لا شكّ أن المؤثرين في مجرى الحياة هم من الأذكياء جدًّا، الذكاء الذي يقترب من العبقرية، وفتح الله كولن كان له من هذا الذكاء نصيب وافر.
لقد كان جوهرة نادرة، لكن ولادته في أسرة امتلكت قدرًا كبيرًا من التديّن الإيجابي، صقل هذه الجوهرة وزادها تألّقًا ولمعانا؛ كما قال ﷺ: “فأبَوَاه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه”!
قرأ كولن المؤلفات المترجمة من اللغات الغربية، ومن خلالها انفتح على الثقافة الغربية وعلوم العصر الحديث، فقرأ فلاسفة الغرب ومفكريه، واطّلع على علومه الطبيعية.
شخصية كولن الذاتية
ورغم الدور الكبير الذي لعبته الأسرة في تزكية هذا الطفل العملاق، إلا أن شخصيته الذاتية لعبت دورًا أكبر في التزكّي والعروج نحو كمالات الشخصية الفاعلة؛ فقد انخرط في التعليم الديني التقليدي، ولم تسمح له الأوضاع بالالتحاق بالتعليم النظامي، لكنه نجح في بناء جامعة ذاتية لنفسه، جامعة كان أساتذتها هم عمالقة الأمّة في كل الأزمان، حيث قرأ الحديث والسيرة والتاريخ والفلسفة وعلم الكلام والفقه وأصوله، ودرس العربية حتى أتقنها، وكان من مدرّسيه في هذه الجامعة عمالقة الأمة: أبو حامد الغزالي، وابن تيمية، والشاطبي، وأئمّة المذاهب الأربعة، وجلال الدين الرومي؛ ومن المعاصرين: النورسي، وحسن البنّا، وسيّد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومحمد الغزالي، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم.
علماء أَثْروا مسيرته
وفي كل الأحوال كان يأخذ ويردّ، يتفق ويختلف، فقد مارس القراءة النقدية بأفضل مستوياتها، ويبدو من كتبه أن أقرب العلماء إليه كانا عالمين تُركيين، الأول قديم وهو: جلال الدين الرومي، والآخر حديث وهو: بديع الزمان النورسي. فهو شديد الوَلَه بهما والثناء عليهما، كثير الاستشهاد بأقوالهما.
الغاية مِن تَعلُّمه العربية والفارسية
وعندما تعَلّم العربية والفارسية إنما أراد أن يتعلم بها العلوم النافعة، فالقرآن لا يمكن الخوض في بحاره بدون قوارب العربية، وكذلك كثير من علوم الإسلام، إضافة إلى السنة النبوية. أما الفارسية فهي ربما كانت أوسع أوعية العلوم الإسلامية بعد اللغة العربية، إذ أُلّفت بها الكثير من الكنوز المعرفية، ولذلك هي محلّ اهتمام وسط النخب المتديّنة في إيران وتركيا وشبه القارة الهندية.
رغم الدور الكبير الذي لعبته الأسرة في تزكية هذا الطفل العملاق، إلا أن شخصية كولن الذاتية لعبت دورًا أكبر في التزكّي والعروج نحو كمالات الشخصية الفاعلة.
الانفتاح على الثقافة الغربية
ولأن الرجل شديد النهم للعلم، شديد الانفتاح على الآخر ومعرفة ما عنده، وخاصة بعد أن وصل إلى ذروة القراءة النقدية، فقد قرأ المؤلفات المترجمة من اللغات الغربية، ومن خلالها انفتح على الثقافة الغربية وعلوم العصر الحديث، حيث قرأ فلاسفة الغرب ومفكريه، واطّلع على علومه الطبيعية.
إرادة الفكر وإدارة العقل
هذا الذكاء المتّقد، وهذه الأسرة المتديّنة، وهذه البيئة التركية بخصائصها المتفوّقة وظروفها المميّزة، كلها تضافرت على صناعة سفينة شخصيته التي أوصلته إلى شاطئ الوسطية وبَرِّ التوازن، ولاسيما فيما يرتبط بالعلاقة بين العقل والقلب، فقد امتلك “إرادة الفكر” و ”إدارة الفعل” عبر قلب شديد اليقظة والحساسية، لتثبت الأيام أن الرجل قد دلف إلى بيت الحكمة، وهي الهبة الربّانية الأغلى والمشروطة بالمراقبة العقلية والمجاهدة القلبية، حتى صار بالفعل حكيم الفكر الإسلامي المعاصر:﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(البَقَرَة:269).
يبدو من كتب كولن أن أقرب العلماء إليه كانا عالمين تُركيين، الأول قديم وهو: جلال الدين الرومي، والآخر حديث وهو: بديع الزمان النورسي. فهو شديد الوَلَه بهما والثناء عليهما، كثير الاستشهاد بأقوالهما.
هذه الحكمة هي التي مكَّنته من الحضور في الزمان والمكان المناسبين، حاملاً الأوّلويات والآليات المناسبة، حيث أسَّس تيّارًا عريضًا في تركيا، فرض “معناه” أن يكون “عنوانه”: “تيّار الخدمة”، ليصير كولن عبر هذا التيّار “فتح الله” وهبته للفكر الإسلامي في تركيا، وفي شتّى أصقاع العالم الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فؤاد البنا، عبقرية فتح الله كولن بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ2، 2013م، صـ94/ 95.
ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.