في الوقت الذي يتغنى فيه العالم بقضايا السلام ويقدمها ملطخة في مشاهد مأساوية، تحقق مدارس الخدمة صورا عالمية لتعايش يشاهده الناس عبر صور رائعة مشرقة لسلام عالمي حقيقي، وتعايش غير مغشوش.

إن لفلسفة الإصلاح في فكر فتح الله كولن خصوصية لا يعلمها إلا من تأملها وأحاط بملابساتها وهي عميقة جدًّا. ذلك لكون الرجل يستحضر البعد السنني في أعمق صوره وتجلياته ولايقبل منه أقل من ذلك. فهو حين يتحدث عن السنن الكونية تجده مستصحبًا لها في أبعادها المادية الدقيقة حتى تخاله من أنصار الفلسفة المادية بشتى فروعها، لكنه سرعان ما يحيلك على عوراتها وسقطاتها لينقلك إلى فضاء السنن الشرعية وكيف أنها تتناغم وتتكامل وتتعانق مع كل سنن الكون. هذه هي الفلسفة “الكولانية” التي جمعت بين الواقعية المطلوبة في حياة الناس، وبين المقاصد السامية للشريعة الإسلامية السمحة التي جاءت لكل الناس. فهو القائل (الاختلاف في الفكر والفهم نتيجة طبيعية لاختلاف التكوين والخلق). وعليه لا غضاضة عند الرجل في وجود المخالفين والمعارضين لفكر أو توجه معين. فهو يعتقد أن الأشخاص الأقزام -من ناحية قيمتهم الذاتية-يحاولون على الدوام إحاطة أنفسهم بافراد صغار النفوس وباهتي الشخصية. وهم يظنون أنهم بهذا قد يبدون أعلى ممّن حولهم. والرجل لا يفتأ يوطن نفسه قائلاً: (تصرُّفنا في أرض الله، يشبه التصرف بالأراضي الأميرية). والذي يعرف حركة الخدمة يلاحظ بجلاء دعوتها القوية إلى الابتعاد عن مواطن الخلاف وتجنب كل ما يفضي إليه، إيمانًا بفلسفة ” فتح الله كولن” (إن لم نستطع الاتفاق فعلى الأقل لنتجنب الوقوع في الخلاف، أو دعونا لا نضخم خلافاتنا).  إلا أن أكبر هم يشغل فتح الله كولن، والذي يؤثث كل أفكاره وأعماله هو مراعاة رضا الله، أما ما دون ذلك فيأتي تبعًا، بل قد أتجرأ لأقول بأنه حينما يقوم بما يجب، فلا يهتم بالنتائج بعدها، اعتقادًا منه أن الانشغال بالنتائج قد يعد تدخلاً في أمر صاحب الشأن الأول وهو الله تعالى، وهو أمر يدخل صاحبه في دائرة الآثام، وأن الشعور باللامبالاة تجاه الإثم، بالنسبة لفتح الله كولن هو أكبر إثم.

هذه هي الفلسفة التي تؤطر كل مشاريع حركة الخدمة، إذا اعتبرنا أن “فتح الله كولن” هو ملهم الحركة ومنظرها. فالرجل حينما يتكلم عن الخطط و المشاريع، يردد دائمًا أن الكبير ليس من ينجز الأعمال الكبيرة ويضع الخطط الكبيرة. بل هو الذي يهدف إلى نيل الرضا الإلهي ويكون مظهراً لأن يقول له الله تعالى: إنني راضٍ عنك”.

الذي يعرف الخدمة يلاحظ بجلاء دعوتها القوية للابتعاد عن مواطن الخلاف وتجنب كل ما يفضي إليه، إيمانا بفلسفة كولن (إن لم نستطع الاتفاق فعلى الأقل لنتجنب الوقوع في الخلاف، أو دعونا لا نضخم خلافاتنا). 

بناء على كل ما سلف فإننا حين نقلب وجهتنا شطر المشاريع التي قدمتها حركة الخدمة وما تزال، سنلحظ بما لا يدع مجالا للشك علامات لتلكم الفلسفة وبصماتها بادية للعيان، متواجدة في كل المجالات والأركان؛ بدءًا من المشاريع المتعلقة بمجال التعبد كالمساجد ومرورًا بتلك التي شُيّدت للعلم كالمدارس والجامعات، أم منارات الثقافة والفكر، أو محارب المال والأعمال. جميعها وعلى اختلاف مجالاتها تحكمها رؤية واحدة موحدة رضعتها من مشكاة فلسفة فتح الله كولن.

إن الحديث عن المشروع الإصلاحي عند حركة الخدمة كما أسلفت القول لا يستقيم إلا بالحديث عن منظومة الإصلاح عند حركة الخدمة؛ وهذا نظرًا لتعدد مجالات المشاريع وتداخلها وتكاملها وتشعبها. وعملاً بالسنن فقد حرص الرجل على ألا يكون مشروعه واحدًا ولا اهتمامه يتيمًا انطلاقا من قولته (إن كانت لديك بيضات وفراخ كثيرة فلا تضع جميعها في سلّة واحدة). ولعل هذا الرجل لم ينس ما عاشه أضرابه من المصلحين من معاناة وظلم، وأن الاعتبار بالسنن أخذ منه مأخذًا؛ ليحتاط فيما يقوم به وما يبنيه من صرح إصلاحي يحتاج من الحيطة والحذر ما يبعده عن كيد الخصوم وطيش المنافسين. لكنه وفي الوقت ذاته نجده حريصًا على جودة المشاريع ومتانة منتوجها. إذ يقول (ثدي واحد يدر اللبن أفضل من مئة من الأغنام الميتة).

جمعت الفلسفة “الكولانية” بين الواقعية المطلوبة في حياة الناس، وبين المقاصد السامية للشريعة الإسلامية السمحة التي جاءت لكل الناس. فهو القائل (الاختلاف في الفكر والفهم نتيجة طبيعية لاختلاف التكوين والخلق).

أما في مجال المشاريع العلمية والتعليمية فإن حركة الخدمة أبهرت العالم بمنتوجها الرائع الذي سوّقته بطرق راقية إلى كل بقاع العالم؛ حتى سموها “جزر السلام”. ففي الوقت الذي يتغنى فيه العالم بقضايا السلام ويقدمها ملطخة في مشاهد مأساوية لم تسلم منها قارة في العالم، تحقق مدارس الخدمة وفي صمت صارخ، صورا عالمية لتعايش عاشه الناس حقيقة، وتذوقوه شعورا تغنو به في محافل محلية ووطنية، يشاهده الناس عبر صور رائعة مشرقة لسلام عالمي حقيقي، وتعايش غير مغشوش عبر عنه كثير من الذين تعبوا في البحث عنه فوجدوه في محاريب مدارس الخدمة.

الكبير عند كولن ليس من ينجز الأعمال الكبيرة ويضع الخطط الكبيرة. بل هو الذي يهدف إلى نيل الرضا الإلهي ويكون مظهرًا لأن يقول له الله تعالى: إنني راضٍ عنك”.

لكنا حين نتأمل فلسفة الخدمة في هذا المجال، لا شك أننا سنندهش لموافقة القول العمل ومسابقة الحركة للفكر في ذلك. يقول فتح الله كولن: (تشبه المدارس في مختلف مستوياتها. الجوامع أبنية سماوية يجري فيها الذكر والفكر بصورة حيوية بجانب أداء مراسيم العبودية.)

إن المشاريع العلمية والتعليمية التي تسعى المدارس إلى تحقيقها لا تقوم إلا على أسس ذهبية تراها جلية في المشاريع المدرسية الكولانية وهي:(العل والحلم والعبادة). ذلك لكون قضية النتائج والآثار من كل علم أمر مقصود لذاته مثل العمل، والعلم مثل الإيمان إن لم يُتبع بالعمل فمصيره الذبول.  (يتبع)

 

 

 

 

About The Author

أ.د. عبد المجيد أبو شبكة،أستاذ التعليم العالي، ورئيس شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة-المغرب، وعضو مجلس الكلية. منسق ماجستير"الاجتهاد التنزيلي" وعضو فريق دكتوراه: "فكر الإصلاح والتغيير في المغرب والعالم الإسلامي"، مستشار بجهة الدار البيضاء سطات. له عديد من الأعمال العلمية والفكرية منها: كتاب"فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم" وكتاب "ري الظمآن في عد آي القرآن" وكتاب "علم العدد ". نُشر له عدد من المقالات والحوارات في مجموعة من الصحف والمجلات الوطنية والدولية.

Related Posts