شُغِل الفكر الإسلامي منذ بزوغ فجر النهضة الحديثة بمسألة التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث، كما اهتم بمسألة إيصال الإسلام إلى العالم كله، وجاهد من أجل تحقيقِ مكاسبَ للدعوة الإسلامية في البلدان الأوروبية والأمريكية؛ مهد الحضارة الغالبة. ولأجل بلوغ هذه الأهداف رَكِبَ الفكر الإسلامي المعاصر الصّعْبَ والذَّلُولَ، ولم تَخْلُ محاولاتُه تلك من مزالق التأويل البعيد ورفض النصوص الصحيحة أحيانًا. والواقع أن مساهمات أرباب الفكر وقادة الرأي في هذه النواحي لم تكن على قدم المساواة في العالم الإسلامي، بل تفاوتت في ذلك تفاوتَها في الاحتكاك بالحضارة الغربية.
أنصف كولن السنة النبوية في كتبه وعقد بابًا نفيسًا في النور الخالد تحدث فيه عن السنة ودافع عن أحاديث كثيرة ردها حداثيون بدعوى مخالفتها للعقل.
ورغم أن الحركة الإسلامية في البلدان العربية أبلت بلاء حسنًا في محاورة الملحدين وإثبات الحقائق الدينية، إلا أنني أزعم أن جهودها تلك؛ كانت قاصرة بالقياس إلى جهود مفكرين ولدوا في بلدان تبنت العلمانية السافرة، فكان ذلك سببًا لوقوفهم وجهًا لوجه أمام الأسئلة الصعبة والإشكالات الجادة. من هؤلاء المفكرين الأستاذ محمد فتح الله كولن حيث ألَّف كتابًا معنونًا بـ”أسئلة العصر المحيرة” جمعه طلبته في أربعة أجزاء، تُمَثِّلُ جانبًا من أجوبته -في الخطب والدروس والمجالس- على الإشكالات التي يطرحها السائلون، وهم في أغلبهم شباب. وحسب علمي فإنه لم يترجم من تلك الأجزاء إلى العربية سوى كُتَيِّب واحد يحوي 64 سؤالاً، والحق أن هذا القدر من الأسئلة يغري بالاطّلاع على ما لم يُترجم، ويُشعل الفضول نحوه.[1]
أسئلة كبرى
وتلك الأسئلة لا تتعلق بالأسئلة الفلسفية الكبرى فحسب، بل تجد فيها أسئلة تتعلق بأصل الدين صحة أو بطلانًا، مثل ذلك السؤال الذي يقول صاحبه: يقال إن الإنسان عندما لم يستطع إيضاحَ وتفسيرَ بعض الظواهر الطبيعية اخترع فكرة الدين، فهل تَقَدُّمُ المدنيةِ يزيل الحاجة إلى الدين؟
رغم العلمانية الصارمة التي ميزت بيئة الأستاذ فتح الله كولن، إلا أن ذلك لم يلجئه أبدا إلى السقوط في مزالق التأويل البعيد ورفض النصوص الصحيحة.
وأسئلة تتعلق بالْقَدَرِ، مثل: لقد بين القرآن الكريم أن الإرادة الكلية لله تعالى وحده، ومعلوم كذلك أن للإنسان إرادةً جزئية، فإذا كان الأمر هكذا فهل يَتَّبِعُ الإنسان حين يقترف الإثمَ إرادتَه الجزئية أم الإرادة الكلية لله تعالى؟ أو مثل: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، ألا يكون الله تعالى بهذا منحازًا إلى قسم من عباده؟
أو: هناك أشخاص أعطاهم الله كل شيء، الأموال الطائلة والسيارات الفارهة والقصور الفخمة والشرف الرفيع والصِّيت الذائع.. بينما الآخرون يتضورن جوعًا وتصيبهم آلام وبلايا ومصائب وفقر وعلل. فيا ترى هل هؤلاء فاسدون والآخرون يحبهم الله حتى أغدق عليهم ما أغدق، بينما هؤلاء ينسحقون تحت وطأة أعباء الحياة؟
وأسئلة تأثر أصحابها بنظرية النشوء والارتقاء، مثل: كيف تم انتقال الإنسان إلى قارة أمريكا؟ وأسئلة تتعلق بالموازنة بين الإسلام والمنطق العقلي الحديث، مثل: يقال إن الإسلام دين يلائم العقل والمنطق، ولكنه يستند إلى النصوص وهذا يستوجب التسليم والإذعان، فهل توضحون الموضوع لنا؟ أو: لقد انتشر في أيامنا تفسير الإسلام بالعلوم، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟
سِمَةُ المجدّد الوارث لوظيفة النبوة في كل عصر أن يكون قادرًا على الإجابة على الإشكالات التي تؤرِّق عصرَه.
وأسئلة متعلقة بالإيمان بالمغيبات، مثل: كيف يستطيع عزرائيل وحده القيام بقبض أرواح العديدين الذين يموتون في لحظة واحدة؟ وأسئلة متعلقة بالموازنة بين التشريعات الإسلامية ومفاهيم حقوق المرأة من المنظور الغربي، مثل: كيف تُقَيِّمون توصية الرسول صلى الله عليه وسلم بضرب النساء؟
وأسئلة وجدانية أخرى تؤرق القلوب المؤمنة، مثل: عندما نكون منفردين مع أنفسنا يلقي الشيطان في قلوبنا كثيرًا من الشبهات والشكوك، وتصبح إرادتُنا ألعوبةً في يد مشاعرنا، حتى نحس بأن صبرنا ينفد ضد المعاصي، فبماذا توصوننا؟ أو: لا صوم عندي ولا صلاة، ولا دمعة في عيني أو حماسة في قلبي.. بل هناك رياء الظهور والوجود ضمن الدعوة.. ومع ذلك فلا أستطيع ترك هذا الباب.. فماذا أفعل؟
رغم أن “أسئلةَ العصر المحيِّرة” -كما ذكرت- عُنوانُ كتابٍ للأستاذ محمد فتح الله كولن، إلا أن مقصودي أشملُ من هذا العنوان. فالحقيقة أن القارئ يجد في ثنايا كلِّ ما كتبه هذا المفكر الفذّ أجوبةً على أسئلةٍ محيرة، تتعلق بمختلف جوانب الحياة الفكرية والثقافية والنفسية والسياسية والاقتصادية.
المجدد وأسئلة الواقع
وتلك سِمَةُ المجدّد الوارث لوظيفة النبوة في كل عصر؛ أن يكون قادرًا على الإجابة على الإشكالات التي تؤرِّق عصرَه، فبذلك تظهر الحجة ويثبت التكليف، “والأرضُ لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمةُ الشريفة لا بد لها من سالكٍ إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله” كما قال ابن دقيق العيد.. “ولو خلا زمانٌ من مثل هذا القائم بالحجة لزال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة”.
يجد القارئ في ثنايا كلِّ ما كتبه هذا المفكر الفذّ أجوبةً على أسئلةٍ محيرة، تتعلق بمختلف جوانب الحياة الفكرية والثقافية والنفسية والسياسية والاقتصادية.
نشأت المدرسة العقلية في الفكر الإسلامي الحديث إثر الاحتكاك العنيف بالحضارة الغربية عقب حملة نابليون. وقد تميزت هذه المدرسة بجملة مميزات، كان للانبهار والصدمة الحضارية أبلغُ الأثر فيها. ومن أهم تلك المميزات الإسرافُ في تأويل النصوص الشرعية، ورفضُ ما يستعصي على التأويل منها، ورَدُّ السنة النبوية كليًّا أو جزئيًّا بدعوى مخالفتِها لظاهر القرآن أحيانًا، أو مخالفتِها للعقل أحيانًا أخرى.
ورغم أن الأستاذ محمد فتح الله كولن عاش في بيئة علمانية متشددة، إلا أنني أستطيع أن أقول -مطمئنًا- إن كل ما كتبه خلا من تلك المآخذ التي تؤخذ على المدرسة العقلانية الحداثية.
فمما يثير الإعجاب حقًّا هو “قوة الشخصية الحضارية” التي أجاب بها على الأسئلة المذكورة آنفًا. فرغم العلمانية الصارمة التي ميزت بيئته ومجتمعه، إلا أن ذلك لم يُلْجِئْهُ أبدًا إلى السقوط في مزالق التأويل البعيد ورَدِّ النصوص الصحيحة، تلك المزالق التي سقط فيها روّاد النهضة العربية ومن جاءوا بعدهم.
مهمة إحياء الدين بكل مؤسساته مهمة مباركة لا نظير لها في العالم، فهي أمانة الأنبياء تركوها لنا لنقوم بواجبنا إزاءها.
الحداثة ومزالق التأويل
أنصف كولن السنة النبوية في كتبه كثيرًا، وقد عقد بابًا نفيسًا في كتابه “النور الخالد” تحدث فيه عن “السنة النبوية: تقييدها ومكانتها في الشريعة الإسلامية”، طبع في كتاب مستقل نظرًا إلى غزارة فائدته وجلالة قدره، وقد دافع في هذا الكتاب عن كثير من الأحاديث التي ردها مفكرون حداثيون بدعوى مخالفتها للعقل.
ورغم أن الأستاذ لم يتأول ولم يتعسف ولم ينقض إجماعًا في أجوبته؛ فقد وُفِّقَ فيها إلى حَدٍّ بعيد، وكسب الرِّهان في الصراع الفكري الدائر. وأصدق برهان على ذلك التفافُ ملايين الشباب المسلم حوله وحول حركته المباركة.
في الجعبة الكثيرُ مما يمكن قوله عن هذا الرجل، الذي لم يتعرف عليه أكثر قراء العربية بَعْدُ.. رغم أن معرفتَه والقراءةَ له تفتح لصاحبها -من غير شك- آفاقًا علمية وفكرية وتربوية في غاية الأهمية.
أخلصوا لخدمة الإيمان والقرآن، فهي أمانة الأنبياء؛ وإلا تؤخذ منكم وتعطى لمن هم خير منكم.
وفي انتظار أن أكتب مرة أخرى عن هذا الرجل الفريد، أُذَكِّرُ القارئَ بـ”دستوره” الذي يحدوه إلى أن يكتب دائمًا عن الإسلام؛ مُوَجِّهًا ومعرِّفًا ومنافحًا: “إن الوظيفة الملقاة على عاتقنا إنما هي فضل وإحسان إلهي.. أجل فقد وُظِّفْنَا في هذا العهد الذي اختلط فيه الحابل بالنابل بوظيفة مقدسة وغالية. وإن إحياء هذا الدين بكل مؤسساته وبكل كادره وبكل جماعته عمل لا نظير له ولا مثيل له في العالم. وهو من جانب آخر استمرارٌ لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعةٌ لدعوته”.
ثم يستطرد: “إن لم يقم الذين أوصلوا الخدمة الإيمانية والقرآنية إلى هذا المستوى بالمحافظة على المستوى نفسه من الإخلاص والحماس ستؤخذ الأمانة منهم وتودع إلى آخرين، أي سيتم نبذهم ورفضهم”.
[1] لقد ترجمت مؤخرًا ثلاث كتب من “أسئلة العصر المحيرة” وطبعت من قبل دار النيل للطباعة والنشر، الجزء الأول: الرد على شبهات العصر. الجزء الثاني: نحو عقيدة صحيحة. الجزء الثالث: الاستقامة في العمل والدعوة. والجزء الرابع هو في قيد الترجمة. (المحرر)