#في_ صحبة_ النور_ الخالد
تخيل أن يقول عنك النبي ﷺ هذا الكلام، لو أقسمتَ على الله لأبرَّك، لو أقسمت على الله في أمر صعب التحقق لحقق الله تعالى قسمه لك، كيف يكون شعورك وأنت تسمع هذا الكلام من فم من لا ينطق عن الهوى ﷺ ؟ لقد كان بطلنا واحدًا من هؤلاء الذين وصفهم الحبيب المصطفى ﷺ بهذا الوصف، إنه سيدنا البراء بن مالك رضي الله عنه أخو الصحابي الجليل خادم رسول الله ﷺ أنس بن مالك رضي الله عنه. ويبدو أنها كانت كلها عائلة مباركة، فمن قبل تحدثنا عن أمجاد وبطولات عمه أنس بن النضر رضي الله عنه، وفي هذا المقال نتناول بعضًا من سيرة أخيه العطرة.
كان بطلنا شجاعًا كراراً لا يهاب الموت في سبيل الله تعالى، يُضرب به المثلُ في شجاعته، وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أمراء جيشه: “لا تستعملوا البراء على الجيش، فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم” وذلك لما كان يعلمه عنه من شجاعة خشي معها الفاروق أن يهلك الجيش الذي يتولى إمارته.
يروي أخوه أنس رضي الله عنه منقبته عن رسول الله رضي الله عنه حيث يقول: “كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
يعرض الأستاذ فتح الله كولن في النور الخالد هذا الحديث بالشرح قائلا: “فقد ترى البعض من الفقراء الصابرين… شُعثًا غُبرًا… لا يوقرهم الناس في المجالس… وتغلق في وجوههم الأبواب… هؤلاء يصفهم الرسول ﷺ فيقول: “لو أقسموا على اللّٰه لأبرّهم”، كان البراء بن مالك من هؤلاء. وكان المسلمون إذا وقعوا في ضيق في أي معركة، ذهبوا إلى البراء وطلبوا منه أن يقسم بأن ينتصروا، فيقسم فينتصر المسلمون”.
وفي موضع آخر يتحدث فيه الأستاذ كولن عن صدق نبينا ﷺ في إخباره بالفتوحات التي ستحدث في المستقبل عندما كان يعاني ما يعانيه هو وصحابته رضوان الله عليهم في حصار الخندق: “ولم تمض إلا بضع سنين حتى فتح الله تعالى بسيوف سعد بن أبي وقّاص وخالد بن الوليد وغيرهما من كبار القوّاد كل هذه البلدان والممالك. وتم تسليم مفاتيحها إلى الشخصية المعنوية لرسولنا محمد ﷺ وكان هذا دليلاً آخر على صدقه. ولم يكن في الإمكان أصلاً إلا أن يكون هكذا، فلو فرضنا المستحيل ولم يحصل ما وعده رسولنا ﷺ، لحقق اللّٰه تعالى هذا الوعد لكيلا يكذِّب رسوله… كيف لا ورسول اللّٰه ﷺ يصف الصحابي البراء بن مالك ﷺ بأنه «لو أَقْسم على الله لأَبرّه» … وكان الصحابة يقدمونه في الحرب لكي يضمنوا انتصارهم. فهل يعطي الله أحد الصحابة مثل هذه المِيزة ولا يعطيها لرسوله ﷺ ؟ فاللّٰه سبحانه تعالى أراه فتـح هذه البلدان رأي العين، وكان الرسـول ﷺ يخبر عما رآه”. نعم لا يمكن أن يكذِّب الله تعالى وعد رسوله لأصحابه، ولا يمكن أن يكذَّب وصف رسوله لأصحابه.
ثم يتوفى الرسول ﷺ ويرتد كثير من العرب ويأتي “يوم اليمامة” وهي الموقعة التي وقعت بين المسلمين وأتباع مدعي النبوة مسيلمة الكذاب، وتتجلى بطولة رجلنا العظيم في هذا اليوم المشهود، فقد تقدم المسلمون في هذه المعركة بعدما استشهد عددٌ كبير منهم، أكثرهم من حفظة كتاب الله تعالى، تقدموا على عدوهم حتى ألجأوهم إلى داخل حديقة وفيها عدو الله مسيلمة وهنا قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجُحف -التروس من جلود- ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من سورها، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح بابها، ودخل المسلمون الحديقة… ووقع به يومها بضع وثمانون جراحة من بين رمية بسهم وضربة فحمل إلى رحله يداوى” (الاستيعاب لابن عبد البر).
وإذا كانت فتوحات المسلمين قد حققت بشارات الرسول لأصحابه وأكدت بلسان الحال ما أخبر به من لا ينطق عن الهوى، فإن استشهاد بطلنا أكد على صدق وصف النبي ﷺ له؛ ففي معركة “تستر” بعدما بلغ الأمر على المسلمين مبلغه، وبلغت القلوب منهم الحناجر، نادوا على سيدنا البراء بن مالك قائلين له: يَا بَرَاءُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّكَ لَوْ أَقْسَمْتَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّكَ، فَأَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَوْا عَلَى قَنْطَرَةِ السُّوسِ، فَأَوْجَعُوا فِي الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ، لَمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ، وَأَلْحِقْنِي بِنَبِيِّكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا ” (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
نعم لقد كان يقين الصحابة بكلام رسول الله ﷺ لا يقل عن يقين سيدنا البراء في هذا الوصف، ففي هذه المعركة ” تُسْتَر” التي كانت من أصعب المعارك بين المسلمين والفرس، حيث دام الحصار لمدينة تستر قرابة ثمانية عشر شهرًا، يهرع المسلمون إلى البراء ليقسم على الله ويحقق نصر الله، ثم يشتد الأمر عليهم مرة أخرى فيكررون الطلب ويقسم البراء مرة أخرى على الله أن ينصرهم ثم يرجو إلى جانب النصر الشهادة فيمنحه الله الحسنيين معا: النصر والشهادة.
وفي قصة استشهاده يتجلى موقف آخر من مواقف شجاعته الفائقة، إذ يعبر القنطرة ويلمح الهرمزان قائد الفرس من بعيد، فيسرع إليه وأمامه حصون بشرية من أعتى وأشد الفرسان فيقتل منهم عددًا كبيرًا يصل إلى المائة في بعض الروايات حتى يلتقي وجها لوجه مع الهرمزان فيسدد البراء ضربة ويسدد الهرمزان أخرى حتى يخطئ البراء ويصيب الهرمزان فيسقط بطلنا شهيدا في ميدان الجهاد في سبيل الله، وتفتح تستر بعد ذلك استجابة لدعوة هذا البطل العظيم. فرضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا الله بهم على خير حال.