إننا نجد أنفسنا بين الفينة والأخرى ضمن ملايين البشر، غرباء، وفي أوطاننا وبين أهلنا عابري سبيل.. فما بال طريقنا أضحت موحِشة! وما شأن سبيلنا غدت مُقفرة مُجذبة! أأخطأنا السبيل؟ أم تفرَّقت بنا السُبل؟ أنحن مُقْبلون أم مدْبِرون؟ وما بالنا أضعنا قواعد التخاطب فأعجم اللسان وغاض البيان.. مَن أنا؟ ومن نحن؟ ومن أنتم؟ وما الذي يجمع بيننا وبينكم؟ أهو النسب أم المعشر؟ أم القرية والقبيلة؟ أم هو القُطر والمَصر؟ أم هي الطائفة والمذهب؟ أم أنه لم يعُد بيننا جامع إلا شِراك الإنتاج والاستهلاك، وأوثان المنصب والانتخاب، وأوحال المنافع، وقمامات المصالح؟
لا ريب أن اجتماع بني البشر وميلاد تجمُّعات الإنسان ليس منوطًا بتكديس أكوام جماجمَ وهياكل عظمية؛ إذ لا يهِلُّ مجتمع من رحم رُكام لحم وعظم، ولا تُكتب له الحياة بصَفّ أصنام بشرية باردة باهتة لا نفَس فيها ولا روح.. “فالمجتمع الأمة” خاضع لمعايير متجاوزة تحفظ للإنسان إنسانيته، وتمنعه من أن يسيخ في أوحال البهيمية والشيئية، وتحول دون اختزاله إلى “جهاز هضمي متحرك”، ومنظومة جنسية متبلِّدة الإحساس، وسلعة تباع هنا أو هناك في سوق نخاسة “الأفكار” و”الأشخاص” و”الأشياء”.. فما السمة الفارقة إذن بين مجتمع الإنسان “المكرّم” الوارث للأرض، وتجمُّعات النمل والنحل وزُرافات الثيران؟
لا تُقاس الثروة في المجتمعات الإنسانية بما تملكه من غنى في “عالم الأشياء” من موارد وروافد، ولا تتزايل به عن عالم الحيوان، بل يُجَسّ نبض الحياة في المجتمع الإنساني بمدى فتل حبائل “العلاقات الاجتماعية”(1) بين أفراده وحجم اهترائها، ويُعد بذلك مجتمعًا إنسانيًّا حين يعلُو منسوب العلاقات الحية بين أفراده مقارنةً بكتلة علاقاته الميتة.. فكلما نُقِض غزل “العلاقات الاجتماعية الحية” في مجتمع بَني الإنسان ازداد قربًا إلى البهيمية، وكلما ازدادت حبائل علاقاته فتلاً ومتانة اعتلى عرش الإنسانية، وصار “قابلاً للرشد”، و”خلافة الله”، و”وراثة الأرض”.
إنسان لم يكتمل
في حياة البرزخ هذه التي نحياها، برزخِ الفكر الفعل، وحالِ غيبوبة العقل وتبلُّد القلب، أضحى “إنسان العصر” يترنح في أرجوحة التفاؤل في ما يستقبله حينًا، والتشاؤم لما يرى حوله أحيانًا. وتراه مترددًا بين “الرجاء الحذِر” و”الخوف المطلق”، فَعَسُر عليه “فقه المرحلة” التي يعيشها: أهي تندرج ضمن منحدرات “ما بعد الحضارة” وما يستحكم فيها من عاطفة سلبية، وعصبية وغريزة مدمّرة لعمران المعنى؟ أم هي تنضوي ضمن حالة “ما قبل الحضارة” التي يستعيد فيها الإنسان وعيَه بعد غفوته، وذاتية بعد استلابه؛ فيستحث الخُطى في إقامة سلطنة القلوب، وتشييد المعنى، رغم كل ما يحيط به من مهالك ومزالق؟
إن الحالة الذهنية “لإنسان ما بعد الحضارة” تتسم في مظهرها بالمفارقة والتشابك، إلا أنها في جوهرها متماسكة متناسقة؛ وهي أحد صنفين:
إما حالٌ متعطلة متشنجة موغِلة في التشاؤم، تجد لنفسها ما تشحن به حالتها النفسية من مبررات، وتفاصيل مُقلقة، وأمارات مشؤومة هنا وهنالك؛ لتؤيد بذلك نزوعها نحو الاسترخاء والعُطل، لتزداد انسحاقًا في مهاوي “ما بعد الحضارة” كنجم متهاو في ثقب من الثقوب السوداء الحضارية، فيفقد الإنسان الثقة في إمكان الانبعاث بعد الممات، وفقه “الإمكان الحضاري” بعد السبات الطويل، فتُصَم الآذان عن بَحّة “يعقوب الحكيم” وهو يوقد جذوة “الفعل الحضاري” ببث التفاؤل في حُلكة “فقدان المعنى” القاتمة قائلاً: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف:87).
وإما حالٌ ركبت أمواج التفاؤل المطلق، والثقة الساذجة المتجاوزة لأسباب الحضارة؛ فتجد صاحبها تغمره عاطفة جياشة وهو يستعرض “شريحة الزمن” التاريخية الماضية، ليُسَرِّي بها عن نفسه وآلامه وأوجاع وطنه، وفجأة تثقفه هاربًا نحو المستقبل مستنفرًا كل قابلياته الذهنية لملاحقة الأماني ومسابقة سراب الأوهام، متخليًا بذلك عن أعباء الحاضر ومسؤولياته، مغفلاً بأن الأحلام التي لا تمتلك صفة “المعقولية”(2)، و”القابلية للتحقق”، و”التناغم مع المرحلة”، ستغدو -بعد أمَد- كابوسًا يؤرق صاحبه، ويزجُّ به في ركب المتشائمين المشدوهين: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)(الإسراء:37).
رجل ما قبل الحضارة
إنْ صدَق رجل “ما قبل الحضارة” نفسَه، وجدها معوزة لخصائص محورية عِدّة هي الزاد والعُدة في “البناء الحضاري” ووراثة الأرض. فحين ينظر إلى عوالمه الداخلية ورواسبها، يجد أن ألدّ أعدائه يكمن داخله، وأن القيمة المطلقة لطاقته الكامنة غير متناسبة ألبتة مع ما يستقبله من جهد البناء وجهاد الإعمار.. فحين يعرض نفسه على خصائص صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزن نفسه بمعايير “ورثة الأرض”(3) من “الإيمان الكامل”، و”العشق” و”الشوق”، و”الفكر الرياضي” و”الحس الفني المرهف”، فإنه يفقد الثقة في أن زاده يبلّغه المرام ويؤمّن له طريق بناء الحضارة، فتراوده الشكوك وتساوره الوساوس؛ لأنه يجد في نفسه وفي عالمه الداخلي، الرواسب النفسية والاجتماعية التي تؤجل “ميلاد الحضارة” وتؤخر انبلاج الفجر الصادق.
من “رجل القلة” إلى “ولي الحق اللدني”
يمثل “إنسان القلة”(4) محطَّ تفكُّر وتأمُّل في “عالَم المسلمين” أوان الانحطاط؛ إذ يمثل “شريحة حضارية” لحال العجز والتخلُّف التي تسيخ فيه الأمة، ويعَدُّ “إنسان القلة” العيّنة التي نفخت فيها مدرسة عصر الانحطاط بمحاضنها، وزواياها، وشوارعها كلَّ سمومها الزُّعاف من “اللافعالية” إلى “الاسترخاء” و”فقدان الإحساس”. هذا ما يجعل تحوُّل “رجل القلة” -بكل ضعفه وقصوره- إلى “وريث للأرض” و”خليفة لله”، أمرًا متعذرًا من الناحية الحضارية. فكيف يتحول -إذن- “إنسان القلة” إلى لبنة في البناء الحضاري، ومُمهِّدًا لميلاد “الإنسان الكامل” الذي يمتلك خصائص “الوريث الحقيقي للأرض”؟ وهل من سبيل إلى تأثيره في معادَلة الحضارة، ليغدوَ “نقطة انعطاف” من حال “ما بعد الحضارة” إلى “ما قبل الحضارة”؟
إذا نظرنا إلى حالنا، وجدنا أنفسنا فاقدين لمزايا وخصائص مرهفة تجعل منا ذاك “الرجل الكامل”، ونقف في أنفسنا على مكامن القصور وضيق النفَس مما يُسقط عنا صفة الأهلية لمهمة “الاستخلاف” ويزيد في زمن “السبات” و”البرزخ الحضاري” سنوات بلْه سِنونَ، إلا أننا في الوقت نفسه، ورغم قصورنا وفقرنا، نجد في قلوبنا جذوة همّ وأمل في أن يكون غدنا أفضل من يومنا، وشوقًا في أن نسهم في دفع عجلة الحضارة والعودة إلى مهمة الريادة.. ولعل الامتحان العسير الذي يواجه “جيلَنا جيلَ القلّة” هو أن يمتلك خصائص تجعل منه رحمًا طيبة لحضارة وليدة، وجيلاً وارثًا للأرض لم يولد بعدُ. وإن جيلنا إن امتلك تلك الخصائص صار فعليًّا “ولي الحق اللدني”(5).
“وليُّ الحقّ اللدني” هو ممّن لم تكتمل فيه الأهلية “لمهمة الاستخلاف”، ولم تسعفه خصائصه الذاتية في تحمُّل أعباء الانبعاث الحضاري من جهة؛ إذ لا تزال مواجهاته لمكامن الضعف داخله ضارية شرسة.. فهو يعتقد تمام الاعتقاد أن عدوه داخله متربِّع على عرشه، إلا أن هذا الإنسان -في الوقت ذاته- مصمم على أن يوقِف “النزيف الحضاري” عنده.. فهو يمثل “البذرة الصالحة” و”المشتلة الولود” التي ستنجب “صحابة المستقبل” القادرين على إيقاد “جذوة المعنى” في الأنفس والقلوب. ولعل قبَس “التحول الحضاري” يكمن في تمثُّل مواصفات مفصلية أولاها “الصدق”، وثانيها “الصبر”، وثالثها “الصمغ”.
“الصدق” و”الصبر” و”الصمغ”
أن تصدُق نفسك وتذكّرها أن ما هي عليه من قصور وفقر وعجز، لا يبذر زرعًا ولا يروي ظمأً.. ولعل ما يقدح زناد “الحركية”، ويذكي جذوة “التوتر”، ويطلق سلسلة “الفعل الحضاري” هي أن تصدق مع الخلْق وأمام الخالق، وأن ينضبط سلوكك، وقولك، وفعلك ويصطبغ بصبغة “الصدق”؛ لأن الكذب لا ينصرف إلى تلفُّظِك قولاً يخالف واقع الأمر وحقيقته، بل تصدر ريح الكذب النتنة من كل ادعاء لا يتناغم مع مقتضيات المرحلة الحضارية، وتجثم روحه الكريهة وراء كل قول لا يتناسب مع حجم الجهد و”الاحتراق”، فيضيع “الصدق” في سوق عملات الاستعجال، وشعارات الاستعلاء، وأوراق الانتخابات. فالصدق معيار حكَم يجعل “وليَّ الحق اللدني” يشتغل بدايةً بأسباب العمران، ولا ينصرف إلى نتائجه وإضفاء المساحيق على أوجه متعفنة وأقنعة صناعية لا نفَس فيها ولا روح؛ بهذا المعنى تشد على أيدينا “الحكمة الربانية” و”الآية القرآنية” قائلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(التوبة:119).
من مظاهر “تألّه الإنسان”، اختزاله عمر الحضارة الطويل النفَس في سنوات حياته القصيرة، فينصّب بذلك نفْسه القاصرة “مركزًا للكون”، ويحاكم عمُر الحضارة إلى عمُره، فيستعجل قطف الثمار وحلول الربيع.. وهذا ما جعل الكثير من محاولات الانبعاث تُوأد في مهدها؛ لأنها وضعت عمر الفرد معيارًا على الحضارة، ورفضت أن تضمُر بذرةً في رحِم البسيطة، فجوزِيَت بتهاوي بنيانها كلمح بالبصر، ودفعت فاتورة باهظة جزاء “تجنين الزمن” لها، لأن أهم قيمة معرفية لخلق “الصبر” هي “التبصر بسنن الكون” وأسباب “البناء الحضاري”.. فإنه ما لم يحوّل “جيل القلة” مساكنه إلى محاضن تربية ودورًا “للأرقم بن الأرقم”، وما لم تستحِلْ مصانعه ومتاجره وشوارعه إلى “أعماق مرجانية للانتظار الحي” بالتعلُّم، والتحلُّم، والحفر المعرفي، والاستثمار في الإنسان، فإنه بنفاد صبره، وفتور صدْقه يمدُّ في حياة البرزخ التي نحياها قرونًا.
إن المعركة الثالثة في الطريق هي أن يحترق الواحد منا ليستحيل “صمْغًا” و”لِحامة” بين “أصحاب الهم الواحد”، وصِلَة خير بين جموع الصادقين الصابرين هنا وهنالك، ليخفّف عنهم غربتهم، وينسج حبائل “شبكة علاقات حية” بينهم.. فيستعيد بذلك “الجهاز العصبي” للأمة عافيته بعد تعرُّضه لجلطات دماغية فتاكة في الماضي حولت أعضاءه الحيوية إلى أشلاء من لحم وعظم. في هذا السبيل نشهد “ميلاد مجتمع” فريد لا تقوم روابطه ولا تُفتل حبائله على أساس المصلحة والمنفعة، أو النسب والمصاهرة فحسب، بل هو مجتمع غريب كل الغرابة عن هذا النمط من العلاقات البدائية، فرحمه “رحم همّ”، ونسبُه نسب “قضية وتوتر”.. ولعلّ أعتى المعارك وأشدها ضراوة على الإطلاق، ستكون “ملحمة الصمغ والتلاحم”، فعدوُّها في الداخل جاثم على أوكار من الأنانيات الضيقة، والعرقيات الحَولاء، والمصالح الشخصية؛ وهو يشحذ سكينه الحاد ليقطع حبائل هذا النسيج ويمزّقه كلَّ ممزّق.
إن “رجل ما قبل الحضارة” و”وليّ الحق اللدني” لن يستطيع الثبات على “تلة الرماة”(6) وفي ركْب “الصابرين والصادقين وفدائيي التوافق”، إلا بعقل متقد، وقلب منفتح متبتل لربه.. فإن وقود “الصبر والصدق والصمغ”، وزاده مكنون في مدد رباني وإمداد سماوي، وإن جيلَنا ما لم يتب إلى الله توبة جماعية نصوحًا من الاستعلاء والاستغناء عن اتباع الأسباب، و”معصية” استعجال الثمار، و”كبيرة” الحرص على الأنانيات الفردية والجماعية، فإن “المدد الرباني” سيمسك قطره، وحبيبنا “رسول الله” سيُرسل دمعَه باكيًا، حليمًا، متأوّهًا لحالي وحالك وهو يقول: “يا رب أمتي.. أمتي”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق، ص:37.
(2) ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص:63.
(3) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص:34.
(4) شروط النهضة، مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق، ص:76.
(5) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص:63.
(6) مفهوم “تلة الرماة”، محمد باباعمي، موقع فييكوس.