للقرآن الكريم دور محوري في تحقيق الفرد الفاعل، والمجتمع الناهض. ولقد أرسى الإسلام مبدأ التوحيد، وعلَّم البشريةَ كيف تتخطّى مزالق الميثولوجيا والاعتقاد الخاطئ، فأزال عن العقل لوثة الشرك. ووعت الإنسانية شناعات الضلال، و”فقهت أسرار العبودية”، وذاقت فضائل التوحيد. وبانتشار الأنوار المحمّدية في الآفاق تهاوى صرح الميثولوجيا الأممية القديمة، وتحطمت الآلهة المزعومة: إله الخير، وإله الشرّ، وإله الضرّ، وإله النفْع، وإله الحبّ، وإله الخمر، وإله الخصب، وإله القحط، وإله النار، وإله العواصف، إلى ما هنالك من تخاريف أوجدها العقل الباحث عن سند روحي. وبدلاً من هداية إلى الرشد، وقع في الزيف؛ وفاته أن الاعتقاد في تعدد الأرباب واختلاف مشاربها تصورٌ باطل، لا يقره إلا عقل أسطوري، تَوَهُّمي.
“أوْضح القرآن ملامح الرؤية إلى الكون، وجلَّى للإنسان طبيعة وجوده، وحدّد مصدر هذا الوجود”
الأسئلة الوجودية في القرآن
لقد أوْضّح القرآن ملامح الرؤية إلى الكون، وجلَّى للإنسان طبيعة وجوده، وحدّد مصدر هذا الوجود: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(الانْفِطَار:6-8)، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اْلإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾(العَلَق:2).. وتَحوَّلَ بالفكر من سجالية الدّيالَكْتيك ومنطق الحتمية والآلية العمياء، إلى أولية القدر (العلّة الأولى) ومبدئية المشيئة الإلهية: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(الْمُلْك:1).
وإن ما يعصف بالمدنيات ويسفِّه معارفَها ومناهجها في مجالات الاجتماع والاقتصاد والطبيعة وما سواها، لخير دليل على أن البعد الماورائيّ الغائب عن مداركنا هو الأسّ الذي تخضع له الأشياء، وترسو عليه الترتيبات. وإن ما نشهده اليوم من تهاوي أنظمة اقتصادنا وماليتنا الدولية، وطفح كيل الكوارث بنا، لهو بعض ما تريد الإرادة الإلهية أن تؤدّبنا به، بعد الاعتداد العقلي الأصمّ الذي انْجرفنا وراءه على حساب نصيب الروح في معادلة الوجود.
بناء الفرد والمجتمع الصالح
لم يزعزع القرآن عقيدة الشرك في الأرض فحسب، بل أرسى قواعد بناء الفرد الكريم ودعائم المجتمع الفاضل. ولقد أثمرت جهود الرسول، صلي الله عليه وسلم، في مرحلة التنْزيل، إذ ظهر الإنسان المسلم الذي استوفى مقوّمات الصلاح والإصلاح، فكان ذلك النتاج الحضاري النوعي الرائع الذي تحقق بفضل انتشار الإسلام، وسطوع شمسه في الآفاق، في وقت قياسي من الزمن.
“إن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوّ القرآن النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها.. لا يمكن العثور على أيّ مثال في مستواهم من ناحية التديّن والتفكير وأفق الفكر والخلق”.
علي الدرب سائرون:
مثلما صاغ القرآن جيلاً من الصحابة وأحالهم “أبطالاً في عالم القلب والروح” وجعل منهم “مُجتمعًا متميّزًا مباركاً”، كذلك سيَصيغ سلاسل من أجيال خيار، يتتابعون في حقل البناء، ويتنافسون في مضمار العطاء. ومن المؤكد أن الإسلام أناط بالروح – ومن ثمة- بالفكرة، مهمة الفعل والنفاذ؛ فحين تتحفز الروح وتستكمل تعبئتها، تتحول الفكرة إلى حركة وحدث وإنْجاز. لقد هيأ القرآن للمسلم – والإنسان عامة- ما يحوِّرُ روحه، ويشفِّفُ قلبه؛ إذ لفته إلى أهمّية نشدان الحصانة الروحية لأجل التهيّئ للعروج والرقيّ الإيماني. فمن خلال سدّ أبواب الشهوات، وكفِّ مطالب البدَن والغرائز، تتفرّغ الروح للنشاط الخلاّق، والفكر المفيد، والعطاء المتجدد.
“جناحا الإقلاع الحضاري: الأفكار والبشر، الحرف والحجر. فمن استثمر في الحجر فقد أضاع البشر. ومن نهض بالبشر دون الحرف والحجر فقد بات مكتوفاً لا يجد ما يسد رمقه.
طاقة العروج والإنجاز
بتوطين النفس على التقلل في استهلاكاتها، تتخفف الروح، وتُحَلِّق ـ روحاًـ في فضاءات المافَوق. ومن أهم الركائز التي تتحول بها المادة روحًا والروح مادةً: الاستغراق في العبادة تَهييئًا للنّفس أن ترشد وتستوي، فتمتلك الطاقة اللاّزمة لصنع الإنجازات الباهرة. إن الإيمان العميق يُمَكِّنُ المادةَ (الجسد) من أن تتقمّص الروح، ويُمكِّن الروحَ (الفكرة) من أن تتقمّص المادة، وبذلك تستحيل الفكرة يدًا تبني، وظهرًا ينقل، وجارفة تَحفر، وجموعا تُنجز، وهيْئات تتابع وتُمَوِّنُ.
———–
المصدر : سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:53-55.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.