حسب وسائل إعلام تركية، تقوم مؤسسة الشؤون الدينية في الحكومة التركية (ديانت) بجمع معلومات استخبارية حول المواطنين الأتراك في 38 دولة، عبر أئمة مساجد وغيرهم من الموظفين الأتراك التابعين للمؤسسة المذكورة إلى جانب مؤسسات أخرى. وقد برر الإعلام التركي هذا الأمر بالقول إن “الهدف من ذلك هو تتبع مسارات ونشاطات فتح الله كولن”، المتهم بمحاولة انقلاب في يوليو/تموز 2016.
وتفيد مصادر أن “ديانت” طلبت عام 2016 من فروعها في الخارج تقديم المعلومات من قبل أئمة المساجد إلى اجتماع “المجلس الإسلامي الأوراسي” الذي عقد في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته. ووردت تقارير أن تلك “النتائج” جرى تقديمها إلى “لجنة الانقلاب” التابعة لحزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي.
تقارير تؤكد التجسس
وحسب تقارير، تضمنت “النتائج” صورًا للأشخاص الذين جرى “التجسس” عليهم من قبل موظفي المساجد التابعين لصالح “ديانت”. لكن ما أثار المخاوف أكثر، هو أن المعلومات اشتملت على بيانات تفصيلية حول المدارس والشركات والجمعيات والمؤسسات ووسائل الإعلام التي يعمل بها المعارضون الأتراك في الخارج. وكالعادة، ألمح الإعلام التركي إلى أن الاستهداف انصب على المرتبطين بكولن، في محاولة لتبرير هذه الممارسة الخطيرة.
وقد أقرت صحيفة “حريت” التركية بهذا الأمر في تقريرها بالقول: “قالت ديانت إنها جمعت معلومات استخباراتية وأعدت تقارير حول مناصري كولن في ألمانيا (3 تقارير من دوسلدورف وكولونيا وميونيخ)، وألبانيا، وأستراليا (تقريران من ملبورن وسيدني)، والنمسا (تقريران من سالزبورغ وفيينا)، وأذربيجان، وروسيا البيضاء، وبلجيكا، والبوسنة والهرسك، وبلغاريا (تقريران من بلوفديف وصوفيا)، والدنمارك، وإستونيا، وفنلندا، وجورجيا، وهولندا، والمملكة المتحدة، والسويد، وسويسرا، وإيطاليا، واليابان، والجبل الأسود، وكازاخستان، وكينيا، وقيرغيزستان، وكوسوفو، وليتوانيا، ومقدونيا، ومنغوليا، وموريتانيا، ونيجيريا، والنرويج، وبولندا، ورومانيا، والسعودية، وطاجاكستان، وتنزانيا، وتركمانستان، وأوكرانيا”.
فضائح الاتحاد التركي الإسلامي
وفي ألمانيا، تفيد مصادر أن “ديانت” تعتمد بشكل رئيس على منظمة “الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية” من أجل الإشراف على العمل المعلوماتي الخاص بالأئمة الأتراك في المساجد الألمانية. ووفقًا لتقارير، انصبت جهود “ديانت” مؤخرًا على تمويل الأئمة العاملين في مسجد كولونيا المركزي الجديد. لكن ما يثير المخاوف أكثر هو أن “الاتحاد التركي الإسلامي” يعمل كمنظمة جامعة للمساجد في ألمانيا، دون الاضطرار إلى إخفاء تبعيته لمؤسسة “ديانت”، لا سيما بعد إجراء مراسم افتتاح مسجد كولونيا من قبل إردوغان شخصيًا، خلال زيارته الأخيرة إلى برلين.
ومن الجدير ذكره أن “الاتحاد التركي الإسلامي” تعرض لفضائح عدة في ألمانيا، من بينها إعلانه رفض مشاركة الناس في مسيرة لمكافحة الإرهاب في كولونيا، ما تسبب في ردود فعل سلبية لافتة. ولكن ما يثير الجدل على نطاق واسع، هو قيام “الاتحاد” بإصدار تعليمات لأئمة المساجد الأتراك في ألمانيا، تطالبهم بـ”دعوة المصلين إلى الصلاة من أجل نصر عسكري تركي ضد الأكراد في شمالي سوريا”. ومن بين فضائح “الاتحاد” كذلك، تنظيم عرض عسكري يتضمن تسليم الأعلام التركية والبنادق المزيفة إلى “الأطفال الشهداء”، ما يؤكد عمق استغلال “ديانت” لدور العبادة من أجل أغراض سياسية بحتة. وما يثير حفيظة المراقبين هو أن بعض الأئمة أقروا بتعاملاتهم “المعلوماتية” مع شخصيات في الحكومة التركية.
قلق ألماني
أما الحكومة الألمانية، فقد أولت اهتمامًا أكبر لأنشطة منظمة “الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية” العاملة في المدن الألمانية المختلفة، خصوصًا بعد اعتراف بعض الأئمة بهذا التجسس خلال تحقيقات مكثفة أجرتها السلطات الألمانية.
ووفقًا لتقرير ألماني صدر في شباط/فبراير 2017، أوردته إذاعة صوت ألمانيا الدولية، فإن “ديانت، والملحقين الدينيين في القنصلية، والموظفين الأتراك في المؤسسات التابعة لمنظمة الاتحاد التركي الإسلامي الناشطة في ألمانيا، جميعهم ينفذون أوامر سياسية قادمة من أنقرة، مغلفة باسم الدين. ووفقًا للسياسي الألماني فولكر بيكه، فإن “الاتحاد التركي الإسلامي ينفذ خدمات سرية على الأراضي الألمانية”، وهو ما دفعه إلى تقديم شكوى جنائية للقضاء الألماني في ديسمبر/كانون الأول. وأضاف بيكه أن “عمليات جمع المعلومات من خلال المؤسسة التركية لا تقتصر على ألمانيا، بل تتسع في عدد من بلدان العالم، ويتجلى هذا في حقيقة ملاحقة السلطات التركية لأسر الناس المذكورين في نصوص تقارير المؤسسة”.
ونتيجة لممارسات المؤسستين التركيتين، قالت الحكومة الألمانية في يناير/كانون الثاني إنها لن توافق على تمويل مشروع “الاتحاد التركي الإسلامي”، الذي تلقى حوالي 7 ملايين يورو منذ عام 2012 في إطار برامج مكافحة التطرف ومساعدة اللاجئين. وما يؤكد على جدية السلطات الألمانية في تعاملها مع النشاطات التركية على أراضيها، حرصت وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية، والمكتب الاتحادي لحماية الدستور، على مراقبة وتدقيق نشاطات “الاتحاد التركي الإسلامي” قبل أسبوع من وصول إردوغان إلى ألمانيا الشهر المنصرم.
أما السياسي الألماني سيفيم داجديلين، فحذر من خطورة ما يحدث على الأراضي الألمانية، وقال: “على الحكومة أن توقف تعاونها على جميع المستويات مع بؤرة إردوغان القائمة على أراضينا، يمكنكم أن تفحصوا المعاملات المالية التفضيلية الخاصة بها، وستعرفون أنها ليست خيرية”.
في الحقيقة، ألمانيا ليست وحدها من أعربت عن قلقها المتنامي بشأن العمليات التركية داخل وخارج حدودها؛ فقد عرض عضو البرلمان النمساوي، بيتر بيلز، دلائل على أن تركيا متورطة بالتجسس على المواطنين والصحفيين الأتراك في النمسا عبر عشرات المساجد الخاضعة لإشراف منظمة تدعى الاتحاد التركي الإسلامي في النمسا، تحمل اختصار (ATIB)، التي يرأسها الملحق التركي الديني في السفارة التركية في فيينا. وهو ما أكدته كذلك تقارير “فوكس نيوز و”فيزغارد بوست“، اللتين أوردتا وثائق من مصادر تركية رفيعة حول وجود “شبكة تركية عالمية من المخبرين تغطي 4 قارات عبر مؤسسة ديانت”. وهذا بالطبع ما دفع تركيا لإنفاق 100 مليون دولار لبناء مجمع مساجد في ولاية ميريلاند الأمريكية عام 2016 عبر “مركز ديانت الأمريكي”.
زيادة التأثير والنفوذ
من جانبها، سلطت مجلة “غلوبال سيرتش” الكندية الضوء على نشاطات مركز “ديانت” في دول البلقان، عبر مقالة حملت عنوان “الرمزية العثمانية في كوسوفو”، بقلم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نيويورك، ألون بن مئير، والصحفية الألبانية أربانا إكزهارا. وجاء في المقال أن “ديانت” تتغلغل بشكل عميق في دول البلقان، عبر تمويل بناء مساجد ومراكز دينية، جميعها تمارس نشاطات سياسية موالية لإردوغان إلى جانب المسائل الروحانية.
وما يثير الرهبة، وفقًا للكاتبين، هو أن “ديانت” أعلنت خطتها لتمويل بناء مسجدٍ واحد، من بين 800 مسجد آخر في كوسوفو، بكلفة 40 مليون دولار، يسمى “المسجد المركزي”، ما يؤكد على أن هذه المبالغ المنفقة لا تستهدف خدمة الدين بقدر خدمة النفوذ السياسي التركي.
ووفقًا للمعلومات الواردة، فإن المساجد الخاضعة لسيطرة “ديانت” تعرض بشكل منتظم لوحات إعلانية تبرز الطراز العثماني مع الأعلام التركية، إلى جانب عبارات سياسية تتناغم مع أجندة إردوغان. وحسب الكاتبين، فإن وكالة التنمية التركية (TIKA) تنشط في البلقان إلى جانب “ديانت” لضمان سير نشاطات دور العبادة بما يتوافق مع توجهات إردوغان السياسية.
وقد سخر الكاتبان من “تغاضي تركيا عن البطالة والفقر وقلة الاستثمارات الأجنبية في دول البلقان، في الوقت الذي تنفق فيه أموالًا باهظة على بناء مساجد تنشط في ترويج رؤية الرئيس الإسلاموية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: مركز أبحاث “غيتستون إنستيتوت” الأمريكي + مجلة “غلوبال سيرتش” الكندية.
الكاتب: أوزي بولوت