رغم انتماء كونفشيوس وأفلاطون وكولن إلى خلفيات ورؤى حياتية مختلفة تمامًا، فإنهم يشتركون جميعًا في رؤية أساسية واحدة حول بنية الواقع؛ فالثلاثة يتحدثون عن رؤاهم للمجتمع الإنساني من منطلق مثالية غيبية تمثِّل الأساس والمصدر والحقيقة والأصل لكل الواقع الدنيوي. وهذه المثالية الغيبية تسمى لدى كونفوشيوس “الداو” (Dao) أو “كيفية وجود جميع الأشياء”، والداو ليس إلهاً أو معبودًا شخصيًّا، وإنما هو القوة أو المبدأ أو الطاقة الطبيعية للواقع؛ فكل الأشياء توجد في الداو ومنه تتكون جميع الأشياء. ويعتبر الداو في كلٍّ من الفلسفات الصينية القديمة والكونفوشية والطاوية (Daoism أو Taoism)) الأرضيةَ العميقة لكل الوجود والجوهر والواقع، وعن طريق الانسياب أو التكامل مع الداو أو الاتصال به أو تقليده يمكن فقط أن يَحدث التناغمُ في الحياة الإنسانية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والكونية.
الحقيقة واحدة بالتأكيد ولكنها تتكون من أبعادٍ وعوالِمَ وأشكالِ وجود مختلفة. ومَن يدركون هذا ويعيشون وفقا له يَجدون السعادة والخير والحق مهما كانت ظروفهم وأحوالهم.
عالم الحقيقة وعالم الظل
ويصف أفلاطون هذه الحقيقة الغيبية “بالمثالية” (ideal) في مقابل العالم “الحقيقي” (real). وفي المحاورات التي أجراها عن معلمه سقراط وتلامذته، كان سقراط يركز على هذين البعدين الأساسيين للوجود -المثالي والحقيقي-أو يعبّر عنهما أحيانًا بألفاظ مختلفة مثل الحقيقة والظل. والمثالي أو الحقيقي هو أزلي وغير مادي -أي إنه فكرة أو روح صرفه-لا يفنى أو يتغير، وهو مصدر الخير والحق والعدل وغير ذلك. ويشبِّه أفلاطون تلك الذات بالنور أو السطوع في مقابل الظلام الدامس للواقع الإمبيريقي الذي غالبًا ما يخلط البشرُ بينه وبين الواقع الحقيقي المطلق. أما العالَم الفعلي أو عالم الظل فهو مادي ومتغير وفانٍ، تتعدد فيه تصورات الخير، وتتصارع أشكال الحق، وتكون مفاهيم العدالة نسبية. وباختصار، فالعالم المثالي أو الحقيقي هو عالم العقل أو الروح الصافية ورغباتها، بينما العالم الفعلي أو عالم الظل فهو عالم الجسد ورغباته، ولا تستقيم الحياة الإنسانية على المستويين الفردي والجمعي إلا عندما يكون الأولُ هو الحاكم على الثاني.
كولن وتصوره للحياة الإنسانية
وأخيرًا، يؤكد كُولن على تصوره للحياة الإنسانية في إطار الإسلام، الذي يطرح رؤية حياتية تجمع بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. ولا تكتسب الحياةُ الدنيا كمالَها ومعناها وأصالتها إلا عندما نعيش فيها ونحن نؤمن بوجود الرب -أو الله-باعتباره المصدر والأساس للحقيقة. وجميع الكائنات هي في جوهرها مسلمة -بمعنى أنها تسلم وجهها لله-لأنه لا وجود مطلقًا لأي شيء بعيدًا عن إرادة الله وقدرته. وعندما تسير الأشياء في حياتها وأهدافها بالطريقة التي فطَرها الله عليها، فإنها تفعشل ذلك “في خضوع واستسلام” لله -باعتبارها مسلِمة. وبتحديد أكثر، فإن الحياة في أكمل صورها لا تكون إلا عندما نعيشها ونحن نؤمن -بعقولنا وليس فقط بالفطرة-بتلك الجنّة الأبدية للحياة في خضوع واستسلام لله، سبحانه وتعالى.
الحياة في أكمل صورها لا تكون إلا عندما نعيشها ونحن نؤمن -بعقولنا وليس فقط بالفطرة-بتلك الجنّة الأبدية للحياة في خضوع واستسلام لله، سبحانه وتعالى.
أقسام الحقيقة
إذن، فنحن نرى في الأمثلة الثلاثة السابقة شكلاً من أشكال تقسيم الحقيقة، فالحقيقة واحدة بالتأكيد ولكنها تتكون من أبعادٍ وعوالِمَ وأشكالِ وجود مختلفة. ومَن يدركون هذا ويعيشون وفقًا له يَجدون السعادة والخير والحق مهما كانت ظروفهم وأحوالهم؛ لأن توجههم دائمًا يكون نحو الحقيقة الأعلى والأسمى. أما من يَغفلون عن ذلك فإنهم يغوصون في مستنقع الحيرة والشهوات الجسدية، ويغرّهم الواقع المحدود والأدنى لعالم الظل. باختصار، هناك صنفان أساسيان من الناس: الأعمى والبصير، ولكي تستقيم الحياة على الأرض ينبغي أن يحكمها ويسودها الصنف الثاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: جيل كارول، محاورات حضارية (حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني)، دار النيل، مصر، 2011، ص69.
ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر