى إن التصريحات المُهِينة قد باتت من قَبِيل الزَّاد اليومي، وحتى إن مثل هذا السلوك لم يعُد يعترف بأي حدود، فالمتطاولون، الذين تتَّسم طباعهم بالغطرسة، لا يشعرون بوجود ما يكبح جماحهم، وهو ما من شأنه أن يؤدِّي إلى انهيار الأخلاق وتهافُت القيم.
فما الذي ينبغي لنا فعله؟
بادئ ذي بدء، من الضروري أن نوضِّح الأمور وأن نصحِّح الصورة بأكملها، ثم إننا بحاجة إلى تَبَنِّي لغةٍ وخطابٍ جديدَين، وإلى اتِّباع أسلوبٍ مبتكَر يكون علامةً مميِّزة لنا، وإلى التوافُق على وجهات نظرٍ ومواقفَ لا يُمكِن أن تتقوَّض مهما حدث.
إن من شأن الخطاب الهدَّام الذي يسود حاليًّا أن يجرَّنا إلى العنف، لا شيء غيره، وقد جاء الهجوم على زعيم “حزب الشعب الجمهوري (CHP)” “كمال كِيلِيجْدَارْ أُوغْلُو (Kılıçtaroğlu)” إبان الأسبوع الماضي[1] ليُمثِّل نَذِيرَ عنفٍ محتمَل، ورغم حقيقة وجود أماراتٍ على إمكانية وقوع هذا العنف، فإن أحدًا لم يتحمل مسؤوليته الوطنية فيستهجن هذا الوضع، مما قد يؤدي إلى مزيدٍ من الاضطرابات والأزمات داخل تركيا.
ولنتوقفْ قليلًا لنطرح على أنفسنا هذا السؤال: في أي دولةٍ من الدول العريقة ديمقراطيًّا يرحب أشخاصٌ يرتدون أكفان الموتى برئيس وزراء البلاد أو برأس الدولة؟ وهل يبادلهم هذا الشخص المنتخَب التحيَّة باحتضانهم؟ مثل هذا المشهد كثيرًا ما يُرَى في دول منطقة الشرق الأوسط، لكن المواطن الذي يعيش في دولة -مثل تركيا- تحاول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد يجد نفسه مدفوعًا إلى إبداء هذه الملاحظة: إن من شأن هذا النهج أن يؤدِّي إلى تطرُّف الأُمَّة وعسكرتها، ولا يمكن أن يكون محمود العواقب أو أن يُمثِّل مؤشِّرًا جيِّدًا.
يبدو أن بعض الناشطين السياسيين أخذوا على عاتقهم مَهَمَّة تدمير شيءٍ ما والقضاء على شخصٍ ما، وذلك بينما يركن رجال العقل والحكمة –بخاصةٍ مَن ينضَوُون تحت لواء هذه الأطراف السياسية الفاعلة– إلى الصمت، وبهذه الطريقة يصبح وقوع النوازل والمتاعب في المستقبل –لا قدَّر الله– أمرًا مرجَّح الحدوث، فهل لا بد لنا من معاناة المصائب ليبدأ البعض في التفكير بعقلانيَّةٍ ومسؤوليَّة؟
وعندما اتضح انتساب الشخص الذي هاجَمَ “كِيلِيجْدَارْ أُوغْلُو” إلى حزب العدالة والتنمية، صرَّح نائب رئيس الحزب “حسين جَلِيكْ” بأن حزبه يضم تسعة ملايين فرد، وأن قبول عضوية أمثال هذا الرجل نادرًا ما يحدث، كما أضاف أنه “كان ينبغي لمسؤولي الحزب أن يكونوا أكثر حذرًا في إدراج شخصٍ لديه سوابق جنائية”.
و”جَلِيكْ” مُحِقٌّ في ذلك، غير أن شيئًا آخر تنبغي ملاحظته، هو أن أولئك الذين يتحدثون إلى أعدادٍ كبيرة من الجماهير، بمن فيهم هؤلاء الملايين التسعة من الأعضاء، يلجؤون إلى استعمال لغةٍ حادَّةٍ قد تؤدِّي إلى حتميَّة وقوع جرائم وإساءاتٍ جسيمة، لأن اللُّغة السياسية المستخدَمة ما عادت تتَّسم بالاحترام والكياسة، تجدر الإشارة ها هُنا إلى الطريقة التي أشار بها هؤلاء إلى متظاهري منتزه “جيزي” وإلى الاتهامات والتصريحات الخطيرة التي استهدفت حركة “الخدمة” على وجه الخصوص والتي جاءت مجافيةً للعقل والضمير.
إنني أشعر بالخجل من مجرَّد سرد واقتباس بعض هذه التصريحات والاتهامات، ومع ذلك يواصل أولئك الذين يُطلِقون مثل هذه الكلمات والتعقيبات توجيه نفس الإهانات بصورة يومية، تلك الإهانات والاتهامات التي نستمع إليها فتحزُّ في أنفسنا، إنما تقوم على أكاذيب وادِّعاءاتٍ مُفتراة، وللأسف فإن بعض الأشخاص يصدِّقها بالفعل، فحين تكرِّر كذبتك آلاف المرات، سيصدقها -في نهاية المطاف- مَن ليسوا على بيِّنةٍ من حقائق الأمور، لكنَّ ذلك سيؤدِّي إلى انقسام المجتمع في النهاية.
وإن اللُّغة والخطاب المستخدَمَين ضدّ فتح الله كولن، وهو واحد من أكثر المفكِّرين وقادة الرأي تميُّزًا داخل تركيا، وكذلك ضدّ أتباعه، ليسا مجرد نموذجٍ لخطاب الكراهية، فهما يُمثلان –فوق ذلك– لغةً ذات طابعٍ استئصالي، وحين تُقدِّم هؤلاء الأشخاص بوصفهم مصدر جميع الشرور، فإنك حقًّا ترتكب جريمةً ضدّ الإنسانية، جريمةً قانونيةً وخطيئةً دينيَّة لا يُمكن تبريرها بمُوجب القانون أو تعاليم الدين.
إن أطفالًا في سنّ ما بين الثامنة والعاشرة يستجوبهم في غرف منفصلةٍ مفتشو وزارة التربية والتعليم، فما الذي يعنيه ذلك؟ ألا يُمثل عودةً لممارسات 28 فبراير؟ ثم إن اتهام آلاف الأفراد دون تقديم أي برهانٍ أو دليلٍ، وإزاحتهم من مواقعهم لإعادة تعيينهم في مواقع أخرى، لَيَتسبَّب في اتساع دائرة الظلم، أفلا يسوؤكم على الإطلاق هذا الظلم الذي تُوقِعه المداهمات ضدّ مؤسَّسات حركة “الخدمة” وضدّ كلِّ ما له علاقة بها؟
على تركيا أن تعود إلى الاستماع لصوت العقل، وإلى الالتزام بالقانون والعدالة والاحترام المتبادَل، فضلًا عن حاجتها إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، فإثارة الكراهية والانقسام بين المواطنين وإقحام المساجد في الصراع السياسي والتفرقة بين الأتراك على أساس توجُّهاتهم، تُشكِّل جميعها عوائق تاريخية يتسبَّب فيها خطاب الكراهية الحادُّ الذي سيضرُّ الدولة والمجتمَع.
الاضطهاد استنادًا إلى عناوين الصحف
لطالما تَسَبَّب عدم القدرة على التمييز بين التقرير الصحفي والبلاغ الرسمي، أو بين عمل المراسل وعمل الْمُخبِر، لطالما تَسَبَّب في أكبر مشكلات الشأن التركي، إذ إن وسائل الإعلام التقليدية دائمًا ما تعتمد على سيناريو غير ديمقراطي تمامًا، يتمثل في:
أولًا: كتابة تقريرٍ صحفي لا أساس له يفترض وجود وقائع إجرامية.
ثانيًا: يتحرك النائب العامُّ على أساس هذا التقرير للشروع في إجراء تحقيقات.
ثالثًا: يُعَدُّ تقريرٌ جديدٌ بهدف إكمال الصورة… ثم تتكرر الأكاذيب هنا وهناك بغرض تعزيز التقرير الزائف، إنه نفس التكتيك الذي ينتهجه صُنَّاع الانقلابات.
وتلجأ وسائل الإعلام في الوقت الراهن إلى اتِّباع هذه الطريقة التقليدية لقمع الجماهير، تلك الطريقة المتمثلة في تلفيق التُّهَم وتزييف الوعي الشعبي، والتي تقوم بها أجهزة إعلامية يُنظَر إليها باعتبارها إسلاميةً ومحافظةً وداعمةً للحكومة ومحسوبةً عليها، يُضاف إلى ذلك ممارستها هذه الأساليب بشراسةٍ بالغة.
وفي الآونة الأخيرة أَعَدَّت صحيفة “أَكْشَامْ (Akşam)” اليومية تقريرًا عدائيًّا حول جريدة “زمان”، بالاستناد إلى مزاعم لا أساس لها على الإطلاق، إذ زعمت الصحيفة أن “زمان” رفضت الكشف عن بعض الوثائق التي نجحت الشرطة في ضبطها أخيرًا! وهذا كذب صريح، ردَدْنا عليه بأنْ طلبنا منهم إثبات هذه الادِّعاءات وبأننا سنعتبرهم مجافين للشرف حالَ لم يتمكنوا من ذلك، ومن وقتها لم نسمع ردًّا من جانب “أَكْشَامْ” سوى العمود المطوَّل الذي كتبه رئيس التحرير “محمد أُوجَاكْتَانْ (Ocaktan)” الذي يُشِيد فيه بالحكومة، دون إشارة إلى أيِّ شيءٍ يتعلق بأكاذيبهم، ودون حتى تقديم اعتذار، والرجل شاعرٌ سابق ونائبٌ أسبَقُ عن حزب العدالة والتنمية، غير أنه لا يستشعر الخجل جرَّاء هذه الافتراءات.
لقد فقدت وسائل الإعلام الموالية للحكومة صوابها وقدرتها على التعقل، إنها توجِّه ادِّعاءاتٍ زائفةً يفتح النائب العامُّ على أثرها تحقيقات، في الأسبوع الماضي[2] شهدنا اعتماد النيابة العامَّة في تحقيقاتها على تقارير كاذبة أعدتها صحيفة “سِتَارْ (Star)” اليومية، ولعله لم يكن مُمكِنًا إلقاء القبض على مجموعة من مأموري شرطة مدينة “أضنه” لولا التقارير الإخبارية لهذه الصحيفة ولولا الإعجاب الشخصي الذين يُكِنُّه قاضي التحقيق تجاه أَرْدُوغَانْ، وهو ما أصاب العدالة في مقتل.
وإنه لَمِن المثير للاهتمام أن نجد أن أعضاء وداعمي الحزب السياسي الذي التمس رئيس النيابة من المحكمة الدستورية حلَّه استنادًا إلى تقارير إعلامية، نجدهم يوجِّهون اتهاماتٍ كاذبةً تعتمد على أنباءٍ غير مؤكَّدة، مرتكبين نفس الخطأ، لتزعم وسائل الإعلام التابعة لمجموعةٍ معينةٍ من الأشخاص أنهم قد تَعَرَّضوا للظُّلم إبان قضية “جوجل”، بينما تحاكِم هذه الوسائل نفسُها الآخرين بالرجوع إلى وثائق “جوجل”، وفي الماضي، أُدينَ البعضُ بسبب التقارير الإعلامية، ثم كان أن تغيرت الأقدار، فلجأ ضحايا الأمس إلى الشيء نفسه اعتمادًا على الطريقة نفسها، غير أنهم قد تَنَاسَوا حقيقةَ أن الدول لا يُمكن أن يطول بقاؤها بالظلم والاضطهاد.
“ولا يُمكن للمكارثية أن تبقى إلى الأبد في أي مكان، لكنَّ أولئك الذين يأبون الانضمام إلى معركة إعلاء سيادة القانون سيتوجب عليهم فيما بعد أن يعيشوا مُكلَّلين بالعار، فهذا هو ما آلت إليه الأمور بصورةٍ دائمة“.
[1] من تاريخ كتابة المقال.
[2] من تاريخ كتابة المقال.