العقل الإصلاحي ينشط في ظل الأزمة، بل إن تاريخ الفكر الإنساني منذ القديم وإلى الآن تاريخ بحث عن الأجوبة الوجودية لأزمات الإنسان وواقعه. وتاريخ الفكر الإنساني هو كذلك تبادل للتأثير من جهة كون الفكر الإنساني ملكا للإنسانية كلها يحق للإنسانية أفرادا وجماعات الاستفادة منه وتبني كل أو بعض معطياته.
كولن يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد. فالأصل ألا يتم اعتبار العصر والماضي حقبتين أو مرحلتين منفصلتين متنافرتين.
مطلب التغيير
رغبة التغيير والإصلاح كانت وما تزال إحساسا يسكن كل مكونات المجتمعات، كما أشرنا سابقا، لكن الإشكال يكمن في المنهج والكيف. ولهذا فإن لكل فترة دعوتها الخاصة للإصلاح، ولكل مجتمع أسلوبه في بلورة أجوبته على أسئلة الواقع، ورؤيته الخاصة لهذا الإصلاح، بل إن طبيعة الأجوبة مرآة تنعكس عليها مختلف التيارات والخلفيات والأفكار والمذاهب التي تصب في النهاية في خانة البحث عن أجوبة لأسئلة الواقع الوجودية.
إن موقف الأستاذ فتح الله من التراث والحداثة موقف وسط بين الأخذ من التراث وبين المحافظة على روح العصر. فهو يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد. فالأصل ألا يتم اعتبار العصر والماضي حقبتين أو مرحلتين منفصلتين متنافرتين، إذ يقول:
“ونلفت نظرنا إلى خطأ وقعْنا فيه كأمّة دائما، وهو أننا بدلا من جعل القديم أساسا متينا ليقام عليه الجديد، وتطوير القديم بمعطيات الجديد، فصلْناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقيقتين منفصلتين؛ فأحيانا استعدينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما، فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس؛ فإما قلنا: “الجديد يُشَمّ عطرُه ثم يُرمَى في النفايات، والقديم يفوح كالمسك والعنبر كلما رججته يتضوع”، فأفرطنا في “واردات” حقبة من الزمان.. أو قلنا: “نفع في مكتسبات عتيقة لزمان ولى، الخير في العالم الزاهي للجديد”، وأهملنا تماما ذلك الجانب للزمان فأغفلنا مفهوم “الزمان الذاتي”، وتغافلنا عن البعد العالمي الكوني”.
إن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبل أو بعد، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. من الأنسب أن نسميه بـ”فوق الزمان”.
بيئة التجديد
وهذه الإشارة في حد ذاتها هي التي تحمل روح الدعوة إلى ضرورة التجديد، بل يذهب إلى حد لزومية إعداد بيئة طيبة لزمان ثقافي جديد، يستطيع تطوير حياتنا الفكرية، بتفسير ثقافتنا تفسيرا معمقا، وتقويمها التقويم الذي تستحقه، لكن مع ضرورة النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل باعتباره بوتقة واحدة لا يمكن فصل أجزائها بعضها عن بعض. ولا ينبغي في هذا الإطار أن نفدي قيم الماضي والحاضر والمستقبل بعضها ببعض، وبعبارة أخرى يتوجب عدم جعلها تناقض بعضها بعضًا أو يعادي بعضها بعضا. وتعليل ذلك هو “أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبل أو بعد، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ”فوق الزمان””.
فثقافتنا التي هي عنصر داخل في أصل طبعنا، والذي امتزج مع الروح، ينبغي النظر إليه نظرة متعالية بعيدا عن مقاييس الزمن التي تقتضي وجود بداية ووجود نهاية. ولكي تستطيع هذه الذات التفاعل الأنسب والملائم مع هذه عناصر الثقافية ينبغي أن تكون مستقلة بذاتها، بل إن ديمومتها بذاتها منوطة كذلك باستقلالها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: د. محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث، قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، ص: ١٧٤-١٧٦، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٣، الطبعة الأولى، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.