المقدمة

إن الإنسان كائن ضعيف في أصله، لكن الله عز وجل شرفه على بقية الكائنات، ووضع فيه من الإمكانات التي تؤهله لأن يرتقي في مقامات العبودية لله تعالى فيحقق صالحه الداخلي ويفيض صلاحًا على المجتمع الذي يعيش فيه.

ولكن كيف ينظر الأستاذ كولن إلى الإنسان ووظيفته في الوجود؟ وما هو المصدر الذي يستقي منه هذا المفهوم؟ وما معنى وراثة الأرض؟ وهل الأزمة التي يعيشها إنساننا اليوم أزمة كل عصر؟ وكيف يمكن لتاريخ النبوة أن يصبح مصدرًا لفهم الواقع اليوم والتعامل معه؟ ومن هو الإنسان الكامل الذي يجب أن يكون القدوة؟ وهل نكران الذات يلعب دورًا هامًّا في إيضاح المعنى الذي خُلق الإنسان لتحقيقه؟ كل هذه الأسئلة وأكثر يتناولها هذا البحث بالإيضاح والشرح والمناقشة.

*********

يستقي فتح الله كولن نظرته للإنسان ويحدد مفهومه له، من طبيعة تحديد القرآن الكريم له باعتباره وحيًا، ومما تقرره سنة خاتم الأنبياء والرسل محمدﷺ، فالإنسان في القرآن الكريم هو مدار التكليف، وهو كما يقول بديع الزمان سعيد النورسي “ثمرة شجرة الخلق”. وقد حدد الله عز وجل الغاية والهدف لهذه الثمرة؛ وهو تحقيق العبودية مع توسيع مجال هذه العبودية، إلى أبعد حد يمكن لمدارك الإنسان الوصول إليها.

وإذا كان الله عز وجل قد أفصح عن بعض مظاهر العبودية من خلال التكاليف المباشرة كالصلاة والدعاء والحج وغيرها من التكاليف الأخرى، فإن الجوانب الأخرى لهذه العبودية تظل مفتوحة على الآفاق ومتجددة المظاهر، ومسالك الأفراد كل فرد حسب استعداده الفكري والروحي والعقدي، لكن دون الغفلة عن وجود جوانب من العبادة يرغب فيها الواصلون والعارفون بالله، ويوصي بها الأنبياء والرسل عليهم السلام، وفي مقدمة من يلحون على تنويع مظاهر هذه العبودية الرسول ﷺ.

إن شجرة الخلق قد أثمرت ثمرة الإنسان، وثمرة الثمرة هي محمد ﷺ، باعتباره الصورة التي اكتملت فيها كل مكونات الثمرة الكاملة، واكتملت فيها كل مكونات الإنسان الكامل.

المتأمل في شمولية مشروع الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي والإعماري الحضاري، وفيما حققه مشروع الخدمة من حضور على صعيد تمثُّل صورة حية للإسلام الوسطي المعتدل، يقف على يقينية كون خطوات منهج الرسول ﷺ في تحقيق مظاهر العبودية ببعدها الشمولي يؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج ثمرة الخلق الطيبة والصالحة، التي إذا ذاقها العالم وجد لذتها، وإذا لامست تربة أحيتها وأخرجت بإذن الله عز وجل جنات ذات عيون وثمار وارفة الظلال يحظى كل من استظل بها بالطمأنينة. هذه الرؤية المثالية كما قد يجدها البعض، استطاع الرسول ﷺ في مدة زمنية وجيزة أن يبني بها معالم الإنسان الذي يبني ويشيد، ويضع كل طاقته في خدمة الإنسان في كل مكان، بدعوته إلى قيمة التمسك بالعبودية لله عز وجل.

بُعْد الوراثة

إن مفتاح فهم رؤية فتح الله كولن للإنسان تتمثل في كونه يراه أرقى المخلوقات، وكما هو ثمرة الوجود، فهو متصل برؤية الوراثة من زاوية وعد الله الثابت؛ بأن تكون وراثة الأرض للصالحين من عباده.

إذ يقتضي لتحقق هذه الوراثة، أن يحقق الإنسان العبودية الكلية التي تستغرق جميع كيان الإنسان وجميع تصرفاته وكل مظاهر علاقته بخالق الوجود وتفاعله مع الوجود، وبشرط تحقيق كل مظاهر الصلاح والفلاح، التي يحتويها مفهوم “الإنسانية الصالحة”، التي تجمع في بوتقة واحدة الذاتَ والغير على أنهما كيان واحد، وهذه الرؤية العميقة ليست مجرد اقتناع نظري ولا مجرد إيمان فحسب، بل هي حقيقة عملية أو حقيقة حركية تستوجب الأخذ بالأسباب والأخذ بالسنن الكونية، التي سنَّها مُوجد الوجود وفاطره، بالإضافة إلى ما يقتضيه ذلك كله من مكابدة ومجاهدة على جادة الوصول إلى المطلوب، وهو تحقق الإنسان الوارث والصالح الذي سيرث الأرض ليعمرها ويبنيها.

الوراثة عند فتح الله كولن، ومن هذه الزاوية نوع من أنواع تحقيق العبودية، إن لم نقل إنها العبودية المطلقة أو هي العبودية نفسها، من هنا يبدو الإنسان ملزمًا بتحقيق الوراثة مادام ملزمًا بتحقيق العبودية، التي هي مناط التكليف الإلهي للإنسان، لكن الوراثة ليست سهلة المنال، لأن الذي يمنحها شاء أن تكون مقرونة بشرط تحقق الصلاح، والصلاح مكابدة مستمرة وحركية لا تنقطع. فالوصول إلى هذا التشريف يقتضي التحلي بالصبر والتضحية.

إذا كان الأخذ بالأسباب ضرورة، فإن شروط صفاء العمل وخلوصه يقتضي بقاء الأسباب في دائرة الأسباب، لا أن تتحول إلى جوهر.

إذا كان الإنسان هو ثمرة شجرة الخلق، فإن الذي يغرس يظل اهتمامه وبصره مركَّزًا على ما سيخرجه الغرس من ثمرة، فالإنسان نفسه قد يغرس في مكان ما شجرة، ثم هو يرعاها ويتعهدها ويسقيها، ولا تغادرها عينه مركِّزًا على أعاليها، ينتظر ما تجود به من ثمار.

فعلى هذا الأساس وكما بيَّن ذلك الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي فإن هذه الثمرة هي محمد ﷺ، أي إن شجرة الخلق قد أثمرت ثمارًا هي الإنسان، وثمرة الثمرة هي محمد ﷺ، باعتباره الصورة التي اكتملت فيها كل مكونات الثمرة الكاملة، واكتملت فيها كل مكونات الإنسان الكامل.

الإنسان وتربية الرب

لكي يصل الإنسان إلى هذه المرتبة العظيمة يلزمه التحلي بصفات خاصة، والتخرج من مدرسة الله تبارك وتعالى -إن صحَّ هذا التعبير وإن لم يكن في ذلك سوء أدب مع الله عز وجل- لأن الله سبجانه وتعالى وكما يخبر بذلك في أول سورة من الكتاب العظيم في فاتحة القرآن، بأنه هو رب العالمين، وكلمة رب مصدر بمعنى اسم الفاعل، أو تتضمن معنى اسم الفاعل أي المربِّي، إذ تصير التربية هي عين المربي،كما يذكر فتح الله كولن في تفسير سورة الفاتحة.

والتربية هنا تعني أن الله سبحانه وتعالى قد دلَّ الإنسان على الجنة وعلى الطريق المؤدية إليها من خلال إعمار الأرض، كما عرفَّهم بجهنم وبيَّن كل ما يُردي فيها، وهو الذي اختار الرسل وأرسلهم ليدلوا باقي البشر على الله سبحانه وتعالى، وعلى ما يكسب رضاه تعالى ويقيهم غضبه المؤدي إلى عذابه في جهنم، وهو الذي تحدث في القرآن الكريم عن الكون وشرحه باسطًا كل خصائصه أمام الإنسان.

الله عز وجل هو مربي المخلوقات التي تأتي إلى عالم الوجود، كل مخلوق بحسب ما سُخِّر له، فبعضها سُخِّر ليكون دالاًّ على الله، ومكلفًّا بأن يكون مرشدًا للإنسان في طريقه إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعينا له على التحقق بالعبودية. وبعضها سُخِّر ليسبَّحه في كل وقت وحين، وبعضها خُلِق ليكابد من أجل أن يحوز المقامات والمراتب، وأن يسافر إلى الخالق، وجعل مكابدته على الأرض وإعمارها هو سبيل عبادته.

إن تاريخ الأنبياء والصالحين والقدوات الكبرى عبر التاريخ، هو أهم درس ينبغي حفظه والاستمداد منه، لأن وظيفة هؤلاء الكمّل كما يراها كولن كانت دائمًا إنقاذ البشرية.

لن تستطيع البشرية الوصول إلى الكمال إلا بالتربية، التي وُضع مقررُها في القرآن الكريم وقام الرسول الكريم ﷺ باعتباره معلمًا وقدوةً، ببسطها وتفصيلها للناس جميعًا. هنا يؤكد الأستاذ أن تحقق معاني هذا المقرر التربوي والمداومة عليه والعيش في كنفه، قد تحقق في عصر السعادة كما لم يتحقق في عصر آخر، في ظل مرشد الإنسانية الأخير في زمن الإرسال، والأول في الخلق في دائرة الغيب.

الإنسان في منظور الأستاذ فتح الله كولن مخلوق لا يثمر إلا بعملية التربية، لأنه إذا لم يُربَّ فسد، وإثمار الإنسان هو أن يصل إلى الكمال أو إلى قاب قوسين البشرية الكاملة. فالإنسان من هذا المنظور حلقة ضمن نظام الكون كله الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وفق نظام دقيق جدًّا، ولكي لا يُفسد الإنسان نظام الوجود هذا، ولكي تظل حركة نظام الوجود مستمرة وفق الناموس الإلهي الدالِّ عليه، ينبغي أن يحافظ الإنسان على عبوديته لله تعالى، أما إذا اختل نظام العبودية، فإن التوازن الكوني وعلاقة الخالق بمخلوقاته، وتصرفها وفق الناموس الذي ارتضاه لها سيختل. ولذلك توجب تربية الإنسان وفق المنهج الذي سطره الله سبحانه وتعالى حتى يضمن بذلك حركة الوجود وفق هذا الناموس الإلهي. فالإنسان لكي يستحق هذه الصفة في حاجة أكيدة إلى أن يتربى التربية الإلهية، أو لنقل لكي يستحق الإنسان هذه الصفة ينبغي أن يتربى وفق المنهج الذي ارتضاه الله له.

أزمة الإنسان أزمة كل عصر

تكمن أزمة الإنسان اليوم في ابتعاده عن هذه التربية التي ارتضاها له الربّ، وتخليه عن الأخلاق الإلهية، وفشل جميع المناهج الوضعية التي ادعى أصحابها توصلهم إلى إدراك حقيقة الإنسان، كما ادعت أغلب المذاهب الوضعية والفلسفات والأ يديولوجيات المادية، أنها تستطيع الإجابة عن أسئلة الإنسان الوجودية وأن تقنع فضوله الوجودي المتعلق بأصله ومصيره ومهمته في الحياة وعلاقته بالكون والوجود، ومن أين جاء وإلى أين يمضي؟

الإنسانية في نظر فتح الله كولن ما تزال في طفولتها الأولى تتهجى حروف الحقائق المتعلقة بالإنسان والكائنات وما وراء الطبيعة، رغم ما حققه التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي من تقدم وتطور، لكن الأنبياء والرسل باعتبارهم مخبرين عن الغيب قد وقفوا مليًّا على أغلب الحقائق إن لم نقل كل الحقائق الإلهية، وفصَّلوا فيها القول وبسطوا معطياتها امتثالاً لأمر الله الذي بعثهم للناس، يقول:

“وإذ لا زالت البشرية تتهجى في أيامنا هذه حروفَ الحقائق المتعلقة بالإنسان والكائنات وما وراء الطبيعة مع توسعها العلمي وتقدمها التكنولوجي، فإن الأنبياء وقفوا مليًا -وبجد- على هذه الحقائق منذ آلاف السنين، وقالوا بالتمام لأممهم ما ينبغي أن يقال في شأن الرجوع بالأشياء لصاحبها؛ فبعضهم أجمل وبعضهم فصَّل، وذلك بجَهازهم الخارق للعادة، ومكانتهم الخاصة عند الحق تعالى، والتبليغات المتوالية من الماورائيات”.

إن شحذ الهمم وتهيئة النفوس ووضع الناس أمام الدور الذي ينتظرهم، هو الهدف والمرمى الذي حرص كولن على تبليغه في حركيته وأدبياته.

نفهم من هذا أن الرسل جميعًا وفي مقدمتهم محمد ﷺ قد تمثلوا الأخلاق الإلهية، فهم جميعًا أنبه بني البشر أو لنقل أنبه البشر، وأكثرهم سعة وقابلية لتمثل معنى الربّ، وتمثل دلالة أن يجهز الخالق مخلوقاته وخاصة ثمرة شجرة الخلق الإنسان بما يزيد، ويربي استعدادهم لتقبل حقيقة الخلق ونظامه الدقيق والمركب، يقول فتح الله كولن معمقًا هذه الأبعاد:”ولم يبلُغ الأنبياء هذه الحقائقَ بطرق البحث العلمية الشائعة في العصر الحالي، ولا بالمناهج التجريبية؛ بل بَلَّغوا هذا العلم والمعرفة بفضل سعة قلوبهم وعلاقتهم الخاصة بالله تعالى، إلى جانب كمال عقلهم وحسهم وشعورهم وإدراكهم، كمالاً يتعدى حدود التصور الإنساني؛ فرأوا أن الوجود كله في تصرف قدرة قاهرة، وأطلوا على وحدة العلم والإرادة المهيمنة في كل مكان وكل شيء، وقرؤوا وفسروا الشهود والمعالم والإشارات المنادية بالواحد الأحد في سيماء كل الأشياء والأحداث، ثم أعلنوا أنهم دعاة التوحيد في المشاعر والفكر والاعتقاد.”

فعلم الأنبياء هو من علم الله، وقد يكون فيما عند الأنبياء من علم بعض الكسب باعتبارهم بشرًا، لكن أصل العلم الدال على الخالق وهبي من جهة اصطفاء الله لهم ليكونوا رسلاً منه إلى كافة البشر منذ خلق آدم عليه السلام ونزوله إلى الأرض، وإلى آخر الرسل والأنبياء محمد ﷺ.

إن النموذج الكامل للإنسان قد مثله الله سبحانه وتعالى في الأنبياء والرسل عليهم جميعًا السلام. وأكمل نموذج إنساني ضمن زمرة الأنبياء والرسل هو محمد ﷺ، فهو نموذج الإنسان الكامل في دائرة الكمال لأنه أتم ممثل لأخلاق الرب، وأتم ممثل للصورة التي تحقق الانسجام المثالي بين مختلف مكونات الوجود والكون الذي صنعه الله سبحانه وتعالى وجعله وفق نظام دقيق جدًّا. بعبارة أخرى إن الانسجام الكلي والمثالي لنظام الكون والوجود كما خلقه الله تبارك وتعالى، تمثله كاملية الذات المحمدية.

لقد أضاف كل نبي من الأنبياء، وكل رسول من الرسل عليهم السلام إلى هذه الكاملية إضافات، وبكلام آخر لقد كُلِّف كل نبي بأن يضيف إلى هذه الكاملية، حتى انتهى ذلك إلى الرسول محمد ﷺ الذي يمثل النموذجية المثالية للإنسان الكامل، أو النموذج المثالي للكاملية البشرية.

لقد خلق الله الإنسان وكل المخلوقات الأخرى من أجل مهمة مركزية كما سبقت الإشارة إلى ذلك وهي العبودية يقول تعالى: “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”(الذاريات:56). وأرقى من تمثَّل ومثَّل هذه العبودية هم الأنبياء والرسل عليهم السلام وقد جعلهم الله سبحانه وتعالى بفضل هذا التمثيل، الذي كان تحت أعين الله تبارك وتعالى مرشدين مبلغين دالين الناس على منهج الوصول والسير إلى الكمال.

تاريخ النبوة مفسرًا موضوعيًّا للواقع

إن حياة الإنسان من هذا المنظور كلها رحلة سفر طويل في طريق الوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل. بعبارة أخرى إن إلحاح فتح الله كولن على إبراز مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام، يدخل في دائرة رؤية منهجية أساس تروم بناء الإنسان، على اعتبار أن الأنبياء والرسل عليهم السلام كانوا في كافة المراحل التاريخية -كل واحد حسب مكان وزمان إرساله- على رؤية واحدة ومكلفين بمهمة واحدة، وهي تبليغ الناس وإرشادهم إلى القضايا نفسها وهي الدلالة على الله سبحانه وتعالى وتوجيههم إلى العبودية، ودفع الناس إلى إدراك أبعاد ذلك بالتفاعل مع كافة معطيات وجزئيات الكون والوجود.

ومن هنا تأتي مواقف الإنسان ورؤيته إلى ذاته باعتباره إنسانًا، وباعتباره ذلك المخلوق، الذي إذا شاء بلوغ سعادة الروح واطمئنان القلب وإدراك الرشاد، اتبع منهج الرسل عليهم السلام والتزم بما بلغه هؤلاء كلهم وخاصة محمدًا ﷺ باعتباره خاتم الأنبياء والرسل، وباعتباره الرسول الذي اكتمل فيه المنهج.

المتمعن في هذه الرؤية يتوصل إلى خلاصة مفادها، أنَّ فتح الله كولن باعتباره مفكرًا ومعلمًّا وعالمًا، صاحبُ رؤية خاصة للتاريخ، رؤية تقوم على أخذ تاريخ النبوة -كما ورد في مصادره الأساسية- مصدرًا لأخذ العبرة ومصدرًا لمنهج التعامل مع الواقع بمختلف مظاهره ومختلف تقلباته.

إن الإنسان وهو يسير في طريق الهدف السامي، ملزم بالأخذ بمنهج الرسل والأنبياء، فيحتسب كل سعيه لله سبحانه وتعالى، ولا يكل ولا يمل ما دام واثقًا في وعد الله سبحانه وتعالى.

ودرايته الخاصة بهذا التاريخ يضعه في مصاف المؤرخين ذوي المنهج الخاص في تحليل صيرورة التاريخ وتفسيرها، ومعرفته بتفاصيل تاريخ الأمم من جهة أسباب النزول وأسباب الصعود يبرز ذلك ويؤكده، وليس مجانبة للصواب القول بأن معالم  نظرية تقوم على القيم والأخلاق في تفسير التاريخ، هي الخيط الناظم لرؤية شمولية لتفسير العالم في بعده الواقعي على الأقل، بل إن هذه النظرية المتأثرة بالمنهج القرآني هي المرتكز الفلسفي لمنهج بناء الإنسان الإيجابي، أو لنقل بناء العبد المتمثل لمفهوم العبودية.

التاريخ في منهج فتح الله كولن يركز على تاريخ الأنبياء والرسل وعلاقتهم بأقوامهم وعما كان رد فعل مختلف الشعوب والأقوام والأمم تجاه رسلهم وأنبيائهم، والنتائج والعبر التي انتهوا إليها، فالتاريخ الذي ينبغي التركيز عليه في منظور فتح الله كولن، كما ركز على ذلك القرآن الكريم هو تاريخ أزمات الإنسان الوجودية خارج دائرة الزمان والمكان، التي احتاجت معها الإنسانية إلى من يدلها على طريق النجاة، ويصلح العمران ويرمم ما أفسده الإنسان نفسه.

الإنسانية في حاجة إلى مرشد كامل يتميز منهجه بالانفتاح على حاضره ومستقبله، بل إن منهجه متأصل خارج الزمان والمكان، واحتياجه ملحٌ إلى النموذج البشري الأكمل وإلى المرشد النموذجي بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، ربما لأن الأزمات الوجودية ستكون أعظم.

يأخذ التاريخ عند كولن بعدًا مختلفًا وهو أن حقيقة التاريخ هي ذلك التاريخ الذي كان فيه الإنسان في أرقى حالات اطمئنانه الروحي وسعادته المعنوية وانسجامه الكلي مع مكونات الوجود والكون.

إن فتح الله كولن باعتباره مفكرًا ومعلمًّا وعالمًا، صاحبُ رؤية خاصة للتاريخ، رؤية تقوم على أخذ تاريخ النبوة مصدرًا لأخذ العبرة، ومصدرًا لمنهج التعامل مع الواقع بمختلف مظاهره ومختلف تقلباته.

وهي فترات تتميز باسترشاد الإنسان بمنهج النبوة وبهديها، ولذلك نلاحظ كثرة اهتمام الأستاذ بتفاصيل عصر السعادة على سبيل المثال، وحرصه الشديد على لَفْت انتباه الوعي الجمعي إلى شموخ شخصية الرسول ﷺ باعتباره شخصية تباشر تفاعلاً إيجابيًّا مع الواقع، ولَفْت الانتباه كذلك إلى من تربى في المدرسة النبوية على يد من بعث معلمًا، وهم صحابته الكرام رضي الله عنهم.

التاريخ والقدوة

القدوة مفتاح آخر من مفاتيح منهج بناء الإنسان عند كولن، على أساس قيام هذه القدوة على مكونين مركزيين:

المكون الأول: هو مكون الإنسان الكامل، الذي تلقى من ربه كل العناية الربانية حتى يصير نموذجًا متكاملاً، يُسترشد به باعتباره بشرًا نبيًا ورسولاً يوحى إليه، بمعنى أنه مرتبط بالرب الذي تولى تربيته.

المكون الثاني: هو مكون صحابة الرسول ﷺ وهم ذلك الجيل القادم من أوساط اجتماعية وثقافية وفكرية ودينية مختلفة ومتنوعة، وهم كذلك الجيل المتنوع النفسيات والذهنيات، وحتى على مستوى السلوك لم يكن هؤلاء على مسلك واحد ولا على خلق واحد، لكنهم تحولوا في مدة وجيزة إلى قدوة لغيرهم عبر المكان والزمان، إما بفعل ما زرع فيهم من نور النبوة، أو بفعل تربية الرسول ﷺ لهم، في ضوء التربية التي تلقاها ﷺ من ربه سبحانه وتعالى.

ومن هنا فإن الغاية العليا والهدف الأسمى لدي الإنسان يلزم أن تكون هي الاقتداء بالرسول ﷺ في المقام الأول لأنه “نذر نفسه للحق تعالى واستمد العون من الله عز وجل، يمضي في طريق وظائفه ومسؤولياته من دون أن ينظرَ إلى الوراء، لأنه يعرف القوة التي استند إليها، ويعرفُ مالكه الذي يعمل له وهو مطمئن لصواب هدفه، والطريقِ التي يسلكها، وأنه في رعايةِ من لم يتخل عنه -ولو لحظة واحدة- في هذا الطريق ولن يتخلى عنه.

أهم تاريخ  عند كولن هو تاريخ أزمات الإنسان الوجودية خارج دائرة الزمان والمكان، التي احتاجت معها الإنسانية إلى من يدلها على طريق النجاة، ويصلح العمران ويرمم ما أفسده الإنسان نفسه.

فهو -لذلك- لن يقع في تشرذُم فكريٍّ أو حسي أبداً ولن يكابد تشوشًا أو ترددًا بل ينكبُّ على أداء ما كُلِّف به في شعور وحساسية مرهفة، ثم ينتظر النتيجة من الله تعالى في اطمئنان مكين… فيهتمُّ اهتمامًا بالغًا بترك التدخل في شأن الربوبية، ويحصُرُ حركاته وفعالياته في ابتغاء مرضاة الحق سبحانه، فيعتبر رضاه جل وعلا ركنًا أساسيًّا وضروريًّا.

ولذلك تراه موصَد الأبواب -ما استطاع- حيال كل الأمور التي ليس فيها رضا الله تعالى، وساعيًا إلى تجنُّب رغبات النفس ومطالبِها. فإذا توعرت الطرق يومًا وتشابكت السبل، واحلولكت الآفاق، ودوَّت أصداءُ الاضطراب والقلق، فلن يتشكى عن الطريق التي يسلكها ولن يرتبك أو يتقهقر، بل يستعين بالله ويتشبث بالسعي والعمل ويستسلم للحكمة الإلهية.

ويفعل كما فعل سيدنا نوح عليه السلام حيث رفع يديه “فدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ”(القمر:10)، ثم يلتجئ بتمام الإخلاص والصدق إلى حفظه تعالى ورعايته ويترقب منه ما يمُنُّ عليه من لحظة الفرَج ونقطة الخروج”.

ومن خلال هذا الاقتداء المركزي يتأسس الاقتداء الفرعي والأساسي في الآن نفسه؛ فرعي باعتبار الاقتداء المركزي، ولكنه أساسي كذلك لأن جماعة الصحابة هم في النهاية نماذج بشرية كل نموذج منهم ممثل لصنف بشري يعج به الواقع البشري في كل زمان وفي كل مكان.

إن التفويض المطلق لصاحب الإرادة المطلقة وللملك المطلق هو عين القدوة، لأن تفويض الرسول والنبي كل شيء بهذه الكيفية لبارئه ومرسله ومكلفه، هو ضامن الطمأنينة الفكرية والانسجام الكلي بين الإرادة الجزئية بكل ما تتصف به من قصور وضعف، وبين الإرادة الكلية التي هي إرادته هو تعالى المنزهة عن النقص والقصور.

ولقد أقبل الرسل والأنبياء جميعًا برغبة كاملة، وإرادة قوية على ما كلفوا به غير منتظرين للنتائج من الله سبحانه وتعالى، لأنهم أدركوا صدقًا أن مدار تكليف الله لهم هو أن يفعلوا ما أمروا به وألا يتدخلوا في شؤون الربوبية، وألا يتطلعوا إلى النتائج، فهذه له هو وحده تبارك وتعالى.

إن النموذج الكامل للإنسان قد مثله الله عز وجل في الأنبياء والرسل، وأكمل نموذج إنساني ضمن زمرة الأنبياء والرسل هو محمد ﷺ.

لم تكن طريق الأنبياء والرسل على مر تاريخ الدعوة، أو بالأحرى على مر التاريخ الحقيقي مفروشة بالورود وطريقًا سهلاً سالكًا، بل كان على الدوام طريقًا مملوءًا بالصعاب وتشابك السبل وحلكة الآفاق ومليئًا بالحزن والهم والغربة والقلق، لكن كل ذلك لم يوهن العزم، ولم يجرهم إلى التوقف ولا إلى الشك في صدقية الحق الذي يمثلونه ويلتزمون بإيصاله وتبليغه.

وأما الصحابة الكرام فقد ورثوا هذا الشعور وخلصوا اعتقادهم من كل مصلحة شخصية يتوقون إليها، وجعلوا هدفهم هو مرضاة الله تعالى، وقد يكون هذا الشعور وليد وعيهم الفكري واستعدادهم الذهني، لكنه لا ينفك أن يرجع إلى تأثير الرسول ﷺ فيهم.

القدوة وبناء الهدف

إن الإنسان وهو يسير في طريق الهدف السامي ملزم من هذا المنظور بالأخذ بمنهج الرسل والأنبياء، فيحتسب كل سعيه لله سبحانه وتعالى. ولا يكل ولا يمل مادام واثقا في وعد الله سبحانه وتعالى، وما دام ذلك أصلا من أصول العبادة يقول فتح الله كولن: “وكما أن من العبادة أن يكون الإنسان على طريق الحق جل شأنه، ويُعرِّفَ الناس بالحق سبحانه ويذكِّرهم به، ويقوم بإرشاد من في الطريق إلى آداب الطريق… فكذلك من العبادة توقُّع كلِّ شيء من الله تعالى، والانتظارُ في الأمور التي تتطلب الانتظار مع الصبر على تباطؤ الزمان بشكل يستنفد الصبر ويسلب العقل.. فالمرء قد يحظى بالتوفيق في أول حملة أو حركة أو قيام وشبوب، فيجدُ ما يبتغي؛ لكن قد يجول ويصول كجواد أصيل، فلا يحصل على شيء في الظاهر، لكنه يفوز في النهاية بصبره وإقدامه ونيته”.

إن الذين يصنعون التاريخ الحقيقي يصنعونه بكل تضحية وتفان، ويصنعونه وقد نزهوا حركيتهم عن النتائج الخاصة أو العامة، فالحركية بحسب مصطلحات كولن، ينبغي أن تكون من أجل جوهر الحركية، أي أن تكون هذه الحركية سبيلاً وهدفًا في الآن نفسه، وإذا كان الأخذ بالأسباب ضرورة، فإن شروط صفاء العمل وخلوصه، يقتضي بقاء الأسباب في دائرة الأسباب لا أن تتحول إلى جوهر، فالتوفيق والنجاح وتتابع المنح لا يستمد مشروعيته من دقة الأسباب ونجاعتها، بل يستمدها من صاحب الأسباب، الذي يعطي ويمنع، ويمنح المنح من جنس الأسباب، أو يمنحها بقدر يتجاوز الأسباب، وإذا كانت النفس البشرية حصانًا جموحًا قد تأبى الانصياع، فإن الفارس الحاذق هو من يحسن الإمساك باللجام حاثًّا النفس على ألا تنزلق القدم إلى دائرة “قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي”(القصص:78).

فالإلحاح على هذه الروح عند كولن هو إلحاح على تلك الطاقة القوية التي سمحت ببروز نموذج حضاري وثقافي ما يزال أثره بارزًا إلى اليوم، وسيبقى لأن الطاقة التي حركته لم تكن تريد تقديس الذات ولا الاحتفال بالنفس، ولكنها كانت متطلعة إلى مرضاة الله ومتطلعة إلى تبليغ هذه الروح إلى كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني، وقد يخطئ من يظن بأن هذه الروح قد ماتت، بل ما تزال مستعرة تحت غطاء الغفلة وجموح النفس، هذا هو جوهر ما يلح عليه كولن بالإشارة إلى أن بيان الأنبياء الموحد هو أن يبلغوا الدعوة إلى الناس غير آبهين بما يتعرضون له من إعراض أو صدود، لأنهم فوضوا أمرهم للذي فطرهم وحملهم المسؤولية، وإذًا هذا هو جوهر بيان الأنبياء والرسل عمومًا ومحمد ﷺ على الخصوص، فمن باب أولى أن يكون هو منهج من يسير على هدي النبوة في كل وقت وحين، إنه البيان المشترك للدعوة لله أو دعوة الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى.

إن الأنبياء بَلَغوا العلم والمعرفة بفضل سعة قلوبهم وعلاقتهم الخاصة بالله تعالى، إلى جانب كمال عقلهم وحسهم وشعورهم وإدراكهم.

على أن هذه الصرخات والدعوات غير مقتصرة على الأنبياء والرسل وحدهم، بل هي صفة الصالحين من عباد الله وأوليائه، الذين أدركوا من خلال الأنبياء والرسل وبوساطتهم المهمة السامية التي خلقوا من أجلها، وهي مهمة التبليغ ومهمة تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى ومهمة السير والبحث عن نموذج الإنسان الكامل، وهي كذلك وظيفة كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني ما لم يحل الضباب الكثيف والغفلة والكفر والخسران فيمنع عنه رؤية هذه الحقيقة المطلقة.

محل الشاهد هو اعتبار فتح الله كولن أن الأنبياء والرسل عليهم السلام هم النموذج الأسمى للإنسان، ويضاف إليهم الصالحون من الناس على مر التاريخ ممن أدركوا سر التكليف وتمثلوا حق التمثل وظائف الأنبياء والرسل ومهمتهم وعملوا على التمسك بمنهجهم وسيرتهم، لأنهم أدركوا بأن ذلك المنهج هو المنهج الإلهي الذي اكتملت كل عناصره ومقوماته في سيرة الرسول محمد ﷺ.

يقول كولن مشخصًا وضعيات هذه الثلة الصافية من بني الإنسان “لقد ظل رجال العزم والإرادة هؤلاء صامدين وثابتين حيال تلك الجموع التي تردَّت وهبطت إلى منتهى الطيش والصلف والهوان والغرور والأنانية والحقد والكره والغضب…تلك الجموع التي اعتبرت مروءتهم وشجاعتهم هذه ضلالةً وسفاهة، وخوَّفتهم بالطرد والتهجير من مساكنهم وديارهم، أو هدَّدت أتباعهم بقطع أرجلهم وأيديهم، أو استخفت بهم واحتقرتهم، أو أساءت الظن بمواقفهم النبوية بأن بعض آلهتم اعتراهم بسوء، أو أوعدت هؤلاء المرشدين بالرجم، أو هوَّنت من شأنهم دائمًا بقولهم: “إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا”(إبراهيم:10)”.

بيان فتح الله كولن في ضوء الذي تقدم هو أن الإنسان الذي يحقق النموذج المتوافق إلى حد كبير من الوظائف التي خلق الإنسان من أجلها، هو إنسان القلب وأبطاله هم أولئك المتمتعون بالإرادة الصلبة والموقف الحكيم، المحافظون على قصد واحد والسائرون على خط واحد، فهؤلاء يمثلون المهمة نفسها بكل وضوح وجلاء رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، الذين لا يطلبون شيئًا سوى مرضاة الله تعالى مستعينين في مهمتهم بقدرته وعنايته هو وحده.

الوراثة عند فتح الله كولن هي نوع من أنواع تحقيق العبودية، إن لم نقل إنها العبودية المطلقة أو هي العبودية نفسها.

إذا كان التاريخ مصدرًا للعبر وجامعة مفتوحة يتعلم فيها الإنسان، فإن تاريخ الأنبياء والصالحين والقدوات الكبرى عبر التاريخ هو أهم درس ينبغي حفظه والاستمداد منه. لأن وظيفة هؤلاء الكمل كما يراها كولن كانت دائمًا هي إنقاذ البشرية من “ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان، وتحفيز الأرواح لتصغي القلوب إلى الحق تعالى، وكشف ما وراء ستار الأشياء وما وراءها، وإرادتها على حقيقتها حتى تزول الشبهات والشكوك من الأذهان، ونشر الأنوار على وجه الوجود ليقرأ ككتاب وليطلع عليه كمشهر ومعرض، وليفسر كلوحة فنية بارعة ثم يترجم حسب أفق إدراك العصر، وجعل هذه المسيرة الفانية مدرجًا إلى العوالم الباقية وجسرًا إليها ومزرعة لها وسوق شرائها”.

التاريخ ونكران الذات

من يتتبع كلام كولن يجد أن التتبع المسهب والدقيق لوظائف الأنبياء والرسل عبر التاريخ، والتحليل الدقيق لأوصافهم ونفسياتهم يقصد منه تنبيه الناس إلى حقيقة المهمة التي يتوجب عليهم القيام بها، والمنهج الذي يجب اتباعه حتى تؤدي الوظيفة على الوجه المطلوب الذي يرجوه الله سبحانه وتعالى.

فشحذ الهمم وتهيئة النفوس ووضع الناس أمام الدور الذي ينتظرهم، هو الهدف والمرمى الذي حرص كولن على تبليغه في حركيته وأدبياته، ويضاف إلى هذه الغاية مكون آخر يتمثل في ربط الناس ومن يتوجه إليهم بالخطاب وهم أفراد المجتمع الإنساني فردًُا فردًا بالمهمة السامية، التي هي تجاوز أنانية الذات من أجل المجتمع ومن أجل الآخرين في إطار روح نكران الذات، زيادة على عدم ربط الغاية بالمصلحة الدنيوية، وربطها بكل ما يوصل إلى الله سبحانه وتعالى.

الإنسان أرقى المخلوقات، فهو ثمرة الوجود، وهو متصل برؤية الوراثة من زاوية وعد الله الثابت، بأن تكون وراثة الأرض للصالحين من عباده.

بعبارة أخرى إن الأستاذ يتوسم فيمن يتوجه إليهم بالخطاب أن يكونوا كأولئك الهمم العالية، يقول: “وإن همم هؤلاء المصطفَين لعالية علوًّا بحيث لا هم يكتفون بما يحرزون، ولا ييأسون أو يرتبكون إذا لم يحصلوا على ما يريدون. يعرفون أن التوفيق من الله، ويُرجعون إخفاقاتهم إلى أنفسهم. يقفون منتصبين في ثبات ويأبون أن ينهاروا، فإن حصلتْ لهم رجَّة من حيث لا يشعرون، استعادوا الثبات من فورهم ثم مضوا لسبيلهم. لا يفرحون بما ربحوا من حظوظ الدنيا فلا يندهشون بها، ولا يغتمون أو يتكدرون لفرصة أضاعوها.. فيعرفون أن الحظوظ كلها من الحق سبحانه، فتصيبُهم رعشة ورجفة خشية أن يتعرضوا للابتلاء من وجه، ومن جهة أخرى ترى ظهورهم منحنية خشوعًا ومهابة منه تعالى، لعلمهم أن كل الألطاف والإحسانات منه تعالى… فللوقفة السليمة السديدة لهؤلاء المصطفين الأخيار، لن يتخلى الله عنهم، بل يؤيدهم بنصره في الدنيا ويشرفهم بوراثة الأرض، ويورثهم “جنة الفردوس” في الآخرة. واقرأ إن شئت شاهدًا: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”(الأنبياء:105) والمعنى أن الأرض كلها ستصطبغ بصبغتهم… “أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”(المؤمنون:10-11)”.

فهؤلاء هم الذين يتحقق بهم بيان الله وتقريره بأن الأرض سيرثها الصالحون، كما سيرثون الفردوس بما سينشرونه من صبغة الصلاح أينما حلوا وارتحلوا، إذ قد لا يكون المراد هو أن يمتلكوا القوة والسلطة، فهذا ليس شرطًا من شروط الوراثة، لكن الأكيد هو أن تصطبغ الأرض بالقيم السامية التي يدعون إليها وأن تتوحد قبلة جميع من في الأرض لتحقيق العبودية لله عز وجل في أسمى معانيها وأوسعها.

فلسفة كولن في هذا الباب هو العمل على جعل السواد الأعظم من أفراد المجتمع الإنساني على وتيرة ورؤية واحدة تحقق العبودية في صورة إيقاع شبه مثالي لا يظهر فيه نبر نشاز مقارنة بأولئك الذين يعزفون إيقاعًا غير إيقاع الوجود كما وضع أنغامه الله سبحانه وتعالى”، وطبعها بالانسجام والتوازن ولكن هذه المهمة ليست مهمة سهلة تتحقق بين يوم وليلة أو بمجرد النية والقول بل هي عملية طويلة مضنية تحتاج إلى وعي عام، ووعي جمعي عالمي، وهو الوعي الذي يحتاج إلى تهيئة التربة وتخصيبها وتضحية أجيال من أجل تحقق ذلك، بل يحتاج الأمر إلى إخلاص مطلق من أجل تحقيق ذلك وبذل الغالي والنفيس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” للأستاذ فتح الله كولن هو أحد أهم الكتب التي ترجمت إلى العربية والتي بلغت 32 كتابا حتى الآن، طبع هذا الكتاب طبعات عديدة عن دار النيل للطباعة والنشر بالقاهرة، كما عقدت حول الكتاب ندوات ولقاءات علمية مختلفة أسفرت عن دراسات متعددة حول محتوى الكتاب ومفاهيمه المختلفة. (المحرر)

(2) الإِنْبيق: جهاز تُقَطَّر به السوائل، ويجمع على أنابيق. انظر قاموس المعاني.

About The Author

أستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة 1993م. حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 2002م. عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية منذ سنة 1994م. عضو مؤسس لمنتدى الحوار الأدبي. مؤلف كتاب «أشواق النهضة والانبعاث قراءة في مشروع الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي».

Related Posts