كانت هذه هي الزيارة الثانية لي لتركيا وللزيارة الأولى قصة أخرى سنعود إليها بعد ذلك، وسبب هذه الزيارة له قصة بطلها شخصية سأتحدث عنه هنا في هذا المقال، فقد كنت أسكن مع بعض الإخوة الأتراك في مدينة نصر عقب تخرجي من الجامعة واشتغالي مدرسًا في إحدى المدارس الخاصة بعين شمس، وفي بعض الأيام لاحظت ترتيبات في الشقة على غير العادة واهتمام كبير بنظافتها وتهيئة مكان خاص فيها للضيوف، وعلمت أن شخصيات مهمة من تركيا ستزورنا وتقيم معنا بضعة أيام بمناسبة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وبعد أيام وصل الضيوف وكان منهم شخصية أظنني لم أتعرف على مثلها في حياتي، شاب في الثلاثينات من العمر أول مرة يزور فيها العالم العربي، يتكلم العربية بطلاقة غير معهودة في أقرانه حتى ممن يعيشون في مصر منذ سنين، بشوش طلق الوجه، عالم واسع الاطلاع والقراءة وله معرفة كبيرة بالمصادر والمراجع، إذا تحدثت معه في معلومة دينية يذكر لك مصدرها؛ من أي كتاب ومَن مؤلفه وسنة النشر وأهم الفصول التي يبحث فيها الكتاب ويذكر لك فقرة أعجبته منها، فكان بالنسبة لي -كطالب علم- شيئًا مذهلاً قلما تقع العين على نظيره، ثم هو مع كل ذلك متواضع شديد التواضع، إذا أثنيت عليه احمر وجهه خجلا، وقال: ليس الأمر كما تتصور فالعبد الفقير أقل مما تقول، والفضل كله بعد الله لأستاذي فتح الله كولن.

مَنْ جمال حتى تسأله ويجيب؟ اسأل المطلوب عن المطلوب.

كنت أنتظر بلهفة مجيئه في نهاية اليوم من المعرض لنتبادل الحديث حول موضوعات مختلفة من العلم والمعرفة، وكان ينتظرني ليقص عليّ بعربيته اللذيذة ما شاهده في مصر، ومن تعرف عليهم من الناس وما اشتراه من كتب. ثم يحكي لي مواقف من حياته ودراسته مع الأستاذ كولن وقصة الكتب التي قرأوها وكيف قرأوها وفي كم يوم أو شهر انتهوا منها على حسب طولها أو قصرها.

ومما حكاه لي من ذلك أن الأستاذ كولن كان إذا دخل رمضان يشمر عن ساعد الجد ويقرر أن ينتهي مع طلابه من كتاب لا يمكن أن ينتهي في شهر، وذكر لي من ذلك أنهم انتهوا مرة من كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي (المتوفى: 975هـ) في شهر رمضان وهو يقارب 18 مجلدا.

تجولت معه في المعرض وكان يقضي الساعات الطوال في المكتبة الواحدة يفلّيها كتابًا كتابًا، وعلمني طريقة عجيبة في كيفية إلمامه بالكتاب والتعرف عليه، فكان إذا رأى كتابا جديدا لم يطلع عليه من قبل يقرأ عنوانه ثم يقرأ بياناته التي على غلافه، ثم يفتح الكتاب ويقرأ مقدمته ويطالع الفهرس بالتفصيل ويختار موضوعا من هذا الفهرس ويقرأه وبهذا تتكون لديه معلومات حول الكتاب، ومن الطرائف التي وافقتها معه في هذا الباب أنه كان شغوفًا بالتعرف على العلماء والكتاب والمؤلفين، فإذا قابل أحد العلماء أو المفكرين أو الكتاب، يذكر له مجموع ما ألفه من كتب، والموضوعات التي تحدث فيها ويناقشه في بعض معلومات هذه الكتب. ويشير إلى أن الأستاذ كولن قد تحدث في هذا الموضوع واتفق معه في مثل هذه المعالجة والطرح فينبهر به الكاتب ويشعر أنه أمام شخصية فذة، وقد حدث هذا أمامي مرارًا وكانت بعض هذه اللقاءات على غير ترتيب مسبق.

كان الرجل نموذجًا في تدبير الوقت، والاستفادة من كل دقيقة فيه بحكمة وأخلاق عالية وتودد رائع للكبير والصغير.

ومن ذلك أنه تعرف على بعض العلماء في المعرض وتحدث معهم طويلاً ودعوه إلى زيارتهم ورحل إليهم في أماكنهم البعيدة.

كان الرجل نموذجًا في تدبير الوقت والاستفادة من كل دقيقة فيه بحكمة وأخلاق عالية وتودد رائع للكبير والصغير، ومن أطرف ما لقيته منه أنه كان يحب الحديث مع كل الناس حتى سائق التاكسي الذي كان غالبية الأتراك والطلاب الأجانب يخشون من الانبساط معه في الحديث حتى لا يخدعهم في الأجرة بعدما يعرف أنهم أجانب، كان يحدثه عن نفسه وبلده ويصادقه ويطلب منه أن يستمع إلى إذاعة القرآن، ثم يثني على قُراء مصر وخاصة المرحوم الشيخ مصطفى إسماعيل، ويتحدث عن مصر بكل حب واحترام وتقدير أكثر من المصريين أنفسهم. فكان سائق التاكسي ينتهي به الأمر إلى انبساط أساريره وسروره بهذا اللقاء وتلك المحادثة لدرجة أنه كان لا يناقش ما كنا نعطيه من أجرة، فقلت سبحان من ألان قلوب هؤلاء وحسّن أخلاقهم! وعبثا حاولت استخدام هذا المنهج بعده فما لقيت إلا الوجه الكالح، فكنت أضحك بيني وبين نفسي ويرد إلى خاطري هذا القول المأثور: “الفاتحة هي الفاتحة ولكن أين عمر؟”.

ليس الأمر كما تتصور فالعبد الفقير أقل مما تقول، والفضل كله بعد الله لأستاذي فتح الله كولن.

كان هذا الرجل اسمه “جمال” وكان اسمًا على مسمى، فما رأيته قط عابس الوجه، لصوته عذوبة وحلاوة، لا تجلس معه أي مجلس إلا ملأه بقراءة فصل كامل أو فقرات متعددة من كتابات الأستاذ كولن، أو رسائل الأستاذ بديع الزمان النورسي، أو أي كتاب آخر في انسيابية لا تشعر معها بمرور الوقت. وكان بارعا شديد البراعة في تمثل المعاني وهو يقرأ، كان يقرأ وكأنه يحدثك، وكنا إذا سألناه عن الأستاذ كولن أو الأستاذ النورسي سؤالا ًكان يفتح كتابا من كتبهما ويطلعك على إجابة سؤالك في فقرة من فقراته ويقول لك قبل أن يقرأ الجواب: مَنْ جمال حتى تسأله ويجيب؟ اسأل المطلوب عن المطلوب، إذا سألت عن الأستاذ كولن يجيبك الأستاذ كولن بنفسه ثم يشرع في القراءة.

وكان إذا عرف اهتمامك بأمر أو بموضوع ما يهدي إليك كتبًا في المجال الذي تهتم به. أذكر أنني كنت سجلت الماجستير حول السيدة عائشة بعد سنوات من هذا اللقاء الأول وكان كعادته يزور معرض القاهرة للكتاب كل عام، وكان يعدني بالزيارة في البيت فوجدته يحمل معه أحدث ما صدر من كتب ومراجع عن السيدة عائشة رضي الله عنها، اشتراها لي من معرض الكتاب.

كان منهم شخصية أظنني لم أتعرف على مثلها في حياتي، شاب في الثلاثينات من العمر أول مرة يزور فيها العالم العربي.

كان الأستاذ جمال أحد طلاب الأستاذ كولن المقربين ممن رباهم على عينه، ورئيس حلقة طلابه الدراسية والمشرف على تنظيمها. وفي أثناء هذه الزيارة حدثني كثيرا عن هذه الحلقات وكيفية سير الدروس فيها فشوقني إلى رؤيتها وعبرت له عن ذلك في استحياء مرة واحدة فقال لي: ستزورنا وتراها، ولم أكرر الطلب ولم يفتح معي الموضوع بعدها.

انتهى المعرض وسافر الأستاذ جمال وودعناه بالدموع ومضى وقت طويل شغلتنا الدنيا وأحوالها، ثم رنَّ هاتف البيت ورد عليه أحد الزملاء فإذا هو الأستاذ جمال يتحدث من تركيا، ثم طلب أن يتحدث إلي، تكلمنا وذكر لي أنه تحدث للأستاذ عن مصر وأحوالها وأهلها وطيبة شعبها وذكاء أبنائها، كما أخبر عنهم الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي حيث قال:” المصري ابن الإسلام الذكي” فسُرَّ لما سمع، ودعا لمصر وأهلها بكل خير، ثم أردف قائلا: ولم أنس ما تحدثنا فيه، فهل أنت مستعد للزيارة؟ فقلت: نعم بكل سرور، فقال: جهز نفسك لتكون معنا في الطابق الخامس تشاهد بالعيان ما حدثتك عنه بالبيان فكانت الزيارة.

 

About The Author

ليسانس آداب وتربية بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وماجستير في البلاغة والنقد بتقدير ممتاز بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة عن أطروحة بعنوان" الأساليب البيانية فيما أثر عن المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها"، وباحث دكتوراه بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، مشرف على إعداد وتحرير إصدارة نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية، nesemat.com، وشارك عضوًا في اللجنة العلمية لوضع السياسات العامة لمشروع "شهادة الكفاءة في اللغة العربية" باتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، الأمانة العامة بالقاهرة، التابع لجامعة الدول العربية. وحائز على جائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة "أفضل مؤلف في تعليم العربية للناطقين بغيرها 2017.

Related Posts