كان كولن منذ الصغر يرى أن الموت باب للجواز إلى عالم الحياة والبقاء، وتلك عقيدة إيمانية يتلقنها الناشئ حين يشبّ في بيئة تحيا مُثُل الدين، ولا تنأى عنها في التفاصيل.. وطالما ودَّع باكيًا أحبة فقدهم، ووقف يشيّعهم بالدمع، ولسانه يضرع إلى الله أن يقبض روحه في الحال؛ ليلحق بهم.

ويومها انتحب كولن طويلا

لقد انتحب طويلا يوم أن عاد إلى بلدته ليجد الأسرة قد شيعت وفي يوم واحد، كلاً من جده وجدته.. يومها انتحب عاليًا، ودعا الله أن يقبض روحه ليتسنى له أن يلقى أعز مخلوقيْن لديه. لا ريب أن من شأن حادثة وفاتهما معًا في يوم واحد، أن يعزز هذا التمثل الذي كان يحمله في نفسه للموت؛ حيث كان يتصوره سفرًا يمكن للمرء أن يختار من يرافقه فيه. ولقد عاش نفس التجربة يوم وفاة أخيه المسيح؛ إذ بكى وأمّل في سره من الله أن يميته ليلقى أخاه.

كان كولن منذ الصغر يرى أن الموت باب للجواز إلى عالم الحياة والبقاء، وتلك عقيدة إيمانية يتلقنها الناشئ حين يشبّ في بيئة تحيا مُثُل الدين.

باب الموت

لقد ترسخت في نفسه للموت صورة الباب، وعززت ثقافتُه الدينيةُ القرآنية هذا التمثل لديه.. ولا غرو أن نجد هذا المعنى الذي قرَّ في ذهنه عن الموت، يتكرس فلسفة إحيائية سينهجها في حياته الشخصية؛ إذ ما زال يرى أن الجسد هو العائق الذي يحول دون النفاذ إلى رحاب الحرية والكمال الروحيين. فحين يتخلص المرء من تكاليف الجسد ومطالبه التي لا تنتهي، يحطّم عنه قيد البهيمية، ويتمكن من الاجتياز إلى شواطئ الكمال.

ونجد هذا التصور يتكرس لديه أيضًا في عقيدة نهضوية استطاع أن يقيم ركائزها -ولا يزال يرعاها- من خلال حراك الخدمة الذي تنتشر أفواجه اليوم في الآفاق، تصنع الغد. فبالخدمة يتم النفاذ من باب التخلف والانحطاط، إلى أفياء الازدهار والتطور.

يرى كولن أن الجسد هو العائق أمام النفاذ إلى رحاب الحرية والكمال الروحيين. فحين يتخلص المرء من تكاليف الجسد ، يحطّم قيد البهيمية، ويعبر إلى شواطئ الكمال.

كيف يقتل الجسد؟!

ولأجل أن تحيا الروح، لا بد من قتل الجسد  (أي قمع شهواته وملذاته المسفة) ، ولكي يحيا الإنسان لا بد أن يتكهف ويموت شهواتٍ وأهواءً، أشبه بالبذرة تُلقى في التراب، فتتحلل، قبل أن تأخذ طريقها لتصير شجرة مثقلة بالثمار.

إن تواتر موضوع الموت في كتابات كولن يعبّر -في بعض وجوهه- عن واقع ثقافي قائم في البيئة التركية، يتجاور فيه المسجد والمقبرة الخاصة؛ إذ في جوار كثير من المساجد تقوم تجمعات لقبور تستقر فيها رمم بُناة تلك المساجد (وأحيانًا مع أسرهم )

إن مظهر الأضرحة في جنبات المساجد، قد هيأ لشيوع ثقافة توطين فكرة الموت، وإعطائها صبغة سيكولوجية مُلطِّفة للحدادية التي تميزها في ثقافات الأمم والشعوب.

الأضرحة والاستئناس بالموت

إن مظهر الأضرحة في جنبات المساجد، قد هيأ لشيوع ثقافة توطين فكرة الموت، وإعطائها صبغة سيكولوجية مُلطِّفة للحدادية التي تميزها في ثقافات الأمم والشعوب.  ولا ريب أن من اختاروا لقبورهم وأضرحتهم أن تجاور المساجدَ، قد توخّوا تحصيل الشفاعة والاحتماء بتلك الجنبات المباركة، ولا بد أنه بسبب ترسُّخ هذا الاعتقاد، أضحت المزاوجة بين المسجد وضريح ظاهرة عمرانية وأرشتكتورالية لا يخطئ المرء مشاهدتها في حواضر تركيا، بل وحواضر المسلمين عامة.

وإن بعض هذا الاستئناس مع الموت الذي تغرسه البيئة الدينية في أرواحنا، تنعكس بعض أصدائه في كتابات الأستاذ كولن، يقول: “القبر ليس بئرًا مظلمة، ولا حفرة محاطة بالعدم، ولا غرفة سجن وعزل، بل هو باب مفتوح لعالم مضيء”[1]، كما يقول أيضا: “القبر صالون انتظار لعالم السعادة”[2].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ1، ٢٠١2، صـ162.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] ترانيم روح وأشجان قلب، صـ144.

[2]  الموازين أو أضواء على الطريق، صـ124.