يولي كولن الموسيقى أهمية خاصة؛ ويلفت النظر إلى أن الموسيقى انتشرت ولاقت رواجًا كبيرًا لا سيما في مجتمعات يومنا الحاضر، وينوّهُ بأن “هذه الساحة التي اندفع إليها المجتمع وانخرط فيها” يجب ألا تُتْرَك مُطلَقة العنان دون مراقبة، ويرى ضرورة إبداع أعمال تحمل في طيَّاتها رسالة ومعنى يسمو بالإنسان إلى القيم النبيلة بما في لُبِّها من أحاسيس وأفكار، وتهديه إلى طُرق الكمالات، وتمنحه الشوقَ والشغَفَ في تلك الطُّرُق، ثم تُوضعُ لها الألحانُ المناسبة، كما يقول أيضًا:

“إنْ كان الأثرُ أو العمل الموسيقي الذي تستمعون إليه يوجِّهُكم إلى القرآن، ويُثيرُ فيكم الشوقَ والرغبةَ في الوصول إلى الله، ويحرقُ صدوركم بتأثيره فيدفعكم إلى السجود لله، ويُثير اهتمامكم بِقِيَمكم الوطنية والدينية، ويهمسُ إليكم بعاطفيَّتكم، ولا يتردّى في فخِّ التصوير السيئِّ والباطل والأمور المستَهْجَنة؛ فهذا الأثر في غاية الروعةِ والجمال حقًّا، أما الأعمال التي تحوي الغيبة بداخلها، وتُصوِّر الفاحشة في مشاهدها، وتثير الغرائز الشهوانية، وتُجيِّشُ مشاعر اليأس والإحباط والقنوط؛ فيستحيل علينا أن نقول إنه: “لا حرج في سماعها”[1].

تمنح الموسيقى للروح نزاهةً ولُطفًا وظرفًا بكل معنى الكلمة، باستثناء ما يعبّر عن الأحاسيس الفظَّةِ المحرومة من رِقَّة الروح

القرآن والانسجام الموسيقي

يُشير كولن إلى أن القرآن الكريم يزْخر بتناغم وانسجام موسيقيٍّ خالد، فيقول:

“إن الأهم عند قراءته وتلاوته هو القدرة على إعطاء كل كلمة تردُ فيه درجة الصوت التي تتطلَّبها بشكل مناسب لموضعها انطلاقًا من المحتوى”.

وكمثال على هذا فإن القرآن الكريم حينما يتحدث عن المنكرين المغرورين فإنه يقدم للأنظار بكلماته وعباراته إنسانًا متكبرًا، معجبًا بنفسه يتباهى ويتبختر متحزلقًا متغطرسًا، ويؤكد على أن قدرة أسلوب القراءة المتَّبع عند تلاوة الآيات الكريمة –قدرته- على إبراز هذا المحتوى أساسٌ مهمٌّ، ويَربط تقييمه هذا بقوله: “يستحيل القول إن القرآن الكريم يُتلى بمراعاة هذه الأُطُرِ في عصرنا الراهن، فتلاوته كما ينبغي، ودون هضم حق المحتوى إلى جانب تحقيق درجة الصوت والنغمة المناسبة قليلة جدًّا، بل هي نادرةٌ إن لم تكن قد انعدمت، لا سيما الإحساس الصادق وإخلاص القلب والجوارح أثناء التلاوة فهو من أندر النوادر اليوم”[2].

يرى كولن ضرورة إبداع أعمال موسيقية تحمل في طيَّاتها رسالة ومعنى يسمو بالإنسان إلى القيم النبيلة بما في لُبِّها من أحاسيس وأفكار، وتهديه إلى طُرق الكمالات.

موسيقى الروح لا اللحن

إن فتح الله كولن إذ يقول:

“تمنح الموسيقى للروح نزاهةً ولُطفًا وظرفًا بكل معنى الكلمة، باستثناء ما يعبّر عن الأحاسيس الفظَّةِ المحرومة من رِقَّة الروح، غير أن القدرة على الوصول إلى هذه النتيجة مرتبطة بالتوجُّه إلى الموسيقى التي تَهَبُ الحياة الحقيقية الروح وبمخالطة عازفي الموسيقى الحقيقيين والتوجّهِ إلى الروح والمعنى أكثر من التوجُّه إلى الكلمة واللحن”.

ويشير إلى أن التكايا والزوايا التي تتربى فيها النفوس، وتُصْقل الإنسان بالأخلاق والشرف وكل أنواع الجمال الروحي هي مصدر هذا؛ إلا أن الفن الموسيقيَّ خَسر مصدرًا مهما من مصادره حين ابتعدت هذه المؤسسات الروحية عن وظائفها الحقيقية وصارت مأوى للمساكين.   

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) فتح الله كولن، سلسلة الفصول 1/175 -176.

([2] ) فتح الله كولن، سلسلة الفصول، 3/177.

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطياعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015، صـ331/ 332/ 333.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.