تعدُّ قضية هوية حركة الخدمة من الموضوعات التي تحتل جانبًا كبيرًا من اهتمامات الباحثين والدارسين في شأن حركة الخدمة والأستاذ فتح الله كولن، حتى لا تكاد تخلو دراسة تتناول حركة الخدمة من وقفات تعريفية تتعلق بهوية حركة الخدمة ومؤطرها الأستاذ فتح الله كولن.
الطُّرق الصوفية
لا تكاد تخلو طريقة من الطرق الصوفية من وجود شيخ للطريقة يقوم بتعيين من يخلفه، ومن ثمَّ وجود تراتبية ما، وبالتالي عند الحديث عن أي طريقة من الطرق الصوفية المعروفة فسنجد أنفسنا أمام سلسلة من المشايخ تنتهي إلى شيخٍ مؤسسٍ للطريقة، وتوجد لديهم كذلك أوراد وأذكارٌ خاصة بهم يرددونها بإذن شيخهم، أضف إلى ذلك تمييز الطريقة نفسها بنوع من العبادة والتربية واللباس والبيارق والألوان المختلفة عن غيرها، فعلى سبيل المثال يتميز الرفاعية باللون الأسود والقادرية باللون الأخضر والأحمدية باللون الأحمر، أما البرهانية فإنها لا تتميز بلون واحد كسائر الطرق بل تتميز بثلاث ألوان: الأبيض الذي تميز به إبراهيم الدسوقي، والأصفر الذي تميز به الإمام أبو الحسن الشاذلي ومنحه لابن أخته إبراهيم الدسوقي، والأخضر وهو كناية عن شرف الانتساب لبني هاشم.
قد يبدو خطاب كولن وسلوك محبيه ميّالاً إلى حياة الزهد، والمطالع لكتبه يجد فيها النفس الصوفي، والكثير من الحديث عن التصوف، لكنه في ذات الوقت حريص ألا يجعل من حركة الخدمة جماعة بالمعنى المعروف.
كولن لا يدّعي الولاية الصوفية
إن حركة الخدمة ومن خلال تلك الزاوية التي أشرنا إليه سابقًا تجعلنا نصل إلى حد الجزم بأنها “أبعد ما تكون عن الطريقة الصوفية التي تستوجب شيخًا وطريقة ومريدين وحلقات للذكر.. والأستاذ كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية، فهو –وكما كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي-حريص على ربط الناس بروح الفكر. فقد ربط الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الناس بالقرآن الكريم من خلال رسائل النور، ووجه اهتمام الناس ومحبّتهم إلى رسائل النور وليس إلى شخصه، وحتى عندما مات قُدّر لقبره ألا يُعرف مكانه إلى اليوم. والأمر نفسه يسير عليه الأستاذ فتح الله كولن، فهو حريص على أن يربط مُحبِّيه وعموم أفراد المجتمع التركي، وعموم أفراد المجتمع الإنساني بالقيم النبيلة القائمة على البذل والعطاء وعلى المحبة والخدمة”([1]).
كما أن علاقة الاحترام والتقدير المتبادلة بين الأستاذ كولن ومحبيه، لم تقم على أساس علاقة المريد بشيخه، بل لقد احترموه وقدروه لعلمه ولأنه رجل صدق بذل حياته من أجل أن يؤسس عالمًا واسعًا يسوده التسامح والتعايش السلمي والارتباط بالله، وسعى بكل طاقاته من أجل نبذ الخلافات والصراعات بين بني البشر؛ ولذلك كانت حركة الخدمة بعيدة عن جو التكية وتقاليدها.
لم تُميِّز الخدمة نفسها منذ أُنشئت بأسلوب معين في العبادة ولا في الملبس، بل لقد ظل الأستاذ كولن يُلحّ على ضرورة أن يبقى فرسان الخدمة أفرادًا من المجتمع.
أبناء الخدمة جزء من المجتمع
لم تُميِّز الخدمة نفسها منذ أُنشئت بأسلوب معين في العبادة ولا في الملبس، بل لقد ظل الأستاذ كولن يُلحّ على ضرورة أن يبقى فرسان الخدمة أفرادًا من المجتمع، وألا يكونوا بمعزل عن المجتمع الذي ينتمون إليه، وألا يقطعوا علاقتهم بأفراد المجتمع ومؤسساته، بل هم جزء منه يسعون لإصلاحه وتغييره دون أن يتكلموا عن الإصلاح.
الخدمة أبعد ما تكون عن الطريقة الصوفية التي تستوجب شيخًا وطريقة ومريدين وحلقات للذكر.. والأستاذ كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية.
أوجه التشابه
قد يبدو خطاب الأستاذ كولن وسلوك محبيه ميالاً إلى نوع من حياة الزهد، كما أن المطالع لكتبه يجد فيها النفس الصوفي، بل والكثير من الحديث عن التصوف، لكنه في ذات الوقت كان حريصًا على ألا يجعل من حركة الخدمة جماعة بالمعنى المعروف، يقول الأستاذ أنس أركنه: “مع وجود بعض أوجه التشابه بين الآليات الرئيسية لحركة فتح الله كولن والطرق الصوفية التقليدية في استعمال بعض المفاهيم المتعلقة بالتربية الروحية والحياة القلبية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طرز التثقيف، وفي منهجية سلوكيات الحركة. إن حركة فتح الله كولن حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم التصوفية: الفكرية منها والعملية، مثل التواضع والتضحية والإخلاص، ونذر النفس للخدمة، والتوجه نحو الحق تعالى، والعيش لإسعاد الآخرين، وتقديم الخدمات دون مقابل، والتوجه نحو الحياة الروحية المعنوية والقلبية، ولكنها لا تجعل الإنسان يتقوقع على نفسه، بل يتوجه إلى الآخرين وإلى المجتمع أيضًا”([2]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ251.
([2] ) محمد أنس أركنه، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، صـ49، 50.