لقد عاش كولن خلال مرحلة التحصيل، متواصلاً مع المساجد ورجالاتها من القرآنيين، ولبث يرى ويعي كيف حالت السياسة بين المساجد وبين الرجال المؤهلين لتعميرها عبادة وتعليمًا وترشيدًا. كان الأتقياء يمارسون التعليم في بيوتهم، وأحيانًا كثيرة في سرية أو تحت التضييق، وكان ميراث السلف من المساجد عرضةً للإهمال، إما بسن القوانين والإجراءات التي تستبقيها مهجورة، مع ما يلحقها نتيجة ذلك من خراب، وإما باستغلالها وتحويلها إلى مرافق دنيوية منافية للدين فكم من دور عبادة تحولت حينها إلى خمارات ومطاعم ومرافق لهو. ولقد وجد كولن نفسه في فُتوته مضطرا إلى البحث عن مأوى يسكن إليه في رحلة التحصيل، فلم تسعفه إلا خرابة مسجد بأحد أحياء المدينة، استصلحها بمعية رفيق له، واستقر بها حينًا، ثم صارت منزلاً لطلبة قرآن آخرين محتاجين، خلفوه فيها.
مما لا شك فيه أن كولن ورث عن إقامته في المسجد خصالاً ذوقية، تتكشف آثارها على أصعدة الذوق والفكر والوجدان.
احتضان المسجد لكولن
حين لجأ كولن إلى المسجد، كان يحمل في نفسه رضوضًا حيال ما كان أصاب المساجد من تحطيم وتقزيم وتهوين. ولا ريب أن روحه في ذلك المُستَكَن الخَرِب، قد تألمت للمصير المشؤوم الذي رأى ميراث الأجداد القدسي يؤول إليه.. ومن المؤكد أن علاقته بالمسجد تعززت أكثر أثناء تلك الفترة بالذات؛ إذ وجد في كنف تلك السواري المهدمة دفئًا وحماية واحتضانًا عزَّ عليه أن يستحصله في مكان آخر. فلقد تعذر عليه -كما تحكي سيرته- أن يجد بقعة يكتريها بزهيد ما كان معه من مال.. ولا بد أن فكره كان يستغرقه التأمل في وضع الخراب الذي مُنِيَ به هيكل ذلك الحرم -ومئات المساجد أمثاله- في عهد التراجع، وأن ذلك المشهد كان يترك تباريح دامية على مشاعره وروحه، ولا بد أن عقله الغضّ في تلك المرحلة كان يختزن من الأحاسيس النازفة، ما سيؤسس لروحية إحيائية سيُكتَب له أن يضعها موضع التنفيذ في مستقبل الأيام.. روحية تراهن على حتمية الانتفاض والانبعاث الملي الذي يعيد للحياة شرفها، وللمقدسات حرمتها.
لا ريب أن روح كولن قد تألمت للمصير المشؤوم الذي آل إليه ميراث الأجداد القدسي في ذلك المُستَكَن الخَرِب بالمساجد.
ولأن تلك المشاهد المتهالكة كانت قاسية ومؤثرة، فستظهر آثارها النفسية لاحقًا في كتابات كولن، وفي خطابه الفكري على صورة فلسفة عملية تؤمن بإمكانية الانتصار على التحديات، وكسب رهانات الترميم والتشييد، وستغدو صورةُ الخراب والهدم والظلمة والوحشة، من مفاتيح الفكر الانتقادي التجاوزي لكولن، ومما لا شك فيه أنه ورث عن إقامته في المسجد خصالاً ذوقية، تتكشف آثارها على أصعدة الذوق والفكر والوجدان.
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن ، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ1، ٢٠١2، صـ 66/69
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.