لا شكّ أن الإسلام السياسي كان يتميز بحركية دائمة وبإنتاج فكر نقدي باستمرار، ولكن يبقى طلب التغيير يأتي دائما من المحيط (المجتمع)، ويوازن مع العناصر الأخرى حالة التطرف لدى الكوادر القوية في المعارضة، لأن هذا المحيط الذي يتبنَّى الحجج الإسلامية يدعو إلى العدل والحق والاستقامة وكانت هذه الدعوة تنعكس على الأفئدة.
لكن ماذا عن الآن؟ فأصحاب الإسلام السياسي كانوا يقفون خارج هذه المنظومة، وينتقدون تلك الأمور بشدة، والآن يرون أنفسهم أصحاب الدولة الحقيقيين، ويتصرفون على أنهم حصلوا على هوية جديدة لتفعيل المؤسسات والمنظمات القديمة في الدولة، فمثلًا جهاز الاستخبارات الذي كان يُنتقد بشدة أصبح اليوم مؤسسة “مقدَّسة” للحفاظ على كيان الدولة، ومجلس التعليم العالي يُعرَف في هذا المحيط بأنه في مقدمة المؤسسات التي تربي أجيالا متدينة.
والحقيقة المرة هي أنه قبل فترة قصيرة جدًّا كان هناك تيار يدعو إلى تعديل النظام المؤسَّسي، بل هدمه وإعادة بنائه مجددا، لكنه نذر نفسه اليوم لنظام أحادي الصوت أحادي اللون أحادي الحزب أحادي القيادة ويقدِّس جهازًا يُسمَّى الدولة.
سابقًا تسبب المنطق النقدي الذي جاء به الإسلاميون في إنتاج فكر جديد، لكن في الحقيقة لم يعد بإمكانهم تحمُّل مناقشة أي فكر ناهيك عن إنتاج فكر جديد، وقد انتهت قدرتهم على طرح القيم منذ أمد بعيد، أما منتجو الأفكار فصاروا كلهم موظفين في الدولة، ومناصبهم وألقابهم وصلاحياتهم وشهرتهم ويخوتهم وطوابقهم وثرواتهم لا تعينهم على إنتاج فكر جديد مع الأسف.
كانوا بالأمس يقولون إن الدولة الكافرة لا بد أن تنهار، في حين أنهم أصبحوا اليوم يتصرفون بفتاوى تجيز قتل الأخ حسبما تقتضيه تقاليد الدولة، وكان هؤلاء الإسلاميون يقولون البارحة إنهم “مستضعفون“، لكن مع الأسف فإن أكثر وصف يليق بهم اليوم هو أنهم “مستكبرون“، فالكبر الذي يبثونه عبر شاشات التليفزيون يبدأ من قمة الهرم لديهم، ويستمر إلى القاعدة بنفس الطريقة الخطابية.
وكان المثل الأعلى للإسلام السياسي هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ، الذي لطالما كانوا يذكرونه على ألسنتهم، وكانوا يتحدثون عن صفع الوالي الذي وضع حاجبًا أمام بابه وقوله: وهل كان هناك حجاب بين الرسول ، والناس حتى اتَّخذتم الحُجَّاب؟
وهذه حقيقة فعلًا فأبو ذر عاش حياة زهدٍ ولم يعش في ثراء، وكان دومًا على قناعة بأن الدولة وُجدت لخدمة الإنسان، لم يجمع الثروات والأموال، ولم يُفتتن بمغريات الدنيا، وقد عاش وحيدًا ومات وحيدًا كما أخبر الرسول قبل موت أبي ذر بسنوات، حيث قال : “رَحِمَ الله أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ“ (الحاكم: المستدرك، 3/52) وهذه بشارة جزائه في الآخرة لموقفه الأصيل.
إن “الإسلاميّين” المطالبين بالعدل من الدولة وينتقدون الدولة نقدًا هدامًا، يتخذون أبا ذر قدوة لهم دون غيره، وهذا أمر طبيعي، لكن أصحاب الإسلام السياسي ما عادوا يذكرون أبا ذر على ألسنتهم، لأن أغلبهم أصبح منذ أمد بعيد تحت تأثير نعيم السلطة، كاليخوت والفيلات والساعات الفخمة والسجائر باهظة الثمن ذات مئات الدولارات والنرجيلة التي تدخن حتى الصباح، فأين المحن التي يعانونها في سبيل الدعوة، أين ذهبت؟ وأين زهد أبي ذر وعدالة عمر وشجاعة صلاح الدين؟!
ثمة خطر الآن في أن يكون المرء عبدًا للثروة التي يحصِّلها من الدولة، ولم يبقَ شيءٌ في الخزينة التركية التي يتباهون بأنها الناتج التركي المتراكم، وأصبح الذين لا يُنتجون الأفكار يستهلكون قيم الآخرين ويوجهون الإهانات إلى من حولهم، انظروا إلى صحفهم وقنواتهم التلفزيونية فلن تجدوا أثرًا لأيّ أفكار مع الأسف، الكذب موجود والافتراءات كثيرة والإهانات على قدم وساق، والأخلاق في منتهى السوء، ولم تبقَ لدى “الإسلاميين” لباقة ولا نزاهة ما عدا بعض الأشخاص القلائل وبلغت بهم الصفاقة إلى حد أن أغلبهم لا يعي مدى البغض والانحطاط الذي هم فيه، فيا للأسف!
بعض الإمّعات الذين فقدوا مبادئهم تارةً يرتدون زي الصحفيين، وتارةً أخرى يعملون من وراء ستار مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن نتفهم موقفكم حين يكونوا ضمن الحكومة، لكن ما الذي يستدعي ارتكاب الآثام من أجل إظهار الولاء؟ لا يدري بعض أولئك المساكين أنهم حين يصدرون شتَّى الفتاوى المضللة لإنقاذ قائدهم، ويسبون من يشاؤون، ويأمرون بهذا أو ذاك، إنما يسيؤون للدين الحنيف وليس للإسلام السياسي فحسب.
لا فرق بين من يدعي الجهاد بقطع رأس من يخالفه الرأي وينشر جرائمه عبر صفحات التواصل الاجتماعي وبين المفسد الذي يسيء بأقذع الألفاظ وأحط العبارات للمؤمنين الذين لا يدعمون حزبه السياسي، وهو يظن ذلك أسلوبًا من أساليب الكتابة! فأحدهم يحمل سلاحًا والآخر يحمل قلمًا، فلو وجد الآخر سلاحًا لفعل كما فعل حامل السلاح، ألم تكونوا معارضين للظلم؟ ألم تكونوا قلقين إزاء أنين المظلومين، لو ظهر سيدنا أبو ذر في هذا العصر الحالك فماذا كان سيقول عن تحوّلكم المأساوي هذا؟ فقسمًا إنه لا يوجد في التعاليم التي دعا إليها رسول الله -معلّم أبي ذر - أيُّ مكانٍ للعادات الشيطانية كالغرور والكبر وإيذاء الناس والكذب والافتراء والاستهزاء والتنابذ بالألقاب.
فماذا أقول لكم أيها الإسلاميون القدامى؟ عودوا إلى الإسلام.. أما قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/136)
أجيبوا إن استطعتم
ما كان أحد يعلم بمضمون التحقيق حول “منظمة السلام والتوحيد” إلا أن الإعلام الموالي للحكومة في محنة شديدة بسبب مناقشاته، فكما تفوَّهوا بكلمات نابية يتصرَّفون بتسرُّع وخوف، فمثلًا: طبعوا عشرات الصور في الصفحة الأولى، وادَّعوا أن الشرطة تنصتت على سبعة آلاف شخص، وفهم أقل الناس اطلاعًا على الرياضيات في مرحلة الدراسة الابتدائية مدى سخف ذلك الادِّعاء المضحك، لأنه ليس هناك إمكانية تقنية ولا عدد كاف من الكوادر للتنصت على كل أولئك الناس.
ثم خفض هؤلاء المبالغون الرقم إلى 2280 شخصا ، ليخفوا فضيحتهم، لأنهم مضطرون لذلك، وتبيَّن أنه لم يتم التنصت على هذا العدد أيضا، المدَّعي العام “هادي صالح أُوغْلُو” قال: “أما أنتم فتتسرَّعون رُبّما هناك خطأ في الحساب!”، وكان النائب العام بعبارته هذه يحاول أن ينقذ الإعلام الموالي وبعض المؤسسات الحكومية من موقفهما المخزي، ومن المحتمل أن أجهزة الحكومة أعطت ذلك الرقم.
وخلال الأسبوع أضافت صحيفة “أَكْشَامْ” بعدًا جديدًا للحادثة واعترفت بشيئين:
للمرة الأولى اضطروا للإخبار عن الرقم الحقيقي وهو 242 شخصًا للتنصت الذي تم بقرار من المحكمة في قضية الفساد والرشوة التي طالت كبار مسؤولي الحكومة التركية، بعد هذه الساعة هل يصح لنا القول: ولماذا هذه المبالغة والكذب؟ وهل هم مكترثون لذلك؟ لا أظن.
الصديق الذي يدير تلك الصحيفة وضع عنوانًا عريضًا كاذبًا حول صحيفة “زمان”، فحصل على ردٍّ مفاده: “إمّا أن تثبت إن كان لك شرف وكرامة أو أن تعتذر”، ومنذ تلك الحادثة لم يعتذر فأصبح موصوفًا بأنه أسوأ رئيس تحرير في تاريخ الصحافة، والمدير العام الموالي الآن أيضًا يسلك السلوك نفسه لا يعي ما يتفوَّه به، أيًّا كان.
للمرة الأولى يعترفون بأن هناك إيرانيين تم التنصت عليهم، وهذا مايسمَّى في القانون بالجرم المشهود، فلا مفرَّ للإعلام المعارض، سؤال صحفي بسيط: لماذا تستَّرتم على أسماء الإيرانيين في ملف منظمة السلام والتوحيد عندما كانت الصحيفة ستنشرها؟ لقد نشرتم أسماء العديد من السياسيين والصحفيين والفنانين مع أنهم لم يُستَمع إليهم، فلماذا إذًا حذفتم أسماء الجواسيس الإيرانيين من القائمة وقد تم التنصت عليهم؟
فالموضوع تحقيق حول جواسيس، ولذلك من الأهمية بمكان مراقبة الأجانب، ومراقبة من يكون على ارتباط بهم، إذًا فلماذا أخفى رئيس تحرير الصحيفة الموالية أسماء الإيرانيين؟ هل إخفاء الخيوط المؤدية إلى القبض على الجواسيس أمانة صحفية، أم شيءٌ آخر؟ ولماذا يُراد لهذا الملف أن يُطوى عاجلًا ؟ اسمحوا بظهور الجواسيس ومن يستحقون أن يلقى القبض عليهم.. يبدو أن بعض الصحفيين لديهم أعمال أخرى غير الصحافة.
بانوراما
صحيفة “يَنِي آسْيَا (Yeni Asya)” تصيح: “يريدون أن يصوّروا مجموعة “يَنِي آسْيَا” على أنها انقسمت”.
حين ننظر إلى الصحف الموالية نجد أن صحيفة “يَنِي آسْيَا” على صواب، فزعيم حزب الوحدة الكبرى “مصطفى دَسْتِيجِي (Destici)” قال: “أنا أعرف الاجتماعات التي عقدتموها من أجل تقسيم حزبنا وأنا مستعد لتوضيحها”، وكذلك اشتكى السليمانيون أيضًا، فإذا كان هناك من يستخدم إمكانيات الدولة لتقسيم وسحق أي مجموعة اجتماعية لأنها لا تتماشى مع أهوائه ليس إلا، أفلا يكون ظالمًا؟ وهل تظنّون أن هذا الوضع سيستمرُّ؟
ويبدو أن هناك من لا يكترث بالأزمات الاقتصادية، ويحاول التدخل في شؤون بعض الشركات، وأن يهدم بعضها الآخر جاعلًا الدولة وسيلة في ذلك، وقد انهار الإعلام المحرض لذلك، وهذه العقلية غير المنطقية تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الوطني، ومرتكبو هذا الإثم سيحاسبون جراء عملهم هذا، وحين يأتي وقت دفع الثمن لن تنقذَ الأوامر الشفهية أحدًا.
“لقد ثبت بالتجربة أن الظلم الذي يمارسه البعض تحت مسمى التمييز يضر بصاحب الحظر، وليس بالمؤسسة الإعلامية، وإذا كان ثمة عار، فلا يلحق بالمظلومين، بل بالظالمين المتكبرين، ويعرف جيدًا أصحاب المواقف المشرفة فيما يتعلق بالحقوق والحريات الأساسية في تركيا، وكذلك أولئك الذين ينظرون للوضع من خارج تركيا ويؤمنون بذلك، يعرفون أن ما يحدث هو تناقض فاضح وأن هناك جريمة تمييز ترتكَب“.