مهما اختلفت الآراء وتعددت التأويلات ثمة حقيقة واضحة، وهي أن العدل ينزف والثقة بالقضاء في أدنى مستوياتها، لأن نظام القضاء يعمل بشكل مزدوج، فمن ناحية، نراهم يتسترون على الجرائم التي تستند إلى وثائق ومعلومات ملموسة، ومن ناحية أخرى نجدهم يستحدثون جرائم بغريزة انتقامية، ويقومون بتأسيس محاكم لأغراض سياسية.
هل المواطن التركي ليس على حق عندما يقول: “للصوص أحرار طلقاء ومطاردوهم في السجون!”؟ فهذا هو المشهد، وقد تحول بعض الأشخاص إلى أفراد “منزَّهة عن المحاسبة” ونالوا حصانة “لا يُسأل”، فهل هذه الوضعية سارية كذلك بالنسبة للمواطن العادي؟ بالتأكيد لا، ولقد أطلِق سراح المتهمين صراحةً بتلقي رشاوى والضلوع في أعمال الفساد وغسل الأموال والفساد في المناقصات والاختلاس، على الرغم من وجود كمية هائلة من الوثائق القانونية التي تدينهم، ولم يكفِ هذا، بل أغلقوا ملف التحقيق في القضية، و”صفّروا” (انتهوا منها وجعلوها صفرا)، الأسبوع الماضي[1]، ملفات الاتهام بحق 53 متهمًا من بينهم رجل الأعمال التركي من أصل إيراني “رضا ضراب” وأبناء الوزراء المستقيلين والعديد من “الشخصيات المعتبرَة”، لكن أربعة وزراء كانوا قد اضطروا لتقديم استقالاتهم بسبب الأدلة التي كشفتها التحقيقات؛ إذ كان ملف التحقيق يضم كمًّا هائلًا من الأدلة القوية والملموسة، واليوم لم يعد هناك أي متهم مدان في فضيحة الفساد التي كُشف عنها يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013م، ولن يمثل أحد أمام القانون بالضبط كما حدث لـ”الشخصيات المرموقة” في موجة الفساد الثانية التي ظهرت على السطح يوم 25 من الشهر نفسه.
وفي اليوم ذاته، الذي صدر فيه قرار وقف الدعوى الذي برّأ “رضا ضراب” ومساعديه، تم نقل رجال الشرطة الذين تولوا التحقيقات في قضية الفساد، والذين اعتقلوا بعد أشهر من انطلاق التحقيقات (من قبل محكمة أسست فيما بعد)، في سجن “سِيلِفْرِي (Silivri)” بإسطنبول! سجن سيليفري الذي كان المتهمون في قضية تنظيم أرجينكون الانقلابية قابعين فيه فترة من الزمن، وكانت مشاعر الانتقام تسيطر عليهم لدرجة لم يستحيوا معها عن إخفاء أمر نقلهم في يوم الزيارة عن محامي المتهمين وذويهم، وأرغموا الزوار الانتظار لساعات طويلة أمام بوابة السجن، ثم قالوا لهم: “لا يمكن لكم زيارتهم لأنهم ليسوا هنا وتم نقلهم من هنا إلى سجن آخر!”.
بينما يتجول المتهمون بأدلة ملموسة بالفساد والسرقة وغسل الأموال بكامل الحرية أحرارا طلقاء، نجد المسؤولين الأمنيين الذين نفذوا التعليمات الصادرة من النيابة العامة والمحكمة، ينفون من سجن إلى آخر، فما هو الدليل القانوني لاتهام رجال الشرطة هؤلاء؟ لا شيء؛ لا شيء على الإطلاق! لأن الادعاءات المطروحة ما هي إلا عبارة عن بيانات وتعليقات سياسية واعترافات تم الحصول عليها من الذين أرغموا على ذلك وليست لها أية قيمة في الواقع.
المشهد واضح: أطلق سراح “الشخصيات المعتبرَة” من خلال ضغوط وتعليمات سياسية، بينما يسجَن مَن ليست لهم أية تهمة غير أدائهم لمهمتهم التي خولتها القوانين لهم، وفي إطار القانون.
لا داعي للحديث طويلًا، فيكفينا اقتباس صغير من التاريخ لشرح كل شيء: امرأة من قبيلة بني مخزوم تسرق وتثبت عليها الجريمة، وعلى الرغم من ذلك، يتدخل البعض مطالبين بعدم معاقبتها لأنها من أسرة مرموقة، ولأنهم لم يستطيعوا تقديم ذلك الطلب إلى النبي محمد مباشرة، اختاروا أن يُكلّفوا شخصًا يحبه النبي وهو أسامة بن زيد ، المعروف بـ”حِبّ الرسول” له، ليعرض عليه هذه الفكرة، فما إن سمع النبي هذا الكلام حتى انفجر غاضبا وقال: “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ“، وكان هذا استشهادًا رائعًا من النبي ، يكفي للكشف عما إذا كان ميزان العدل والظلم سارٍ أم لا، وأكد الرسول هذا الاستشهاد بحكم عظيم أمام الجميع؛ إذ أضاف: “وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا“ (صحيح البخاري: الأنبياء، 54)
لا بدّ للقانون أن يعامل الجميع بالتساوي، كأسنان المشط، بغضّ النظر عن النسب والعائلة والانتماء السياسي وعلاقات القرابة وما إلى ذلك، فإذا اعتُبر أحدهم “أكثر خصوصية وامتيازًا“، سيستشري الظلم وتتزلزل مشاعر الثقة بالعدل من جذورها.
كانت صحيفة “جمهوريتْ” التركية قد نشرت يوم السبت الماضي[2]، عنوانًا على صفحتها الأولى يستحق أن يدخل في سجل التاريخ؛ إذ كتبت: “استح يا عدالة!”، تعرض الصحيفة من ناحية، صورة الأشخاص المتهمين في تحقيقات الفساد والرشوة التي تم التستر عليها، ومن ناحية أخرى صورة لعائلة “صاري سولوك (Sarısülük)” التي فقدت أحد أبنائها برصاص الشرطة تجلس على كرسي الاتهام؛ إذ حوكم أربعة أفراد من هذه العائلة المصابة والتي تتلوى بآلام فقدان ولدها بعقوبة بالسجن تصل إلى 10 سنوات بحجة أنهم وصفوا الشرطة بـ”القتلة” بعد الفجيعة وفي وقت الألم، وللأسف، فإن هذه القصة التراجيدية التي نشرتها صحيفة “زمان”، لم تحظَ باهتمام أغلب الصحف التركية، ولا شك في أن الذين اختلجهم الخوف والقلق وآثروا السكوت في مواجهة المبادرات الاستفزازية لمراكز السلطة، تحولوا إلى عناصر سلبية لعملية “التصفير” التي تشهدها تركيا.
إن الذين صفّروا الأموال والفيلات واليخوت والسفن والشقق الفاخرة وسائر الممتلكات الأخرى (أي جعلوها صفرا)، يسعون لتصفير العدالة كذلك، وبطبيعة الحال، فإن الضمير الجمعي للرأي العام يشاهد هذه المساعي التي يقومون بها كأنهم ينقذون ما يمكن إنقاذه من الحريق بهلع ودهاء ومكر، ولا ريب في أن هذا الضمير سيقف في وجه الظلم ويصرخ بأعلى صوته وسيقول للظالمين “لقد حصلتم على صفر في الامتحان!”.
وقْع أقدام الفاشية
خرجت الحكومة التركية أمام الرأي العام بـ”حزمة قضائية” جديدة في منتصف الليل، وكان واضحًا جدًّا أن مشروع القانون الذي يتحجج بالأحداث التي شهدها الشارع التركي عقب عيد الأضحى، لم يعدّ بين ليلة وضحاها، ولهذا السبب، لم يقتنع الرأي العام بالحجج التي ساقتها الحكومة، وراودته فكرة أن الأحداث ما هي إلا ذريعة، وأن ما يريده الحزب الحاكم هو العودة إلى القبضة الحديدية التي كانت تحكم تركيا، وهذه الواقعة تعتبر، بصفة رسمية، تراجع تركيا عن السير في طريق الديمقراطية، هذا فضلًا عن كونها أولى خطوات عملية ستسوء أكثر من خلال “الحزمة الأمنية” الجديدة، وكان المتحدث باسم الحزب قد أدلى ببيان مضحك جدًّا ردًّا على الانتقادات الموجهة للحكومة؛ إذ قال: “هذه ليست خطوة إلى الوراء، إنما هي عودة للتعديل الذي أدخلناه عام 2004م”.
ما الذي أتى به مشروع هذا القانون: في الوقت الذي كانت فيه السلطات تبحث عن “أدلة ملموسة” لإصدار قرارات الاعتقال والتفتيش، ستبحث السلطات من الآن فصاعدًا عن “شبهة معقولة”، هل نضحك أم نبكي على هذا التغيير الكارثي! كما سيقلَّص حق الدفاع، ولن يستطيع المتهم أو المحامي الاطلاع على ملف القضية إذا ما وضع القاضي تدبيرًا احترازيا، فالحكومة التي تبنت خطابًا إصلاحيًّا مفاده: “أننا ألغينا المحاكم ذات الصلاحيات الخاصة”، ستقوم بأية عملية مستخدمةً مصطلحا معيبا مثل “الشبهة المعقولة” في أي مكان تريد بناءً على القرار الذي سيصدره نواب العموم والقضاة الذين ستزودهم بصلاحيات لا يمتلكها حتى مدعو العموم ذوو الصلاحيات الخاصة، والأدهى من ذلك؛ ستضع السلطات يدها على ممتلكات أي متهم أو مشتبه به في “الجرائم الدستورية”.
من الواضح والجليّ أن حقوق الإنسان العالمية تم تعليق العمل بها بسبب هذا القانون، وليس الدستور التركي فقط.
وهذه فاشية واضحة وجلية للغاية، وإن التدخل في اللوائح والتشريعات من خلال الصلاحيات الخارقة وأعضاء المحاكم المنتخبين بشكل خاص، ليعتبر رفعًا لراية الفاشية على حصن العدالة، لا سيما وأن مشروع القانون يتضمن مادة تنص على أن يستحق المحامون من أصحاب الخبرة لعامين حق التعيين في منصب القاضي.
هذا فضلًا عن أننا شهدنا واقعة غريبة للغاية حتى قبل أن يناقش البرلمان مشروع القانون هذا، تسبب بعض الأشخاص البراجماتيين في اعتقال الصحفي آيتكين جيزيجي في أضنه بسبب “شبهة معقولة”، وهو أمر ليس معقولًا! فإذا كانت قرارات كهذه تصدر حتى قبل إقرار هذا القانون، فمن يدري ما الذي سيحدث إذا ما صدر هذا القانون الذي ينتهك الحريات الأساسية المنصوص عليها في الدستور، ويتعارض مع بنود الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي وقعت تركيا عليها، وكيف سيكون الوضع في تركيا؟!
لم يعد أي شخص أو فئة في أمان في تركيا بعد اليوم، ذلك أن دولة القانون نُحيت جانبًا، وفتح الباب أمام جميع أنواع ضغوط النظام الفاشي، فهل تصبر تركيا على تبعات هذه الوتيرة؟ لا على الإطلاق! لا يمكن التضحية بالمكتسبات الديمقراطية الكثيرة من أجل تستّر البعض على جرائمهم، ولن يحدث شيء كهذا.
“وا أسفاه على ما آل إليه من جاؤوا إلى السلطة من خلال خطاب “الإسلام السياسي“، ففي الوقت الذي كانوا –حتى وقت قريب– ينتظرون الدعم من الشعب بحجة تعرضهم للمظالم التي تسبب بها مجلس الأمن القومي، نجدهم اليوم يسعون لاستغلال المؤسّسة نفسها، على هواهم لتحقيق مصالحهم الشخصية“.
[1] من تاريخ كتابة المقال.
[2] من تاريخ كتابة المقال.