عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها”. هذه النبوءة الشريفة تمثل حقيقة كونية وعقدية لا تتغير ولا تتبدل، بل تتأكد على مر العصور وتعاقب الدهور. وهي تفتح الباب على مصراعيه للعقل، وتطلق طاقة الاجتهاد، وتدعو للتجديد والتحديث بما يؤكد عالمية الإسلام وقابلية الشريعة للتطبيق مع اختلاف البلدان وتباعد الأزمان واختلاف الحوادث والطبائع والعادات والتقاليد.

والمجددون قد يكونون علماء، وقد يكونون أمراء، وقد يكونون مزيجًا من هؤلاء وأولئك. ولا يشترط أن يكون التجديد على يدي عالم فرد بل قد يكون هناك علماء وأعلام متعددون يتزامن وجودهم في وقت واحد في أماكن مختلفة وتخصصات متباينة. ومن مجموع عطاءاتهم يتكون نهر التجديد.

ونحن نذكر في مصر أسماء المئات من المجددين في فترات تاريخية مختلفة ويحفل القرن العشرون بأسماء بارزة من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومصطفى المراغي، وسليم البشري، ومحمد متولي الشعراوي، ومحمد الغزالي،… وهناك مناظرون لهم هنا وهناك في هذا البلد الإسلامي أو ذاك.

وإذا كنا نذكر أسماء هؤلاء المجددين لريادتهم، فإن الشعب التركي المسلم يذكر بكل العرفان رجلاً كان له دور رائد وبارز في حركة التجديد والإحياء الديني هو العلاّمة بديع الزمان سعيد النورسي صاحب مجموعة “رسائل النور” التي تعد ثروة فقهية ودعوية هائلة. كما يذكر العالم النابغة محمد فتح الله كولن.

والشيخ محمد فتح الله كولن من مواليد عام 1941 في قرية قوروجك بمحافظة أرضروم. وقد نشأ في عائلة متدينة. وتضافرت جهود والده “رامِز أفندي” ووالدته “رفيعة هانم” على حسن تربيته وتعليمه القرآن منذ طفولته المبكرة. وحرص والده على تعليمه العربية والفارسية. وفي طفولته وصباه درس في المدرسة الدينية، وتردد على التكية، فجمع بين العلوم الدينية والتربية الروحية. ودرس النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد. وأضاف إليها دراسة الفلسفة والعلوم الوضعية. وتعرف بـ “رسائل النور” للعلامة سعيد النورسي وتأثر بها كثيرًا إذ كانت حركة تجديدية وإحيائية شاملة.

وعندما بلغ العشرين من عمره عُيّن إمامًا في جامع “أوجْ شرَفَلي” بمدينة “أدِرْنَة” حيث قضي بها عامين ونصف العام. ثم انتقل إلى جامع “كَسْتَانَهْ بَازَارِي” في إزمير، حيث مارس الدعوة وتحفيظ القرآن في مدرسة الجامع.. وفي عام 1970 بدأ بتنظيم مخيّمات للشباب تجمع بين الرياضة والتربية البدنية والعقلية والروحية. وفي عام 1971 اعتقل وحوكم بتهمة “محاولة تغيير الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنظام القائم، واستغلال الشعور الديني للشعب، وذلك بالقيام بتشكيل جمعية سرّية للوصول إلي هذا الهدف”.. وبعد ستة أشهر من اعتقاله تم إطلاق سراحه حيث تنقل في عدة مدن واستقر في “بُورْنُوفَا” بمحافظة “إزْمِير” حتى عام 1980. وفي هذه الأثناء كان يجوب البلاد، يلقي الدروس والمحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية، ويعقد الندوات والمجالس واللقاءات، فالتفّ حوله الناس وخاصة الشباب.

وكانت ثمرة نشاطه إقبال الناس على إقامة المدارس والأقسام الداخلية وإصدار الصحف والمجلات وإنشاء المطابع وإصدار الكتب وإقامة محطّة إذاعة وقناة تليفزيونية لخدمة البلاد والدعوة الإسلامية. وبعد انهيار الاتحاد السوفْيتي في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، انتشرت تلك المدارس انتشارًا سريعًا وشاملاً خاصة في مدن جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي المنهار.

وبعد عام 1990 بدأ الرجل حركة رائدة في مجال الحوار والتفاهم بين الفئات المختلفة والرموز الثقافية من مختلف التيارات وكذلك الحوار مع أتباع الأديان الأخرى بروح سمحة تعبر عن تسامح وسماحة الإسلام. ووجدت هذه الحركة صداها في تركيا وخارجها. وكان من ثمارها “دعوة البابا يوحنّا” له للقاء جرى في الفاتيكان للمناقشة حول الجوانب المشتركة بين الإسلام والمسيحية والعمل لما فيه خير الإنسانية.

أما الحصيلة الفكرية للشيخ محمد فتح الله كولن فكانت ألوفًا مؤلفة من الأشرطة السمعية والبصرية المحتوية على خطبه ومواعظه ومحاضراته وندواته. أما كتبه المنشورة فهي حتى الآن 22 كتاباً في موضوعات متنوعة ما بين دراسات في القرآن والسيرة والسنة والفقه والعقيدة والتربية والشعر. فهي شديدة التنوع وشديدة الثراء.

وترجم العديد من كتبه إلى اللغات العربية والإنجليزية والألمانية والبلغارية والألبانية والأندونيسية والروسية وغيرها من اللغات.

وأما كتبه المترجمة للغة العربيه فهي:

  • النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم: مفخرة الانسانية (سبعة أجزاء)
  • القدر في ضوء الكتاب والسنة
  • الموازين أو أضواء على الطريق
  • أسئلة العصر المحيرة
  • إعلاء كلمة الله أو الجهاد
  • طرق الإرشاد في الفكر والحياة
  • أضواء قرآنية في سماء الوجدان
  • ونحن نقيم صرح الروح

وبعض هذه الكتب هي دروس ومحاضرات ومواعظ قام تلاميذه بجمعها وتصنيفها وإعدادها للنشر بعد موافقة وتصحيح الشيخ كولن نفسه.

مسك الختام

قال الله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء:13-14)

****************

نشر المقال لأول مرة: 27 يوليو 2004.