قامت صحيفة الأهرام المصرية اليومية من خلال الكاتب الصحفي المعروف محمد أمين المصري بتغطية وقائع مؤتمر “إصلاح عالمنا”، الذي نظَّمته “جمعية الصحفيين والكتاب الدولية” بدعم من الأمم المتحدة، بمدينة نيويورك الأمريكية.
وفيما يلي نصُّ التغطية:
لم يكن مؤتمر «إصلاح عالمنا» الذي نظمته «جمعية الصحفيين والكتاب الدولية» بنيويورك بدعم من الأمم المتحدة مجرد مشاركات وكلمات تُلقى أمام الحاضرين، فالهدف كان نبيلاً ويتركّز حول إنقاذ الإنسانية من عالم الصراع الدامي ووقف أعمال التهجير واللجوء القسري الى الخارج…
انقسم المؤتمر إلى ثلاث جلسات بدأت بـ «ثقافة السلام ومنع الصراع» ثم «السكان وقت المخاطر.. حقوق الإنسان والهجرة واللاجئين»، وأخيرا كانت جلسة «حرية الصحافة من أجل سلام مستدام»، وهي التي تهمنا في موضوعنا هذا حيث ننقل أهم ملاحظات مشاركة الصحفي التركي عبد الحميد بيليجي رئيس تحرير صحيفة «الزمان» التركية، حتى إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انقلابه الحقيقي على حرية الصحافة في بلاده، في حرب شنّها ضد الصحفيين المعارضين من جميع التوجهات السياسية.
حرب بلا هوادة استخدمت فيها قواته الأمنية الهراوات والقنابل المسيلة للدموع والعصى ناهيك عن استخدام أسلحة خاصة لاقتحام البوابات الحديدية والإلكترونية، هذا مقابل أسلحة الصحفيين المعروفة للجميع وهى الورقة والقلم.. ربما يظن البعض أن هذا الانقلاب العنيف ضد حرية الصحافة قد تزامن مع انقلاب أردوغان المزعوم في 16 يوليو 2016 للقضاء على معارضيه ومؤيديه السابقين والانفراد بالسلطة، فهذا الظن ليس في محله، لأن الحرب ضد الصحفيين وصحيفة «الزمان» المستقلة تحديدًا، بدأت يوم الجمعة 4 مارس 2016 في واقعة ربما لم تشهدها تركيا من قبل و خطوة لم يكن يتوقعها أشد المعارضين لأردوغان، حتى إن عبد الحميد بيليجي اعتقد في البداية أن قوات الأمن اقتحمت مقر صحيفته بالخطأ، فهو كان صديقًا شخصيًّا للرئيس التركي وسافر معه على متن طائرته الرئاسية مرات عديدة، ناهيك عن المقابلات الصحفية التي أجراها معه.. بل إن بيليجي كان مؤيدًا لأردوغان في بداية عهده عندما كان ينادى بالديمقراطية والتقارب مع الاتحاد الأوروبي، حتى أصبحت تركيا النموذج الإسلامي المعتدل في العالم، ولطالما طالب زعماء الدول الكبرى بتطبيق هذا النموذج الديمقراطي والاقتصادي الواعد في بقية العالم الإسلامي.
أخلاق الطغاة
اضطر أردوغان بيليجي، إلى الفرار من بلاده هو وعائلته الى الولايات المتحدة بعد رحلة نفسية صعبة للغاية، ولم لا؟ وهو رئيس تحرير أكبر صحيفة في بلاده كانت توزع عشية اقتحامها ومصادرتها وتخريب أرشيفها الضخم، ما يفوق المليون نسخة يوميا في تركيا وحدها بخلاف طبعاتها الدولية المتعددة، في حين هبط توزيعها إلى 5 آلاف بعد اخضاعها للإشراف الحكومي وتعيين رئيس تحرير موال لأردوغان، الذي قام بدوره بالضغط على جميع الصحفيين بها لكي يخضعوا لسياسة التحرير الجديدة، فرفض معظمهم وتم طردهم بلا أي عائد مادي يعينهم على الحياة.
«لقد اشتقت لرائحة الحبر والورق واجتماعات مجلس التحرير ونقاشات الصحفيين ومواعيد الطبع».. لم يبالغ عبد الحميد بيليجي في شرح حالته النفسية وهو يسرد ما جرى له ولـ «الزمان» في يوم الجمعة الحزين، خلال كلمته المؤثرة في الجلسة الثالثة التي سبق أن أشرنا إليها. المثير للدهشة أن بيليجي قد بدأ حياته المهنية كصحفي متابع لحملة أردوغان أثناء ترشُّحه عمدة لمدينة إسطنبول، وهو الذى انضم للصحيفة عام 1993 أي بعد تأسيسها بـ7 سنوات لم يكن رئيس تحرير «الزمان» السابق بعيدا عن فكر أردوغان فهو أحد مؤيدي نظرياته السياسية التي قربت بين العلمانية والدين، وهو ما قرّبه من الغرب الذى بات على قناعة تامة به واعتبر أن وجوده على رأس السلطة في تركيا سيعجّل بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن أردوغان سرعان ما كشف عن وجهه القبيح وفكره التآمري..
يصف بيليجي أردوغان في هذه المرحلة بقوله: «نظر للديمقراطية كقطار يستخدمه لحين وصوله إلى محطته المرغوبة ثم يحرق القطار، فهو إنسان استغلالي خدع الجميع، حتى إنه قد خلع قبل تأسيس حزب الحرية والعدالة عام 2001 عباءة الإسلام السياسي وتركها وراءه، ولهذا ناصرته واعتقدت أنا وجميع صحفيي «الزمان» وغيرنا أنه أصبح سياسيا إصلاحيا ومخلصا في ترك التخلص من إرثه القديم».. ويواصل الصحفي الذي يندم بشدة على وقوفه يوما ما بجانب الطاغية حتى استغلهم جميعا ليصبح «زعيم الفاسدين» في بلاده: «اعتقدت آنذاك أن تركيا ستكون جسرا بين آسيا وأوروبا، بين المسيحيين وبين العالم الإسلامي، بين القيم التقليدية والحداثة، ولقد عايشنا هذه المرحلة بحماس قبل انقلاب الطاغية علينا وعلى أفكاره التي خدعنا بها».
دوام الحال من المحال، أو هكذا يقول المثل الشعبي، وهو أيضا حال الأتراك مع أردوغان، فبعد العصر الذهبي للاقتصاد والنموذج المشرق للغرب والعالم الإسلامي تغير الرئيس التركي، وبعد أن كان يجمع على طاولته الأطياف السياسية كافة ليتداولوا الآراء الرشيدة، تبدّل الحال لينفرد الرئيس بالقرار ويتبنّى شعار يوليوس قيصر (أنا الدولة والدولة أنا) ويصبح الرجل الأكثر قوة وسيطرة في البلاد. ليس هذا فقط، ويواصل عبد الحميد بيليجي: «أصبح أردوغان الذي تحول إلى طاغية وكأننا نعيش في عصر الدول الشمولية صعبًا جدًّا حيال الآراء المعارضة، وتحدث مع كل مالكي الصحف وقنوات الأخبار لطرد كُتّاب الأعمدة الذين يهاجمونه، ونجح في تحقيق مراده في طرد الكثير من معارضيه، إثر ضغوطه اللعينة وتهديداته لمالكي الصحف والقنوات الإخبارية بإغلاق منصاتها الإعلامية وحجب الإعلانات عنهم، بعد تهديد رجال الإعلام بمقاطعتهم فعلا. ليست هذه وسيلة الضغط الوحيدة لإسكات وسائل الإعلام المعارضة، فقد تعمد سحب البطاقات الصحفية من الصحفيين الذين يغطّون أنشطته السياسية، وأولئك الذى يحرجونه بأسئلتهم، كي يرتاح منهم تماما، ولكن الصحف لم ترضخ لضغوطه فاستمرت في فضح فساده رغم تهديداته بإغلاق أي صحيفة تنتقده..كما استخدم سلطة أخرى للضغط على الصحف وهى مضاعفة الضرائب عليها للتأثير عليها ماليا، ثم أمر القضاة التابعين له بإصدار قرارات مصادرة للصحف».
لم يغب عام 1993 عن ذاكرة بيليجي مطلقا، تاريخ انضمامه لـ«الزمان» التي قضى فيها 23 عاما ترقّى خلالها حتى أصبح رئيس تحريرها لتوزع في عهده أكثر من مليون نسخة يوميا، ليهبط هذا الرقم الى 5 آلاف نسخة فقط عندما صادرت الحكومة الصحيفة وعينت رئيسًا جديدًا للتحرير لم يعمل بها من قبل إلى أن تم إغلاقها تماما. لقد حاول الصحفي التركي الذهاب إلى صحيفته صباح اليوم التالي لاقتحامها، إلا أن قوات الأمن منعته من الصعود لمكتبه وأبلغته بأنه مفصول ولم يعد يحق له العمل بها، فأسقط في يده وماذا يفعل حيال هذا المأزق، فهو صحفي ولن يكون غير هذا، حتى تلقّى مكالمات غريبة تضعه بين خيارين: إما السجن أو الهروب فورا من تركيا، ومن حسن حظه كان يحمل تأشيرة لأمريكا فهرب إليها مع أسرته، ولكنه لا يزال حزينا لوضع 50 من أصدقائه في عتمة زنزانات النظام أو قيد الإقامة الجبرية، هذا بخلاف 200 صحفي يقضون عقوبة السجن بلا تُهمٍ لتصبح بلاده أكبر سجن للصحفيين في العالم.
خيارات تركيا
«ليس أمام بلادي سوى خيارين لا ثالث لهما..يتساءل عبد الحميد بيليجي ثم يجيب بنفسه على سؤاله.. فالاستبداد الذى خلقه أردوغان سيحول بلادي إلى دولة دينية على غرار إيران وغيرها وعلينا انتظار اشتداد الأزمة الاقتصادية الخانقة حتى تدفع مؤيديه للتخلص منه..مشكلة تركيا أنها الدولة الاستبدادية الوحيدة في حلف الأطلنطي، فكيف يستقيم هذا الوضع، أي تنتمي للغرب وهى مستبدة في ذات الوقت».
لم تنته بعد حكاية الصحفي التركي المفصول من عمله، فهو ومثلما سرد في المؤتمر الذي نظمته «مؤسسة الصحفيين والكتاب الدولية»، يعتقد أن بلاده أجهضت حرية الصحافة، ويشير إلى نقطتين مهمتين للحفاظ على أي ديمقراطية في العالم، وهما ضرورة حماية حرية الصحافة واستقلال القضاء، كما أن على المواطنين أنفسهم حماية حرية الصحافة وعدم التفريط فيها كحق أصيل للمجتمع الذي يريد أن ينتج فكرًا واقتصادًا حرًا.
انتهت قصة عبد الحميد بيليجي، ولكن تستمر قصة تركيا الحزينة.
رابط التغطية من المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/674584.aspx