القرآن يُخرج الظواهر بمنهجه التوضيحي السهل، ويشرح المقاصد بالإيماء إلى ما بين العوالم الشاخصة والأخرى الخفية من صلة، ولا يقف عند ظاهر فيزيكيّتها، ويفتح أمام الذهن حقائق تنهدم بها أوهامٌ وطّدتها الدهور، ويقيم مكانها وَعْيًا جليًّا تتموضع به المعرفة الغيبية وتأخذ نصابها الصحيح، الأمر الذي يجعل منه (القرآن) مُعَلِّما للعقل، ومرشدا للروح، وملقنا لأساليب التفكير، “إن القرآن هو الذي يتناول كلّ جزء من أجزاء الوجود بعمق، فيوضّحها، ويشرح غاياتها ومحتوياتها وأسسها بشكل لا مجال فيه لأيّ تردّد أو شبهة”(ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:59). ذلك لأن القرآن “يتناول الحياة القلبية والروحية والفكرية للإنسان، وينظمها، ويريه أسمى الغايات والأهداف، ثم يأخذ بيده ويوصله إلى هذه الأهداف” (ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:59).

 يتناول القرآن كلّ جزء من أجزاء الوجود بعمق، فيوضّحها، ويشرح غاياتها ومحتوياتها وأسسها بشكل لا مجال فيه لأيّ تردّد أو شبهة.

 حقائق سامية

التدرّج المنهجي الكشفي هو الامتياز التسديدي الذي خُص به القرآن، إذ إن شمولية تلقيناته لا تنتهي عند أفق المعرفة العينية أو الحدسية التي يتساوى الناس جميعا في استبانتها، إنما هو يمضي بالعقل إلى الحدّ الأولي، إذ يضعه وجهًا لوجه أمام المعرفة القدسية الماورائية، بترشيده إلى معرفة الفاعل الكلّي، أي الخالق رب السماوات والأرض، الأمر الذي يجعل الإنسان -بهذه المعرفة- يستعيد حرّيته وينْعتق من أوهامٍ ظلّت تقيّده وتجعله روحًا شريدا يتعبد الأشياء والظواهر.. فعندما يمضي القرآن -مثلا- في التنبيه إلى حقيقة منظومة المجرّات والكواكب (الشمس والقمر والنجوم)، ويؤكد وظيفتها التسخيرية، فإنه يلقن الإنسان حقيقتين ساميتين في الآن ذاته:

1-تأكيد شيْئيّة هذه الموجودات التي طالما عبدها الإنسان وأنزلها منْزلة القداسة.

2-التعريف بفيزيكيّتها، باعتبارها جزءًا من الكون، من خلال تحديد وظيفتها في الحياة وحفظ الطبيعة.

وفي هذا وذاك إيعاز بالأفضال التي أنعم بها على من أوجده، والمسؤولية التي أناطها به، وهي الإيمان بالله وتعمير الكون بالصالحات.

بمثل هذه الترشيدات التي لقّنها القرآن للناس، فتح الثغرة التي سرعان ما تزلزلت لها صروح من الجهالة والشرك والضلال، إذ أتاح للعقل البشري أن يهتك حجب الوهم والزيف، ويفتح عينيه على الحقيقة الموضوعية، وبذلك عبَد الناس الله الواحد مخلصين له الدين، وأنشأوا من جديد علاقتهم بالكون وعناصره، ولَحَدوا إلى الأبد ثقافة التعدّد والشرك.

 أبرز مكسب تحقق للبشرية بفضل نزول القرآن، هو تعديل رؤية الإنسان إلى نفسه، إذ أعاد القرآن موضعة الإنسان وأقرّ مركزيته في الكون، وجعله المستخلف في الأرض.

تعديل في مُسَلَّمات العقل البشري

تحول فكر الإنسان إلى طور الفاعلية والتحرر المسئول، فلم يعد الإنسان خاضعًا لأرباب الوهم، أو للطبيعة الصماء، أو للعلل الخفية والأسباب المجهولة التي ظلّت تبلبل فكره وتؤرق روحه.. بل غدا الإنسان سيدًا لمصيره ضِمْنَ نطاق علاقة تديّن للخالق الأوْحد ربّ العالمين بالعبودية، وبذلك توفرت عوامل توحيد الرؤية الإنسانية إزاء الكون، وإزاء المصير المشترك، ورست دعائم الطمأنية للإنسان.. كما اتّضحت جليًّا محاذير عقيدة الكفر بالله، تلك العقيدة التي تجرّ حتما إلى أيديولوجية تأليه الإنسان (والهيمنة الفردية والجماعية). وإن عقيدة موت الإله التي تزعمها النتشوية مثلاً، والتي تتضمن عقيدة ربوبية الإنسان، هي تخريج معاصر لفكر تأليه المخلوق التي عاشتها الإنسانية في الأزمنة القديمة.

——————————————————

المصدر: سليمان عشراتي: الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 68-70.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts