في زيارتي الأولى لتركيا قبل هذه الزيارة بعام، تقريبا في صيف 1995، كنت قد تجولت في معالم إسطنبول التاريخية والأثرية واطلعت على كثير من مناشط الخدمة ومؤسساتها وأقمت في المكان الحبيب إلى قلبي “تشاملجة” في الضفة الآسيوية من إسطنبول قرابة الشهر في سكن للطلاب. كما زرت أيضا مدينة قيصري الساحرة في وسط تركيا وأقمت هناك عدة أيام، وهناك كانت صدمة اكتشاف “الخدمة”؛ حيث قابلت بعض رجال الأعمال الذين ينفقون لإقامة مشاريع الخدمة في تركيا وآسيا الوسطى. وهناك أحسست أنني أرى صحابة من أمثال سيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف ما زالوا يحيون بيننا، لِما شاهدت من وجوه الإنفاق والمشاريع والمدارس والمؤسسات التي أنشأوها والتي يخططون لإنشائها في مناخ روحاني عجيب. هذا المناخ جعلني أدوِّن ملحوظة تفيد بأن على أن أقرأ أثر البيئة في التأثير على الشخصيات، وساعتها فكرت في قراءة كتاب “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان” لجمال حمدان، لأتعرف من خلاله على العناصر البيئية والجغرافية التي تميز مكانا عن غيره، وتَسِم أصحابه بسمات خاصة بهم. فقد أُلقي في روعي أن هذا الجمال الساحر الأخاذ في طبيعة هذه المدينة هو الذي جعل هذه النفوس سمحة سخية بهذا الشكل، وهو الذي جعل فكرهم في الإنفاق والعطاء يحمل أبعادا استراتيجية في فقه البناء الحضاري. لكن تبين لي بعد ذلك أنَّ أَمام هذه النفوس المضحية والأرواح التي نذرت أنفسها للحق رجلاً لم يَدْعُهم إلى أمرِ رشدٍ إلا طبَّقه على نفسه أولاً، واقتحم الطريق مع ما فيه من وعورة قبلهم ليعبَّده للسالكين خلفه فيسيروا فيه مطمئنين.
فأجابه الأستاذ جمال: إنه لا يريد أن يغادر المكان، فقال: هو من نفس مشربي.
في آخر هذه الزيارة مررنا مرورًا عابرًا بالطابق الخامس، حضرنا درسًا للأستاذ وقابلناه بعدها مقابلة لم تستغرق سوى خمس دقائق سلمنا عليه فيها، لذلك لما زرت إسطنبول في المرة الثانية لم يكن الخروج والتجول في الأماكن المختلفة يشغل بالي، بل كنت شغوفًا بمتابعة هذا “المصنع” الذي يصنع الأستاذ فيه أبناءه من تلامذته على عينه.
كان المبنى الذي يقيم فيه الأستاذ نموذجًا للمؤسسة المثالية من مؤسسات الخدمة، فقد كان مبنى مكونًا من عدة طوابق، خُصِّصتْ الطوابق الأولى منه للدرسخانه، أو ما يطلق عليها مراكز التأهيل الجامعي، وفيها يفد طلاب من مختلف المدارس الثانوية سواء التابعة للخدمة أو لغيرها يتهيأون لامتحانات الجامعة، وهي امتحانات عمومية يتنافس فيها ملايين من الطلاب ليترشح منهم ما يقارب مائة ألف في الجامعات التركية العامة والخاصة.
وهي مصنع أولي لهؤلاء الشباب الصغار يشرف عليهم علميًا وأخلاقيًا مجموعة من أمهر المدرسين والمربين من أبناء الخدمة ليؤهلوهم للالتحاق بالجامعات المختلفة، إلى جانب الإشراف على تقويمهم أخلاقيًّا وتربويًّا. وقد أسهمت هذه المراكز في وقاية الشباب من الانحراف العقدي والأخلاقي، وحصَّنتهم ضد التدخين والمخدرات السائد بكثرة وقتها في تركيا، وأتاحت لهم فرص الالتحاق بالجامعات رفيعة المستوى.
حدثت الإخوة الطلاب عن هذا الشعور فقالوا لي: كلنا هذا الرجل.
أما الطابق الخامس فهو مصنع التكرير النهائي الذي يُنتخب له من متخرجي الكليات الشرعية أذكياءُ الطلاب، وأكثرهم مسؤولية وتحملاً ليرافقوا الأستاذ في رحلته العلمية الدائمة منذ بداية حياته الدعوية؛ يثابر الواحد منهم مع الأستاذ في طريق العلم هذا من سنة إلى خمس سنوات، وأحيانا سبعة دون أن يفكر بالزواج، كلٌّ حسب طاقته وتحمله، وقليل منهم من واظب في هذه الرحلة أكثر من هذا. ثم يتخرج بعدها ليقوم بنفس الدور مع مجموعات أخرى علميًّا وأخلاقيًّا وتربويًّا ودعويًّا.
كان المبنى على بساطته راقيًا، فيه كل إمكانات الإقامة العلمية والحياتية، ويحتوي على مكتبة ضخمة تضم معظم الكتب قديمها وحديثها، فقد كان الأستاذ جمال من الأقدمين في حلقة طلاب الأستاذ يجلب إليها كل عام من معارض الكتب ما تيسر له حمله من طريف وتليد، إلى جانب الحواسيب المتطورة التي لا تكاد توجد في المكتبات الكبرى وعليها آخر إصدارات البرامج العلمية والحاسوبية.
كان المبنى الذي يقيم فيه الأستاذ نموذجًا للمؤسسة المثالية من مؤسسات الخدمة.
أما الطابق الأخير فهو طابق بانورامي ذو نوافذ زجاجية يطل على مناظر خلابة من إسطنبول الآسيوية من جهة، وعلى مضيق البسفور والسفن التي تمخر عبابه من جهة أخرى، لذا كان المقيم فيه لا يحتاج شيئًا من الدنيا سوى ذلك؛ أستاذ في معتكفه حاضر بين يديه أغلب ساعاته يرشده ويوجهه ويربيه، ومكتبة عامرة بصنوف الكتب في شتى ألوان المعرفة، ومناظر خلابة تستطيع أن تطالعها بين الفينة والأخرى، وطعام تركي شهي، وشاي تركي لا ينضب معينه، وصحبة من الأطهار لا يهتمون إلا بفك رموز العلماء في تصانيفهم وحل شفرات كتب التراث المجيدة، غافلين عما سواها من لذائذ ومتع.
كنت لا أفارق هذا المكان ساعة من ليل أو نهار، وفي مرات معدودة حدثتني نفسي أن أخرج لأتجول وحدي في الجوار، أرتاد مطعمًا أو أتجول على شاطئ البسفور الجميل، فكنت أخرج ثم أعود وأجدني مضطرًا أن أتغيب عن درس الأستاذ الصباحي، حتى لا يلاحظ آثار خروجي من هذا المكان الطيب بادية علي. وعندما حدثت الإخوة الطلاب عن هذا الشعور قالوا لي: كلنا هذا الرجل، فالانصباغ بهذا الجو الروحاني الذي يغمر المكان يجعلك تشعر بالفرق عندما تغادره.
أحسست أنني أرى صحابة من أمثال سيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف ما زالوا يحيون بيننا.
ذات درس من الدروس نظر إلي الأستاذ موجِّهًا حديثه إلى الأستاذ جمال قائلاً: هل جولتم ضيفنا في البلاد؟
فأجابه الأستاذ جمال: إنه لا يريد أن يغادر المكان، فقال: هو من نفس مشربي، بمعنى أنه لا يحب مغادرة هذا المكان أيضًا، ثم بدأ الأستاذ جمال يرتب لنا جولة في جذور الخدمة ومنابتها وهي حديث اللقاء القادم.