عاشت الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي تحديًا كبيًرا منذ سقوط الخلافة الإسلامية رمز قوتها ووحدتها إلى اليوم. وبالرغم من المخاض العسير الذي عرفته زرافات من هذه الحركات، وبريادة كوكبة خيرة من علماء الأمة وأعلامها، لازال البحث ساريًا عن مشروع للخلاص من القيود التي كبّلت جلّ أطراف الأمة وعاقتها عن النهضة والتقدم نحو المكانة التي تليق بها وبرسالتها من جديد.

        بعد التقميش عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه القيود المانعة لحركة الأمة عن نهضتها، هالني عدد المشاريع الإصلاحية التي غطّت أو تكاد كل مجالات الحياة لكن دون جدوى، فالحال لازال يؤلم العدو قبل الصديق. لذا وجدتني أكرر السؤال القديم الجديد: أين يكمن الخلل؟ هل هو في المشاريع؟ أم في تنزيلها؟ أم في فقه واقعها المعقد؟

يشكل الرجوع إلى منهج السلف عبر العقيدة والتوحيد ثم التشبث بالسنة المشرفة، الركن الرئيس الذي يدور حوله كل إصلاح بالنسبة للحركة السلفية عمومًا.

 أرى أن مشكل الأمة اليوم يشبه سيمفونية حزينة جمعت كل ذلك وغيره. ولمشاركة القارئ الكريم شيئا من انشغالات الباحثين في قضايا النهضة والإصلاح نقوم بوقفة سريعة للحفر في بعض معالم ومداخل هذه المشاريع الإصلاحية، طمعًا في الظفر بشيء يجلي الصورة أمامنا؛ كي نقتفي أثر بعضهم علّنا نسهم في لَمِّ شعث الأمة ونرسم لجيلنا معالم درب جديد.

         المشاريع الدينية: ويمكن الإشارة إليها في كلمات عجلى من خلال توجُهين اثنين. أما الأول فيتمثل في الحركة السلفية. وأما الثاني فنموذجه الحركة الإصلاحية في مطلع القرن الماضي وخاصة حركة الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى.

وبالرجوع إلى التوجه الأول فيعتبر التيار الوهابي أبرز الحركات السلفية وأنشطها. فهو وإن كان يمتاح من فكر ومنهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والذي يعتبر المنطلق العقدي المدخل الأساسي لكل إصلاح. وقد يكون لواقع الشيخ محمد رحمه الله تعالى أثر في تغييب الحديث عن قضايا أخرى خاصة المدني منها، الشيء الذي فرضه الواقع الراهن الذي أسهم في ظهور تيار سلفي جديد مهتم بالسياسة الشرعية عمومًا وما يتمخض عنها من تحديات معاصرة في مجال الديمقراطية والحقوق والحريات وإن كان ذلك بشكل محتشم. إلا أن المدخل العام يبقى رهين المجال العقدي، حيث يشكل الرجوع إلى منهج السلف عبر العقيدة والتوحيد ثم التشبث بالسنة المشرفة، الركن الرئيس الذي يدور حوله كل إصلاح بالنسبة للحركة السلفية عمومًا.

يرى محمد عبده أن الإصلاح يكمن في إنقاذ الشعب أولا من الجهل والأمية وتمكينه من العلم والمعرفة، حينها فقط يمكن الحديث عن القضايا المدنية كالديمقراطية أو الثورة وتغيير النظام الحاكم.

         التوجه الثاني محمد عبده رحمة الله عليه: خلافًا لمعاصريه كان يرى أن الإصلاح يكمن في إنقاذ الشعب أولا من الجهل والأمية وتمكينه من العلم والمعرفة. حينها فقط يمكن الحديث عن القضايا المدنية كالديمقراطية أو الثورة وتغيير النظام الحاكم. أي أن مدخل الإصلاح الحقيقي عند هذا الرجل هو إعداد الأمة للمسؤولية إعدادا كاملا. وقد صرف هذه الرؤية من خلال موقفه من التقليد والتصوف وعلم الكلام معتدا بالعقل متأثرًا بالمناهج الغربية، دون إغفال المجال السياسي والمدني الذي يكون بمثابة نتيجة طبيعية لوعي المجتمع وتكوينه، يقول: “لابد من قرون تبث فيها العلوم، وتهذب العقول، وتذلل الشهوات الخصوصية، وتوسع الأفكار الكلية، حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي العام، وبذلك نصل إلى مستوى ديمقراطي سليم كمستوى أمريكا، وعند ذلك نستحق ما تستحق أمريكا”.  فالمطالبة بالديمقراطية في ظل شعب متخلف يعتبره محمد عبده من أخطاء الكبار التي تزيد الوضع سوءًا وتكلف الأمة كثيرًا. وبهذه الرؤية الإصلاحية العميقة كان الشيخ محمد عبده أوعى من رفاق دربه في الإصلاح بمن فيهم التيار المتنور بزعامة عرابي الذي تزعم الثورة فوقع ما حذّر منه الشيخ محمد عبده، حيث وجد خصوم الأمة الفرصة مواتية ليتدخلوا في شؤون الدولة المصرية ومصيرها ويفعلوا ما عجزوا عن فعله زمن السلم وقبل الثورة.

أزمة الأمة بالنسبة لتيار المعهد العالي للفكر الإسلامي ناجمة عن القطيعة الحاصل بين الدولة والفكر؛ وعليه فإن المدخل المحوري للإصلاح لديهم يكون من باب الفكر وأسلمة المعرفة.

         المشاريع الإصلاحية الفكرية “المعهد العالي للفكر الإسلامي” نموذجًا: لقد نال هذا التوجه احترامًا واهتمامًا كبيرين، أولا من ناحية مستوى وطبيعة الذين يحملونه. وقد شكلوا نخبة من أعلام الأمة الكبار في العصر الراهن بزعامة وريادة الشيخ طه جابر العلواني رحمه الله. إلا أن الطبيعة الأكاديمية العالية والمتخصصة لهذا المشروع الإصلاحي لم تسعفه في ملامسة كافة شرائح المجتمع. ومن مداخل هذا المشروع القضايا الفكرية التي شغلت الجيل المعاصر كأسلمة المعرفة والغزو الثقافي ونظير ذلك من القضايا الجديدة نحو التراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، والتقدم والتخلف، والتنمية، فأزمة الأمة بالنسبة لهذا التيار ناجمة عن القطيعة الحاصل بين الدولة والفكر؛ وبصيغة أوضح بين أصحاب السلطة وأصحاب الفكر. وعليه فإن المدخل المحوري للإصلاح بالنسبة لهذا الفريق يكون من باب الفكر وأسلمة المعرفة. وقد سلك هذا النهج غير هؤلاء بعدد من الدول العربية خاصة بمصر وتونس والمغرب.

        المشاريع الإصلاحية السياسية: مع ازدياد الضغوط الخارجية والتحديات الداخلية على الأمة، بدا أن غياب الديمقراطية وانعدام الحريات، أصبح مطلبًا ملحًّا بالنسبة للشعوب؛ وأن مصالح الأمة أصبحت رهينة هذه المطالب. وبمعنى آخر فإن مدخل الديمقراطية والحريات العامة والحقوق بات مقدمًا على باقي مداخل الإصلاح بما في ذلك الإصلاح الديني. وقد وجدت هذه الدعوة رواجًا كبيرًا وسوقًا واسعة في الوقت الراهن، بل إن عموم الحركات الإصلاحية المعاصرة لا تكاد مشاريعها الإصلاحية تخل من هذه المداخل السياسية ولو بوجه من الوجوه. وبالرغم من سقوط هذا الخيار في عدد من دول العالم الإسلامي إلا أن حركات أخرى في دول أخرى لازالت تعض على هذا الخيار بالنواجد. وأقدر أن ذلك يعد من أخطاء الكبار كما أُثر عن الشيخ محمد عبده رحمه الله؛ وكأن الفشل الذريع الذي لاقته هذه الاختيارات في كل من أفغانستان ولبنان والسودان والجزائر ومصر، لم يشف غليل بعض الحركات في باقي الدول التي تنحوا هذا المنحى.

        المشاريع الإصلاحية الحضارية: رائد هذا التوجه من المشاريع وبدون منازع هو المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله، الذي يرى ويؤكد أن أزمة الأمة الحقيقية هي التخلف الذي شل أركانها وأتى بنيانها من القواعد. وأنه لا خيار ولا سبيل أمامها غير نهضة شاملة. ذلك أن الدورة الحضارية كما يقول بن نبي لا تنفك أركانها تفاعلا بين أهم مكوناتها وهي الإنسان والوقت ثم التراب من جهة، وبين الدين من جهة ثانية. وفي تقديري المتواضع، لو كان لهذا الرجل خلف أو مدرسة حاملة لهذه الرؤية لكان لمشروعه الإصلاحي أثر بالغ في واقع الأمة.

الدورة الحضارية كما يقول مالك بن نبي لا تنفك أركانها تفاعلا بين أهم مكوناتها وهي الإنسان والوقت ثم التراب من جهة، وبين الدين من جهة ثانية.

        المشاريع الإصلاحية الدعوية: وهي توجهات عدة منها: الدعوي الجهادي: لقد كانت الصدمات التي تعرضت لها الأمة في العصر الحديث شديدة، ووفقا للقواعد البشرية المعروفة خاصة في علم الفيزياء؛ فقد كانت ردود الفعل حُيال هذه الصدمات بالقوة نفسها. ومنذ الهجمة الشرسة التي تعرضت لها أفغانستان والبوسنة ومرورًا بالضربة الموجعة التي تلقتها الجزائر، وغيرها من الضربات الرقابية والاستباقية لكل توجه إصلاحي جاد في البلاد الإسلامية؛ نتيجة كل ذلك وغيره من الرقابات التعسفية والظالمة لكل مشروعٍ إصلاحي إسلامي، ظهر توجه قوي في مواطن الظلم سرعان ما أصبح تيارًا عامًّا تلقته بالقبول أجيال الشباب الرافض للتبعية والاستبداد، والمتعطش للحريات والتوّاق للعيش الكريم. في ظل هذا الواقع المر تنبه خصوم الأمة إلى خطورة هذا الانخراط الواسع لشباب الأمة في تيار المناداة بالمطالب الإصلاحية المشروعة بالقوة، لكن وبدهاء كبير استغل خصوم الأمة أخطاء الشباب واندفاعه لتشكيل تيارات سمّوها ثورية حينًا وجهادية أحيانًا، عملت على احتواء جل الطاقات الثائرة في كل بقاع العالم حيث ثم توظيفها بوسائل متطورة وإمكانات هائلة، دعمتها دول ورُصد لها خبراء؛ ليتم الزج بها في كل الأماكن الساخنة من جغرافية الأمة. والنتيجة بدل الإصلاح دمار للأخضر واليابس ودماء لنفوس بريئة وفساد في كل مكان.

الدعوي السلمي: حركة إسلامية تتراوح اهتماماتها بين الفكري والدعوي. هذه التيارات رغم كثرتها وتعدد أسمائها إلا أنها قليلة الأثر، وخفيفة الصدى. لم تتمكن من مجاراة التقلبات والتحديات التي تواجه الأمة اليوم.  ومنها مجموعة من الحركات لازالت تتلمس طريقها في الإصلاح وتتردد في اختيار مداخله؛ بعدد من دول العالم الإسلامي.  (يتبع)

About The Author

أ.د. عبد المجيد أبو شبكة،أستاذ التعليم العالي، ورئيس شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة-المغرب، وعضو مجلس الكلية. منسق ماجستير"الاجتهاد التنزيلي" وعضو فريق دكتوراه: "فكر الإصلاح والتغيير في المغرب والعالم الإسلامي"، مستشار بجهة الدار البيضاء سطات. له عديد من الأعمال العلمية والفكرية منها: كتاب"فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم" وكتاب "ري الظمآن في عد آي القرآن" وكتاب "علم العدد ". نُشر له عدد من المقالات والحوارات في مجموعة من الصحف والمجلات الوطنية والدولية.

Related Posts