أدلى رئيس الشؤون الدينية في تركيا “محمد جُورْمَزْ (Görmez)” ببعض التصريحات الغريبة منتصف الأسبوع الماضي[1]، وبطبيعة الحال تعرض “جُورْمَزْ” لردود فعل غاضبة وكثيفة جدًّا، وقد بدأ تصريحاته التي أثارت جدلًا واسعًا بقوله: “السرقة شيء سيئ لكن…”، فهو يحاول تبرير مسألة السرقة، التي حرمها الإسلام بالكلية، بإضافة كلمة “لكن”، فيجب أولًا أن نتوقف هنا ونقول من أعماق القلب: “أستغفر الله العظيم وأتوب إليه!”.
وللأسف واصل السيد “جُورْمَزْ” كلامه بشكل أسوأ، قائلا: “إن سرقة معنويات الشعب أسوأ”، حسنًا، ماذا تعني سرقة معنويات الشعب؟ وما هي المعايير التي تحدد هذه السرقة؟ ومن هم هؤلاء اللصوص؟ ومن الواضح أن السيد “جُورْمَزْ” فضّل أن يقوم بحملات سياسية أكثر من تعليقه الديني على هذه القضية، وهو بقوله “السرقة شيء سيئ ولكن…” يظهر أنه لم يلقِ بالًا للحكم الديني، ويتهم في تلك الأثناء حركة الخدمة دون أدلة أو براهين، رئيس الشؤون الدينية عليه أن يتقي الله ولا يتعدى على حقوق العباد بذنوب مثل الغيبة وسوء الظن والافتراء وغير ذلك، فهل تعديتَ على حقوق ملايين البشر حتى تكون مضطرًّا لطلب العفو والسماح من كل واحد منهم…
لا يليق بشخصية تمثل مؤسسة الشؤون الدينية في تركيا أن تتحدث دون تفكير، ذلك أن السيد “جُورْمَزْ” ليس مضطرًا لتبرئة ذمة فعل السرقة الذي عرّفه الدين، كما أنه ليس مجبرًا على اللجوء للتلاعب بالألفاظ من أجل توجيه الاتهامات الخفية لجماعة من الجماعات، وللأسف فإن الفعلين اللذين ارتكبهما يعتبران مصيبتين كبيرتين في حد ذاتهما، فإذا كانت ثمة سرقة معنوية فيجب تعريفها بأوصافها الملموسة، فكان يجب عليكم أن تقولوا على سبيل المثال “لا تجعلوا ذنوبًا مثل الفساد والرشوة والسرقة وغيرها (إشارة إلى تسجيل المكالمات لكبار المسؤولين في حزب أَرْدُوغَانْ) مرتبطة بكلمات ذات معانٍ عميقة مثل السلام عليكم وما شاء الله وإن شاء الله، فإن فعلتم ذلك تكونوا قد ارتكبتم سرقة معنوية”، هل هذا خطأ؟ فإذا كانت لديكم حساسية تسمى السرقة المعنوية، ألستم مجبرين على قول العبارات التالية: “ياأيها الذين انطلقتم حاملين الشعارات الدينية وأردتم قيادة الشعب، إن أكبر نوع من أنواع السرقة المعنوية هو فرض الخراج على الشعب (موارد غير شرعية تحت أمر أَرْدُوغَانْ من مناقصات حكومية أو من تراخيص المشروعات مخالفة للقانون)، وتشكيل صندوق خاص من الموارد المالية وبناء الفيلات الفارهة وشراء المساكن الفاخرة من هذه الأموال، بل الأسوأ من ذلك استغلال هذه الإمكانيات وبناء إمبراطورية إعلامية تلجأ كل يوم للأكاذيب والافتراءات لتشويه سمعة قطاع عريض من أبناء الشعب”.
لدي الكثير مما أريد أن أقوله، غير أن رئاسة الشؤون الدينية تضم كوادر من العاملين بها من أصحاب القيم والشيم النبيلة، ولا أرغب في تجريحهم حتى وإن كان ذلك عبر الطرق غير المباشرة، غير أنني مجبر لقول هذا القدر ليسجله التاريخ:
يا سيد “جُورْمَزْ”، لم تُسْتَغَلَّ رئاسة الشؤون الدينية كأداة لخدمة الحسابات السياسية الضيقة في أي وقت مضى بالقدر الذي استغلت فيه في عهدك الذي شهد ارتكاب أخطاء قاتلة حتى أصبحت رئاسة الشؤون الدينية مستعدة لتلقي الأوامر من الحزب الحاكم، وكأنها شعبة من شعبه، وذلك بدلًا عن أن تحتضن جميع أطياف الشعب وتقف إلى جانب الحقوق والحريات الأساسية، حتى أنك لم ترد بأي جواب شافٍ على الادعاءات التي تقول إن خطب الجمعة (المطبوعة من قبل رئاسة الشؤون الدينية لإلقائها على منابر مساجد تركيا كلها) يجري الإعداد لها بحسب رغبات الحزب الحاكم، وللأسف فإن الثقة التي نشعر بها تجاه المؤسسة الدينية الأكبر في تركيا تقل يومًا بعد يوم، فأنت يا سيد “جُورْمَزْ” تضر بالوجه المشرف والمحترم لهذه المؤسسة بمواقفك التي تميل إلى تأييد طرف سياسي بعينه، فالاحترام لا يقاس بالمقعد الذي تجلس فيه في المراسم البروتوكولية، بل يقاس بتعظيم الشعائر الدينية والتمثيل الموقر لعزة الإسلام، فأي مبدأ إسلامي يتوافق مع تسليم العشرات من الشخصيات صاحبة القيمة ممن قضوا حياتهم في خدمة هذه المؤسسة الدينية بحب وإخلاص لعلمهم وجهودهم للرياح السياسية؟ وهل هناك مصيبة أكبر من تسليم مفتاح رئاسة الشؤون الدينية إلى أيدي السياسيين بالله عليكم؟!
“وفي الوقت الذي يمارس فيه “العمال الكردستاني” أعمالًا إرهابية لم تنطق الشخصيات التي تمثل الدولة في تركيا بكلمة واحدة للاعتراض على هذه الممارسات، حسنًا، فلنقل إنهم يتحملون ذلك في سبيل إنجاح مفاوضات السلام وحلّ القضية الكردية، لكن كيف يتخذون موقفًا حادًّا وإقصائيًّا لهذه الدرجة إزاء آخرين؟“.
[1] من تاريخ كتابة المقال.