الرسالة التي حَمَّل الحق تعالى إياها الرسول ﷺ متميزة جدا عما حُمّل به الأنبياء جميعًا، وتوجُّه ألطافِه تعالى إليه ذو لون تكريمي وإعزازي. فحين يكلمه ربه يكلمه بأسلوب خاص يُعزه به ويعلمنا نحن أدبَ الخطابِ معه. فهو المخاطَب العزيز بأفق التكريم والتلطيف بخطابِ: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم:1-4). فهو مداد القلم الذي كُتب به الوجود، وروح ومعنى بمثابة الغاية لكتابة سطور الكائنات ومعناها، وأفصحُ ترجمانٍ لمجاهيلِ ظهورِ الأسرارِ الإلهية، ومخزنُ معرفة الحقائق اللاهوتية. هو خير شخص للمنصب السامي في الآية: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(آل عمران:31)، وأَسْطَعُ مَظهرٍ لمقامِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾(الفَتْح:10)، وأرفعُ إنسانٍ في ذروة مرتبة الرضا، والممثلُ المشع بالأنوار لرضوان الحق تعالى، والنورُ الهادي للسائرين، بفحوَى ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾(الضحى:5). وهو بحقيقةِ مضمونِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)

محمد ﷺ هو مهاجرُ أفقِ الإنسان بعنوان “أحمد”، وضيف المدينة من مكة باسم “محمد”، وصاحب لواء الحمد من البرزخ باسم “محمود”

أنموذج الإنسان الكامل

هو المفتاحُ السِّرِّيُّ والبابُ للعوالم الرافلة بالإيمان والمعرفة في الدنيا، وبالجنة وجمالِ الله في الأخرى، والوسيلةُ النورانيةُ للحظوظ الماورائية، والمفسِّرُ للحقائق التي لا يُدرَك كنهُها، والمفتي الخاص لعالم الذات (سبحانه)، والمَشرِق المنوَّر لأفق الصفات، والمُرشد الهادي المؤتمَن لمن اتبعه، وبَوْصَلة الحقِّ لأهل التوحيد، وشعلةُ النور الإلهي المبدِّد لظلمات الضباب والدخان المحيطِ بعوالم الإدراك والإحساس، والخليلُ الوفيُّ الخالصُ للواهبين قلوبَهم للحق تعالى، والخصمُ الألد للشيطان والشيطنة، والسورُ الحامي لمن احتمى به في الدنيا والعقبى، والشفيع الموئلُ للمذنبين. به خُففت التكاليف الثقيلة التي ما كان النهوض بأعبائها مستطاعًا، وبفضله رُفع عن الأمة الخطأ والنسيان. وفي مناخه وإقليمه بَدَّل العفوُ والعذاب لونَه، ووقع في كل صدر رجاء العفو والغفران.

محمد ﷺ هو الإنسان الكامل الحقيقي المستودعُ الأمين على عِلم الذات والصفات والأسماء.

قاب قوسين أو أدنى من سدرة المنتهى

هو المدعو الخاص الذي دعاه الحق تعالى إلى وليمة السماوات، وهو العارج العابر بـ”قاب قوسين” حيث ترنو إليه الأبصار. وضيافةُ “سدرة المنتهى” هبةٌ مهداة إليه وحده، وما رآه في مضمونِ ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾(النجم:17) من غير دُوار في الرأس أو غبش في العين، رصانةٌ ووطادةٌ خاصةٌ تَلطَّفَ الله تعالى بها عليه. شاهَدَ ظهور الآية الكبرى بخصائص ذاتِها فما عَشِيَت عينه البتة… وإذ ذاك صار “المشار إليه بالبنان” في أهل السماء كافة… معه صار جبريل –لأول مرة – رفيقًا وخادمًا لبشر في سفر سماويٍّ لا يُدرك… وكان هو في سفره هذا يَمضي إلى ما وراء العوالم المادية عابرًا العوالمَ المادية بسرعة تتعدى سرعة ضوء البوارق.. فيَرى ما لا يُرى. فـ”سدرة المنتهى” أولُ منـزل، و”قاب قوسين أو أدنى” ذروةٌ يستسلم فيها العقل، و”لقاء الله” حظوةٌ تتعدى أُفق إدراكِنا وفهمِنا.

محمد ﷺ هو الخليلُ الوفيُّ الخالصُ للواهبين قلوبَهم للحق تعالى، والخصمُ الألد للشيطان والشيطنة، والسورُ الحامي لمن احتمى به في الدنيا والعقبى، والشفيع الموئلُ للمذنبين.

وسيد هذا كله -بتعبير الشيخ غالب- (مترجَمًا من التركية)

“هو سلطان الرسل الشاهُ الممجد،

وهو للبائسين، العز السرمد،

في الديوان الإلهي العميد المعتمد،

الأحمد المحمود المحمد”.

أسماء نورانية

إنه قد رأى… ورجع إلينا ليُرينا ما رأى. وإنه قد سمع، وعاد ليُسمِع أرواحنا ما سَمع. فهَمس في وجداننا بأسرار الأول والآخر، والظاهر والباطن. هو أهم رمز للأول، وهو مرآة الآخِر الباثَّةُ للأنوار. هو أعلى صوتٍ داعٍ للأحدية الذاتية والواحدية الصفاتية، وهو الإنسان الكامل الحقيقي المستودعُ الأمين على عِلم الذات والصفات والأسماء. هو منذ التعيُّن الأول مهاجرُ أفقِ الإنسان بعنوان “أحمد”، وضيف المدينة من مكة باسم “محمد”، وصاحب لواء الحمد من البرزخ باسم “محمود”، وقيِّمُ أستار الجنة وجمالِ الله، ومنهلُ فيضِ العوالم الروحانية والجوهرُ الأصل لعالم الجسمانية بأسمائه الشريفة كلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 163

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر..