مخلص

تلتقي حركة الخدمة بأهدافها وفلسفتها الإصلاحيةودورها الحضاري الرائد، الداعي إلى محاربة العنف والتطرف، ونشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي وقبول الآخر، مع الأزهر الشريف منبر الاعتدال والوسطيةفي العالم الإسلامي.

وليس أدل على ذلك من مناقشة جامعة الأزهر أربع رسائل علمية ما بين دكتوراه وماجستير إلى الآن حول الفكر الإصلاحي الحضاري والدعوي للأستاذ فتح الله كولن.

والرسالة التي يعرض لها لها الباحث يحيى سلام في هذا المقال هي آخر رسالة نوقشت في جامعة الأزهر كلية أصول الدين والدعوة، قسم الثقافة الإسلامية، وكانت بعنوان: “محمد فتح الله كولن وآراؤه الإصلاحية -دراسة تحليلية، وفيها استعرض الباحث أثر البيئة في تكوين شخصية الأستاذ فتح الله كولن، وتوقف عند أهم المحطات الفكرية التي أثرت معارفه وشخصيته العرفانية، وأهم سمات حركة كولن الفكرية، وركائز وآليات الإصلاحالتي قام عليها مشروعه الإصلحي.

المقال

اقتضت سنة الله جلا وعلا في كل زمان ومكان أن يقيض لهذا الدين من يقوم بالدعوة إليه، والحرص عليه، فحفظ الله هذا الدين برجال مخلصين، وأئمة يُقتدى بهم وهم العلماءُ العاملون، الذين هم ورثةُ علم النبوةِ، هيأهم الله تعالى لخدمة هذا الدين، فأفنَوا أعمارهم في خدمة الكتابِ والسنة، واجتهدوا في الاستقامة على هديِهما، والدعوة إلى التمسك بهما، حملوا راية الدين جيلاً بعد جيل، على مر الزمان وتعاقب الشهور والأعوام من هؤلاء الشيخ محمد فتح الله كولن.

ومن ثم كانت هذه الدراسة التي تتناول إحدى أهم وأكبر حركات الدعوة والإصلاح؛ التي أسَّسها الأستاذ محمّد فتْحُ الله كولن؛ من خلال هذا المنهج الإصلاحي الذي قام على رصد مشكلات المسلمين والتعرف على أسباب تلك المشكلات ووضع المنهج الإصلاحي الذي يقوم على التغيير الإيجابي في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

إن تجربة الشيخ كولن تجربة دعوية خالصة سواء في المنطلقات والغايات أو في الوسائل والأساليب، ومن ثم فحركة الخدمة ليست تنظيمًا مغلقًا أو حزبًا سياسيًّا، ولا حركة ذات إطار محدد، أو شروط عضوية مثلاً، وإنما هي طريق عمومي ليس ملكًا لأحد أو حكرًا على فئة بعينها.

لقد استطاعت تجربة كولن الجمع بنجاح بين الفكر والحركة، النظرية والتطبيق، العقل والعاطفة، التربية والسلوك، في توازن فكري وحركية مبدعة، دون تقييد لحرية العاملين.

لقد استطاعت تجربة الشيخ كولن الجمع بنجاح بين الفكر والحركة، النظرية والتطبيق، العقل والعاطفة، التربية والسلوك، في توازن فكري وحركية مبدعة، دون تقييد لحرية العاملين أو حجراً على إبداعهم، والحقيقة أن أمتنا ـ اليوم ـ في أمس الحاجة إلى الجمع بين الفكر والحركة، وتحويل النظريات إلى نماذج حية واقعية، والسير على درب يُزاوج بين العقل والعاطفة، والتربية والسلوك.

أولاً: أثر البيئة في تكوين شخصية كولن

وُلِدَ فتحُ الله كولن في السابعِ والعشرينَ من أبريل، لعام ألفٍ وتسعمائةٍ وواحدٍ وأربعينَ من الميلادِ، في قريةِ «كوروجك» بمحافظة «أرضروم»ِ، ونشأ في عائلةٍ متدينةٍ. التحق بمدرسة عموميةٍ ودرس فيها لمدة ثلاثِ سنواتٍ غيرَ أنه لم يُكمل فيها دراستَه النظاميةَ بسببِ انتقالِ الأسرةِ إلى قرية ٍصغيرةٍ انعدمت فيها المدارسُ”(1).

اعتنى بدراسة العلوم الإسلامية، قرآنًا وحديثًا وسيرة وتصوفًا وعربية، متأثرًا بشيخه محمد لطفي أفندي، وقد ساعده على ذلك جو الأسرة التي احتضنته، علاوة على الجو الصوفي في التكايا التي نشأ فيها حيث كانت موئلاً للمشايخ وطلاب العلم. وتكشف سيرة والده ووالدته، وكذلك سيرة عائلته الممتدة إلى جده الأعلى السيد “خليل”، عن أن الخصال الطيبة، والتدين، وحسن السيرة بين الناس، تلك هي القيم التي شكلت “المشترك العائلي” لمحْضِنه الاجتماعي الأول الذي نشأ فيه، وتأثر به في مراحل الطفولة والصبا ومطالع مرحلة الشباب، وينسجم هذا “المشترك العائلي” بنزعته للتدين والمحافظة؟ مع “المشترك الأناضولي” -إن جاز التعبير- الذي يتسم هو الآخر بذات النزعة التي تشمل الغالبية العظمى من مسلمي هضبة الأناضول منذ اعتنق أهلها الإسلام.

ولقد تحدث الشيخ كولن عن الحياة الروحية لجدته مؤنسة هانم، وعن فرط حبها له، قائلاً إنها: “كانت تعيش حياة روحية خاصة؛ فهي كثيرة التفكر والبكاء، وتحترم المشايخ والعلماء الكبار، وكانت تهتم بي اهتمامًا خاصًّا، لم أرها مرة واحدة تنظر إليَّ نظرة غضب، كانت رقيقة القلب لينة الطبع، لها عمق كالبحر المحيط، مؤمنة بربها، ورعة تقية، وشخصية أصيلة”(2).

إن تجربة كولن تجربة دعوية خالصة سواء في المنطلقات والغايات أو في الوسائل والأساليب، ومن ثم فحركة الخدمة طريق عمومي ليس ملكًا لأحد أو حكرًا على فئة بعينها. 

ولا شك أن هذه الخصال أسهمت إسهامًا كبيرًا في بناء شخصية فتح الله كولن ولعبت دورًا كبيرًا في تكوينه الروحي فسار مرهف الحس رقيق القلب غزير البكاء من خشية الله.

أما الوالد فقد أبى إلا أن يكون أبًا وصديقًا لفتح الله كولن وأن يصاحبه في طلب العلم ويشجعه عليه، كذلك الأم التي لم تدخر كذلك جهدًا في أن يتقن الطفل فتح الله القرآن الكريم منذ سن مبكرة. والحاصل أن فتح الله كولن، قد أتيح له أن يتربى تربية إسلامية أصيلة رغم الظروف القاسية التي كانت تسيطر على الواقع وتحاصره آنذاك.

ثانيًا: أهم المحطات في حياته الفكرية

مرّت حياة الشيخ فتح الله كولن بعددٍ من المحطات أسهمت -بدرجات متفاوتة- في تكوينه الفكري والثقافي يمكن حصرها فيما يلي:

المحطة الأولى

نظام التعليم الذي انخرط فيه والتحق به في قريته، ثم في أرضروم حيث «كان حظ محمد فتح الله من التعليم النظامي الرسمي «الأتاتوركي» قليلاً مقارنةً بحظه من التعليم غير الرسمي؛ فهو لم ينتظم في التعليم الحكومي إلا مدة سنتين ونصف السنة من المرحلة الابتدائية فقط، أمضاهما في مدرسة متواضعة بقريته «كوروجك» في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. وكانت العلمانية الأتاتوركية المتشددة ضد الدين لا تزال في عنفوانها في تلك الفترة، وفي منتصف العام الثالث له بالمدرسة الابتدائية قرر والده رامز أفندي أن يمنعه من الذهاب إلى المدرسة، نظرًا لما كان يلاقيه من عنت، وخوفًا عليه من نظم التعليم العلمانية في المدارس الحكومية، شأنه في ذلك شأن العديد من أولياء الأمور.

المحطة الثانية

تأثره ببعض أساتذته وكبار معاصريه من المفكرين والعلماء على نحو خاص، وذلك بقراءته مؤلفاتهم، وإعجابه بأعمالهم وأفكارهم، وقد كان الشيخ “محمد لطفي الألوارلي” هو الأكثر تأثيرًا في تكوينه الروحي والمعرفي، مقارنة ببقية الأساتذة الذين درس على أيديهم خارج المدرسة، يقول الشيخ كولن: “كنت أتذوق كلامه كمن يتذوق شهدًا خالصًا. كنت إذا تحدث، أُنصت إليه، وكأنَّ على رأسي الطير، فكلامه ينفذ سريعًا إلى أعماقي، كنت أشعر أنني بإزاء عالم عظيم الشأن”(3).

وقد ظهر هذا واضحا علي الشيخ كولن في الأثر الذي تركه الشيخ “محمد لطفي الألوارلي” في وجدان تلميذه فتح الله، ونفعه الله به، كما نفع آخرين. يقول الشيخ كولن عنه إنه “رغم مرور السنين لا زلت أشعر بأثر لمسات الشيخ محمد لطفي الحانية على أذني، وهو يقول لي: «ألِنْ أُذُنيك، وأصغِ جيدًا لكي يتفتح ذكاؤك وتقوى فراستك”(4).

لقد تعلم كولن الرفق، ومرعاة مشاعر الآخرين والتلطف في نصحهم، من الدروس التربوية التي تشربها من والده ومن شيخه محمد لطفي، وأثمرت في منهجه الدعوي والإرشادي.

وقد تعلم الشيخ كولن الرفق، ومراعاة مشاعر الآخرين والتلطف في نصحهم، من الدروس التربوية التي تشربها من والده ومن شيخه محمد لطفي، وأثمرت هذه الدروس ثمارًا طيبة تجلت -فيما بعد- في منهجه الدعوي والإرشادي وفي كتاباته المتنوعة(5).

المحطة الثالثة

قراءاته الحرة في مصادر المعرفة المتنوعة التي أتيحت له، وشغف هو بها. حيث شكلت القراءات الحرة مصدرًا رئيسًا من مصادر بناء ووعي محمد فتح الله وتكوينه الفكري والثقافي منذ وقت باكر جدًّا من حياته، وزادت وتيرة هذه القراءات واتسع نطاقها الموضوعي، حتى استوعبت النظريات الفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية التي أنتجتها أكبر العقول في الحضارة الغربية الحديثة.

لقد واصل كولن بنفسه تعليمه الحديث الذي كان قد بدأ في المدرسة الابتدائية في مجالات العلوم والفلسفة والأدب والتاريخ، وإلى جانب ضَلَاعَتِه في المبادئ الأساسية للعلوم الحديثة بدءًا من الفيزياء إلى الكيمياء، ومرورًا بالأحياء إلى الفَلك من جانبٍ، تعرَّف من جانب آخر على الفلاسفة الوجوديين وفلسفة الشرق والغرب بمصادرهما الأمِّ المختلفة؛ فأفرزت كلُّ هذه الأمور إلى جانب المعرفة العميقة والعشق الفيَّاض، والعلم الواسع والمنطق المحيط والمحاكمة العقلية، والحكمة والحماس في الوقت ذاته، بل والبصيرة والفراسة القادرة على تحقيق التوازن في كل شيء، ثم الصفاء والرِّقّة والكرم والتسليم والمعاناة والأنين والعفَّة والتقوى والشفقة والرحمة والتسامح، وفي المقابل الحماسة المطلقة والأمل والمثالية والنظام المنضبط.. أفرزت نموذجَ صبرٍ عميق، وإنسان تربية وحركة عَرَفه الرأي العام بالأستاذ فتح الله، ولقَّبه من يعرفونه عن قُرب بلقب «خوجه أفندي» أي السيد الأستاذ(6).

إن الأستاذ كولن بما يلم به من علوم الفقه والكلام والتصوف والحديث والفلسفة واللغة واللطائف القرآنية، والأدب والبلاغة والفن يُعدُّ “موسوعة” بكل معنى الكلمة.

فمن يطالع سيرة «الشيخ كولن «يجد أنه كان شغوفًا منذ صغره بالقراءة وتحصيل المعرفة من مصادر متنوعة. ولكن أيًّا كانت قوة شغفه هذه، فإن اختياراته كانت محصورة في بدايات حياته بما هو متاح أمامه من كتب، وقد كان أغلبها كتبًا تراثية، منها ما هو في اللغة، ومنها ما هو في الفقه والأصول والسيرة النبوية.

وقد ساعده على ذلك مكتبة والده المتواضعة التي تحتوي على بعض كتب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وكانت تلك الكتب هي أول ما شد انتباهه وهو طفل صغير، حيث كان يرى والده يُكثر القراءة فيها حتى بدت ممزقة من كثرة قراءته لها.

المحطة الرابعة

المناخ الثقافي العام للمجتمع التركي، وقضايا العصر الذي عاش فيه وتأثر به، وخاصة أن وعيه قد تشكل منذ صباه الباكر في سياق الأحداث التي كانت تمر بها تركيا بعد رحيل أتاتورك مؤسس الجمهورية سنة 1938م، واحتدام الصراعات الدولية إبان الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وصولاً إلى تحديات العولمة.

ثالثًا: السمات الفكرية للشيخ كولن

1- التعدد المعرفي: “بالنظر إلى مختلف المصادر المعرفية التقليدية التي درسها على شيوخه، أو المعارف والفلسفات المعاصرة التي طالعها بنفسه، فقد أكسبه هذا كله استحقاق صفة “العالم” ولذلك فإن فتح الله كولن يُعد بحق عالمًا من علماء الشريعة المجتهدين، كما جلس للإفتاء ودرس العلوم الشرعية وتخرج على يده ثلة من الطلبة والعلماء هم اليوم في الحركة التي تأسست بفضل صدقه وإخلاصه”(7)، ومن ثمَّ يمكننا القول إن كولن بشخصيته العلمية والروحية الكاريزمية، وبأسلوب حياته البسيطة المتواضعة والزاهدة يعتبَر من أواخر حلقات التقاليد العلمية الإسلامية العريقة.

إن أي نهضة منشودة أو إصلاح مرجوّ لن يتحقق كما يرى الأستاذ كولن إلّا بالإصلاح الجاد في ملكات الشخصية المسلمة العقلية والروحية والفكرية.

أجل، إن الأستاذ بما يلم به من علوم الفقه والكلام والتصوف والحديث والفلسفة واللغة واللطائف القرآنية، والأدب والبلاغة والفن والجمال، وبأسلوبه المشحون بالعواطف والمعنويات… إنه بهذه الأمور “موسوعة” بكل معنى الكلمة. فأسلوبه يستقي من مختلف المنابع الثقافية الواسعة.

علاوة على ذلك، فإن الأستاذ -من منظور أوسع- يظل مرتبطًا في جميع ما يتناوله من المواضيع بـ”رؤية حضارية” يحمل همّها. فالأدوات الفكرية والفلسفية والعقدية في خطابه، مرتبطة بـالجذور المعرفية لهذه المراجع الثلاثة لنظام المعرفة الإسلامية. وعلى الأخص فالشبكة المفاهيمية للمقالات الرئيسية التي كتبها، تؤكد دائمًا على إنشاء رؤية حضارية ذات محتوى شامل.

2- الكتابة والتأليف: الشيخ كولن إلى جانب كل هذا كاتب لا يتوقف قلمه، فهو مؤلف يحتل المقام الأول في مجاله من خلال كتابته للمقال الرئيسي في العديد من المجلات والصحف، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب والمؤلفات، يزيد عددها عن سبعين كتابًا ترجم بعضها إلى لغات أخرى، كالإنجليزية والألمانية والروسية والفرنسية. وبالنسبة للعربية فقد ترجم ما يتجاوز الثلاثين كتابًا من كتبه إلى اللغة العربية، والتي قامت بنشرها وطباعتها دار النيل للطباعة والنشر بالقاهرة، وقد غُيّر مسماها حديثا إلى دار الانبعاث للطباعة والنشر(8).

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن لفتح الله كولن: آراءه المميزة في علم الاجتماع وفي علم النفس وفي السياسة والاقتصاد، والفلسفة المعاصرة والقديمة، الإسلامية وغير الإسلامية، بالإضافة إلى معرفة دقيقة بتاريخ الأمم والحضارات، وهو عندما يتحدث في المجال تحسبه مؤرخا متخصصًا في تاريخ الحضارة والمدنية والعمران.

وكولن فوق كل ذلك رجل تربية وتعليم، وصاحب تجربة عميقة في هذا المجال؛ فقد مارس التعليم بصنوفه المختلفة العصرية والتقليدية، وألف في هذا المجال(9).

3- النموذجية في تقديم الشخصية المسلمة العصرية: اتسم فكر الشيخ محمد فتح الله، بالنموذجية في تقديم الشخصية المسلمة العصرية المعتمدة على العلم والحركة والقائمة على الأخلاق والمثل والمبادئ الإسلامية التي يزخر بها ديننا القويم ويصل بها إلى درجة عالية من الرقي الروحي والاجتماعي معا من خلال نسق متوازن وسليم.

إن منهج الإصلاح عند كولن قائم ومرتكز على قضية التربية، والمراد بالتربية هنا، هي التربية الشمولية، التي تشمل الإنسان في جميع مراحل حياته.

فمن استطلع أو نظر إلى الأعمال التي يقدمها الشيخ كولن سواء من خلال مؤلفاته، أو مقالاته في الصحف والمجلات، أو من خلال خطبه ودروسه، ومواعظه، لوجد أنها تنصب جميعًا نحو غاية واحدة ألا وهي: تربية الأجيال المسلمة المعاصرة عقليًّا وروحيًّا بهدف خلق إنسان جديد بفكر جديد يستطيع الموازنة بين القلب والعقل، وبين الوحي ومتطلبات العصر، وبين الدين والحياة.

إن أيَّ نهضة منشودة أو إصلاح مرجوّ لن يتحقق كما يرى الشيخ كولن إلَّا بالإصلاح الجاد في ملكات الشخصية المسلمة العقلية، والروحية، والفكرية، فالصالحون من عباد الله هم ورثة الأرض قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون(الأنبياء، 105).

وفي هذا الصدد يقول الأستاذ كولن: “إن أول خطوة في مشروع الإصلاح، هي إنتاج الإنسان، الإنسانُ الذي أفنى نفسه في قضية أمته، وتعلق قلبه بأشواق الآخرة، ثم اتخذ مهمته التعليمية مسلكًا لمعرفة الله وعمارة الأرض”(10).

ويحدد الشيخ كولن مهمة الإصلاح وسبله ووسائله التي ينبغي على الإنسان أن يحققها، فيقول: “إن إصلاح الأجيال، مرتهن بإصلاح التعليم، وإخراج فلسفته من ضيق المنطق الوظيفي الميت، إلى سعة العمل الإنساني النبيل، ألا وهو بناء الإنسان بكل أبعاده النفسية والفكرية. وإن التعليم بهذا المنطق النبوي الكريم، يستطيع أن يجدد البنى الاقتصاديةَ، والعلاقات الاجتماعية والسياسيةَ والثقافية، ويحدوها برفق وهدوء، نحو التآلف والتكامل والنهوض”(11).

ثم يشرح الأستاذ كولن حقيقة الإصلاح الذي ينشده فيقول: “إن الإصلاح تربية وتعليم، وما كان ينبغي للمعلم إلا أن يكون رحيمًا حكيمًا. ومن ثَمَّ فإن التعليم بكل أبعاده الشمولية، هو الذي يمثل جوهر المنهاج الإصلاحي”(12).

فمنهج الإصلاح عند كولن قائم ومرتكز على قضية التربية، والمراد بالتربية هنا، هي التربية الشمولية، التي تشمل الإنسان في جميع مراحل حياته.

رابعًا: ركائز وآليات الإصلاح في مشروع الأستاذ كولن الإصلاحي

أ- الاعتماد على القرآن الكريم: يلتقي الأستاذ فتح الله كولن مع العديد من مفكري الإصلاح في قضية الارتكاز على القرآن الكريم، فأغلب مفكري الإصلاح إن لم نقل كل مفكري الإصلاح الذين ينطلقون من رؤية إسلامية يجمعون على ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم.

فالأستاذ دائم الإلحاح على مركزية القرآن الكريم والسنة النبوية في مصادر الثقافة الذاتية كما يطلق عليها، وهو عندما يثيرهما نلاحظ بأنه يربطهما بالعلاقة الرابطة بين “الإنسان-الكائنات-الله”، على أساس وجوب إدراك هذه العناصر كلها في بوتقة واحدة، إذ تعتبر هذه العلاقة من أهم الأسس التي ينبني عليها نظام ثقافتنا الذاتية.

إن القرآن جاء لينظم قوافل الأحياء البشرية، فهو لي كتابًا يُقرأ على الموتى لنتلمس لهم الغفران كما يتوهم البعض، أو يوضع على الأرفف في البيوت أو يعلق في السيارات للتبرك.

وفي مواضع عديدة يؤكد كولن أن تلك العلاقة لا ينبغي أن تقف عند حدود الخطاب بل يركز على “جانب الحضور الفعلي لهذين المصدرين في الحياة من خلال بناء نماذج بشرية متحلية بثقافة تستمد مرجعيتها من سنة رسول الله ومنهجه في الحياة ومنهجه في التفاعل مع الكون، ومن خلال الاسترشاد بالقرآن الكريم وما يتصل به من تفسير وفقه وأصول فقه.. وهو إذ ينبه إلى ذلك كله إنما ينبه إلى الأساس المتين الذي يكون خير عون للإنسان في مسيرة البناء والانبعاث من جديد والنهضة.. وهو كذلك إذ ينبه إلى ذلك يؤكد بأن كل منطلق لا ينطلق من خصوصيات ذاتية، فإن نتاجه ومخرجاته سلبية لا محالة، ولن يكون هناك انبعاث ولا نهضة، ولذلك وجب الارتكاز على هذه الخصوصيات. بمعنى أن الأستاذ فتح الله كولن يجعل القرآن الكريم والسنة النبوية وتوابعهما شرطين أساسيين للانبعاث الحضاري والنهضة والتقدم. ولا يقف هذا الرجوع إلى هذه الأصول عند مجرد اجترار ما قدمه السلف، بل لا بد للأجيال الحالية من أن تسجل حضورها”(13).

لقد طاف الشيخ كولن في معاني وأسرار القرآن الكريم الذي جعله الله آخر اتصال بين السماء والأرض فشرع الأستاذ في تدبر آياته وتفهم معانيه وغاص في أسراره ليستخرج من جواهره ولؤلؤه ما يستغني به الإنسان عن غيره، لقد فهم الشيخ كولن أن القرآن جاء لينظم قوافل الأحياء البشرية، فهو ليس كتابا يقرأ على الموتى لنلتمس لهم الغفران كما يتوهم البعض، أو يوضع على الأرفف في البيوت أو يعلق في السيارات للتبرك كما فهم بعضنا، ولكن القرآن كتاب كون وحياة، كتاب دين ودنيا، كتاب جاء لينظم القوافل البشرية ويقدم لها كل ما فيه صلاح وإصلاح ونفع لحياتهم. تلك هي نظرة الشيخ أخي القارئ إلى كتاب الله المنبع الصافي والجواب الشافي لكل معضلات الحياة.

ب- السنة ودورها الإصلاحي في رؤية فتح الله كولن: يأتي ثاني أهم مرتكز من  مرتكزات الإصلاح  عند الأستاذ فتح الله كولن متمثلاً في “السنة النبوية المطهرة» التي تحتل مكانة مهمة جدًا في رؤية الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحية، نظرا لأنها -كما يرى الأستاذ فتح الله- الوجه الآخر للقرآن الكريم، والصورة المطبقة لحقيقة القرآن الكريم، يقول  الشيخ كولن: “كان الرسول قرآنًا يمشي، فكما أن القرآن المنظور تفصيل للقرآن المكتوب، وكما أن القرآن المكتوب ترميز للقرآن المنظور، فإن السيرة النبوية الشريفة هي القرآن المطبق، ولذلك يستحيل الاستغناء عن السنة والسيرة النبوية في استيعاب أبعاد القرآن الكريم الدلالية والتداولية”(14).

إن السيرة النبوية الشريفة هي القرآن المطبق، ولذلك يستحيل الاستغناء عن السنة النبوية في استيعاب أبعاد القرآن الكريم الدلالية والتداولية.

ولأهمية هذا الجانب في مشروع الشيخ كولن الإصلاحي فقد أولاه عناية خاصة، ويمكن تقسيم هذه العناية إلى ثلاثة جوانب: –

الجانب الأول: مرتبط بطبيعة شخصية الأستاذ كولن

إذ جعل من السنة النبوية منهجًا شخصيًا يتمثل في الاجتهاد في اتباع جميع الجوانب المتعلقة بالسيرة النبوية من خلال اتخاذ شخصية الرسول قدوة يقتدي بها في جميع تفاصيل حياته. والظاهر -من خلال ما يرويه تلامذته عنه: “أنه حريص على تطبيق السنة النبوية حرصًا لا مثيل له، وليس هذا غريبًا على مربٍّ عاش حياته كلها وقلبه متشبثٌ بعصر الصحابة أو بما يُطلِق هو عليه “عصر السعادة”، وهو حريص كذلك كل الحرص على أن يتخذ تلاميذه الصحابة الكرام قدوة لهم، وأن تكون السيرة النبوية وسيرة الصحابة الكرام منهجًا يحرك كل فعل وسلوك”(15).

الجانب الثاني: التطبيق للسنة النبوية المطهرة

إن اهتمام الأستاذ كولن بصورة خاصة، والخدمة بصفة عامة بهذا الجانب يتجلى على الخصوص في العمل على تنزيل مبادئ السنة في الحياة الواقعية؛ لأن السنة ليست مجرد مظهر احتفالي في رؤية الخدمة، بل هي منهج حياة؛ لأن عددًا كبيرًا من المنخرطين في “الخدمة” قد لا يُقنعون المتلقي في تحديد ماهية السنة وتعريفها، لكن عندما تعايشهم عن قرب تلمس في تصرفاتهم وأقوالهم مظاهر من السنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة الكرام.

الجانب الثالث: المتصل بالتأليف

لقد اهتم الشيخ كولن بالسيرة من خلال تدريسه لسلسلة من المحاضرات والخطب حول السنة والسيرة النبوية، وهي الخطب التي صارت أصلاً لكتاب هو اليوم من أهم كتب السيرة في العصر الحديث، وهو “كتاب النور الخالد” (16)، الذي يعد رؤية حركية للسيرة النبوية الشريفة(17).

خصص الأستاذ فتح الله كولن في نهاية كتاب “النور الخالد” ملحقًا عنوانه “السنة النبوية ومكانتها في الشريعة الإسلامية”، كدليل على أهمية هذا المكون بالنسبة للثقافة الذاتية للمسلم، كما يدل في الوقت نفسه على صفاء السنة من الشوائب التي قد تطعن فيها، لكنها تدل في الوقت نفسه على الدور الذي قام به الصحابة الكرام في تدوين السنة والحفاظ عليها، والدور الذي قام به كبار العلماء الذين تربّوا على السنة النبوية من خلال وضعهم للضوابط التي حصّنت السنة وحمَتْها من التحريف والتزوير، من خلال بنائهم لمنظومة “علم الحديث” الذي يعتبر اليوم من أكثر العلوم دقة وانضباطًا للمنهج العلمي الذي توصّل إليه العقل البشري.

عندما تركت الأسس التربوية القرآنية والنبوية وجُرّبت النظم التربوية الأخرى التي وضعها علماء النفس وعلماء الاجتماع وجدنا جيلًا متخبطًا في حياته لا يدري في أي في أي الاتجاهين يسير.

إن الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، ووضع خطة عمل لتفعيل ذلك، وهذا الجانب هو في صميم الرؤية الفكرية للأستاذ كولن، حيث يرى أن تأسيس الأجيال على الأسس التربوية المستقاة من القرآن الكريم والسنة النبوية أمر لا رجعة فيه، وأنه عندما تركت هذه الأسس التربوية القرآنية والنبوية وجرّبت النظم التربوية الأخرى التي وضعها علماء النفس وعلماء الاجتماع وجدنا جيلاً متخبطًا في حياته لا يدري في أي الاتجاهين يسير، يقول الشيخ كولن: “رأينا أجيالاً من الشباب الضائع الغارق في المشاكل والمضطرب في تيار الأهواء ونوازع النفس. وستبقى الإنسانية تتجرع الآلام وتعيش في الأزمات طالما كانت بعيدة عن أسس التربية القرآنية. ولكن عندما تتصادق الإنسانية مع القرآن ستفهمه وتدرك مراميه وتستسلم له فتصل إلى شاطئ الأمن والطمأنينة. أي لن تجد القلوب ولا العقول غذاءها ولا سعادتها إلا عند توجيهات القرآن وأوامره”(18).

ج- المدرسة ودورها الإصلاحي في مشروع الأستاذ كولن الإصلاحي: يعد الشيخ فتح الله كولن واحدًا من أبرز الداعين إلى إصلاح المجتمع من خلال التعليم، ولكنه يتميز بصدارة التطبيق العملي لهذه الدعوة والنجاح الباهر في نتاجها. “فقد آمن الأستاذ فتح الله كولن مبكرًا بأن أعداء الأمة الحقيقيين ثلاث آفات، هي: (الجهل والفقر والفرقة). فنذر حياته لمحاربة هذا التلوث الذي يفتك بالأمة جاعلاً من محاربة الجهل أولويته الأولى باعتباره من أهم العقبات أمام بناء الإنسان الصالح، ومن ثم المجتمع الصالح”(19).

يقول الأستاذ كولن: “لقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه عندما أرسل سيدنا مصعب بن عُمير رضي الله عنه بعد بيعة العقبة إلى يثرب ليُعلِّم الناس، أي ليثقفهم ويعلمهم دينهم الجديد، ويعيد صياغة مفاهيمهم عبر إعادة بناء أفكارهم، ومن خلال التعليم يتم تحضير البيئة التي ستشهد ولادة أول دولة للإسلام”(20).

ولهذا “سعى الأستاذ فتح الله كولن إلى بناء منظومة تعليمية تربوية متكاملة، تبدأ من رياض الأطفال، وصولاً إلى الجامعة، وبفضل إصراره حققت حركة الخدمة نجاحات كبيرة في بناء هذه المنظومة. إذ صار الآن لدى الحركة شبكة من المدارس في مختلف المراحل التعليمية منتشرة في تركيا وفي خارجها”(21).

لقد شعر الأستاذ كولن بالدور الخطير الذي تلعبه المدرسة والجامعة في عقول الأجيال وإصلاحهم، واقتنع اقتناعًا تامًّا بأهمية المدرسة والجامعة.”حيث كانت الشيوعية منتشرة جدًّا في بداية الستينات، وكانت الأسر يعتريها الخوف من إرسال أبنائهم إلى المدرسة والجامعة خوفًا من تأثير الجامعة على أبنائهم، من هنا كان تركيز الشيخ كولن على التعليم، واقترح أن يقيم نظاماً تعليميًا يحتضن كل الشعب”(22).

“في عام 1967م وجَّه أنظار الأغنياء ليفتحوا بيوتًا للخدمة التعليمية، مستلهمًا هذه الفكرة من دار الأرقم التي كانت النواة الأولى في تخريج أجيال الصحابة. وقد انتشر هذا النوع من المنازل التعليمية انتشاراً واسعاً في فترة وجيزة”(23).

إن الإصلاح الذي ينشده كولن، إصلاح بالعلم والحكمة التي تقتضي أن يكون المصلح على بينة ودراية بآفات عصره الذي يعيش فيه، وان يُشخص الدواء المناسب لكل علة.

“وأوجدت هذه البيوت التعليمية لدى الناس قناعة بالاطمئنان في أن يسلموا أبنائهم لبيوت الخدمة التابعة للأستاذ كولن، ثم اندلعت أزمة اقتصادية وتعليمية في تركيا، وانطلقت حملة قادها الأستاذ كولن لتشجيع القطاع الخاص، للاستثمار في مجال التعليم”(24).

إنشاء المدارس

“في عام 1987م كان الشيخ كولن يلقي خطبه ودروسه في المساجد الكبيرة، كمسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، وكانت طبيعة الدروس التي كان يحضرها عشرات الآلاف من الناس تركز على التربية والتعليم، فاقتنع العديد من مستمعيه بأفكاره ومن ثمّ تسابق أشراف المدن وأغنياؤهم لإنشاء المدارس”(25).

من المحلية إلى العالمية

“بدأ فتح المدارس في دول أخرى خارج تركيا منذ بداية التسعينيات؛ فقد تأسست أول المدارس خارج البلاد سنة 1991، وذلك في آسيا الوسطى إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، فيما كانت التجربة قد بدأت قبل ذلك بسنوات داخل تركيا”(26).

في صيف عام 1990م وجه الأستاذ فتح الله كولن دعوة إلى الشعب التركي من على كرسي الوعظ في المساجد السلطانية «إلى نجدة إخوانه في الدم والدين، الذين خرجوا من الاستعمار (الروسي) قبل أن يدخلوا تحت سيطرة استعمار ثان، وبأثر من تلك الدعوة استضاف الشعب التركي في تلك السنة ما يناهز الثلاثين ألف عائلة من آسيا الوسطى، وهو ما أعطى المدارس فيما بعد قاعدة شعبية من كل الناس بعد موجة التعاطف والانخراط الشعبي في المبادرة.

لم تقتصر تجربة إنشاء المدارس على تركيا ثم دول آسيا الوسطى، بل بدأت التجربة تعمّ العالم كله، حيث وصل عدد المدارس لأكثر من ألفي مدرسة تنتشر في أكثر من 170 دولة حول العالم، من تنزانيا وكينيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا والسنغال والنيجر، إلى الصين وكوريا الجنوبية وأفغانستان، وكذلك أوروبا والأمريكيتين، بالإضافة إلى العديدي من الجامعات داخل وخارج تركيا.

لقد سعى الأستاذ جاهدًا أن يحسن صورة الإسلام لدى الغرب التي شوهها المغرضون، والقضاء على ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، والسعي نحو مزيد من الشعور بالوحدة بين الناس. 

أصبحت شبكة المدارس الواسعة التي أنشأها طلاب الأستاذ كولن في مختلف أنحاء العالم تحقق مستويات عالية من مستويات التكوين التربوي والمعرفي، وتبعا لذلك أصبحت السمعة العلمية لبعض هذه المؤسسات تضاهي في سمعتها الأكاديمية بعضًا من أعرق المؤسسات التعليمية في العالم.

وحين تتم دراسة تجربة هذه المدارس عن قرب فإن أهم الخلاصات التي يخرج بها الباحث: أن لهذا النجاح أسبابًا لا أسرارًا، بمعنى أن هذا النجاح فضلاً عن النموذج الإنساني المتميز الذي يقف وراءه بجد واستماتة منقطعة النظير، فهو نجاح مستحق لجهد من الإعداد الفني والاستعانة بكل ما قد يساعد عليه من أسباب ووسائل وخبرات وتجارب، سواء منها ما تعلق بالمستوى المادي من حيث البناء والتجهيز، أو ما يتصل بالأطر التربوية والإدارية، وخاصة معايير الاختيار ومسارات التكوين المستمر للمدرس، أو متطلبات العملية التعليمية من وسائل ومناهج.

د- رحلات الحوار بين الأديان: لا تتوقف حركة كولن عند الوسائل التقليدية للحوار والتقارب مع الآخَر؛ ولكنها تبتكر أفكارًا وبرامج جديدة وجذابة، ومن هذه البرامج المبتكرة «برنامج يُدعَى”Be Muslim for a month” أيْ “كُن مسلمًا لمدة شهر”؛ وهو برنامج سياحي يُقدِّم دعوات لسيّاح غربيين غير مسلمين ليقضوا شهرًا في إسطنبول، وغالبًا ما يكون في شهر رمضان حيث الروحانيات المرتفعة، وخلال هذه الرحلة يعيش السائح الغربي الحياة الإسلامية بكل تقاليدها، ويتم دعوته لحضور الصلوات الخمس، وزيارة الآثار الدينية في تركيا، والاستماع إلى محاضرات بعض من اعتنق الإسلام من الغربيين لعرض تجربتهم وكيف ساعدهم الإيمان على سعة الأفق والتفاعل مع العالَم، ولمزيد من التقارب والتعارف تستضيفه بعض الأسر التركية الملهَمة بفكر الأستاذ فتح الله كولن”(27).

وقد سعى الأستاذ جاهدًا أن يحسن صورة الإسلام لدى الغرب التي شوهها المغرضون، والقضاء على ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، والسعي نحو مزيد من الشعور بالوحدة بين الناس. فمنذ عام (2005م) أصبح مئات من غير المسلمين مطلعين على حركة كولن نتيجة للمشاركة في رحلات الحوار بين الأديان إلى تركيا التي ترعاها مؤسسات تابعة لحركة كولن، حيث يتعرف المشاركون في الرحلات -التي تتراوح مدتها من ثمانية أيام إلى عشرة- على المواقع التاريخية والثقافية والدينية في تركيا، وتتوفر لهم فرصة للتفاعل مع عائلات مسلمة، وليس الغرض من تلك الرحلات بأي شكل من الأشكال التعبئة للحركة، بل هي رحلات يتم تنظيمها للترويج للحوار بين الأديان ونشر الصورة الصحيحة لوسطية الإسلام.

وميزة هذا البرنامج أنه يعتمد على الاحتكاك المباشر ومعايشة الحياة الإسلامية عن قرب، فإذا كان الحوار والتعارف والتعاون المشترك هو أحد الأبعاد المهمة من وراء الفعاليات المتعددة للمؤسسات التابعة لحركة كولن؛ فإن هذا البُعد في الأصل يخدم بُعدًا أكبر وهدفًا أسمى وهو تبليغ دين الله تعالى إلى آفاق الدنيا، لأن جميع الفعاليات التي تقوم بها الحركة في شتى المجالات هدفها إرضاء الله تعالى بتعرف الخلق على الحق تعالى، وتلك مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام في كل زمان ومكان.

يقول الأستاذ كولن: “إن تعليم بني البشر لإصلاح أمرهم هو المهمة الرئيسة للأنبياء والرسل، وهو ما أكدته الكثير من آيات القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى: لقد مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين(آل عمران:164)، وكذلك قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(الجمعة:2)”(28).

ولهذا فإن الأستاذ كولن يدعو دعاة الإصلاح في كل زمان ومكان أن يعملوا على ترسيخ أفكار نبذ العنف والكراهية والصراع في كافة مستوياته سواء على المستوى الحضاري أو الدولي أو بين المذاهب والأديان المختلفة، وأن يحاولوا جمع القلوب المختلفة والعقول المتناحرة على مائدة المحبة والتعايش السلمي وقبول التعددية والتنوع الثقافي بين جميع البشر.

يقول الأستاذ كولن: “أيها المصلحون بشتى توجهاتكم الفكرية وانتماءاتكم السياسية والحزبية اقتحموا ميادين الإصلاح لبناء نهضة بلدانكم، وادخلوا بها في عالم المنافسات الحضارية العالمية، فضوا مشاكل البيت الواحد بالحلول الأخوية السلمية، حكّموا منطق موازنات مصالح أمّتكم، واجهوا الخلافات بمنطق العدل والحكمة والتراحم عند الاختلاف”(29)

إن كولن يأتي بتفسير معقول لتصفير الأنا يؤطره بمفهوم آخر يسميه “الممرية”، فليس من حق الإنسان أن ينسب الأفضال إلى ذاته، لأنه ممر لها أصلًا.

إن الإصلاح الذي ينشده ويريده الأستاذ كولن، إصلاح يتسم بالعلم والفطنة دون عجرفة أو عنجهية أو إملاء رأي على رأي آخر، إنما هو إصلاح بالعلم والحكمة التي تقتضي أن يكون المصلح على بينة ودراية بآفات عصره الذي يعيش فيه، وأن يشخص الدواء المناسب لكل علة ومرض.

لذا يقول الشيخ كولن عن الجهل: “الجهل قناع على وجوه الأشياء، والشخص الذي لا يمزق هذا القناع عن وجهه شخص نكد الحظ لا يستطيع النفوذ أبدًا إلى الحقائق الكونية السامية، وأكبر جهل وأعظمه هو الجهل بالله تعالى. عندما يترافق هذا الجهل مع الأنانية فإنه يتحول إلى جنون لا يمكن الشفاء منه”(30).

وأخيرًا وليس آخرًا يدعو الأستاذ كولن جميع المصلحين أن يتحلوا بالإخلاص حتى تتسم دعوتهم بالديمومة؛ إن الأستاذ كولن يعتبر تصفير النفس شرطًا أساسيًّا لضمان “استمرار” الألطاف من الله تعالى، ويعتبر بروز الأنا سببا في انقطاع تلك الألطاف، فيقول: “إذا أردت للعناية الإلهية أن تستمر بالهطول عليك في نجاحاتك، فتخلّ عن ادعاء الفضل لذاتك، اعمل على محو الأنا، وانسب الفضل إلى صاحب الفضل، وتواضع أمام الله”، ويحذر بالمقابل من مخاطر الأنانية: “الحذرَ الحذرَ من الوقوع في براثن الأنانية، فردية كانت أو جماعية. لأن الأنانية سبب الحرمان من عون الله”، ويحذر بالمقابل من مخاطر الأنانية ورغبة الإنسان في التسلط فمن جميل ما قاله الأستاذ كولن في هذا الصدد قوله:”تخلّ عن دعوى الأنانية، صفِّر نفسك، ودع خالق الأرقام يضع الرقم الذي يريد إلى جانبك”(31).

ويأتي كولن بتفسير معقول لتصفير الأنا يؤطره بمفهوم آخر يسميه “الممرية”، فليس من حق الإنسان ينسب الأفضال إلى ذاته، لأنه ممر لها أصلاً، ويعبر عن هذا المعنى بعبارات في غاية الرقة والعمق حيث يقول:

“على الإنسان أن يبذل في سبيل الله كلَّ ما أوتي من جهد، ولكن عليه أن يلزم حدّه في جنب الله، ويعيَ منزلته، ويكون في يقظة وحذر، لا يتعدى حدوده ولا ينسب لنفسه ما ليس منها، عليه ألا يَنسب الجمال إلى نفسه ألبته، وأن يستحضر دائمًا أنه ليس مظهرًا للجمال، بل هو ممر له على الأكثر؛ لأننا لسنا أصل الجمال، أصل الجمال هو الله، وليس الجمال ملازمًا لذاتنا، فلا يليق نسبة الجمال إلا بصاحب الجمال. أجل، لسنا مصدر الجمال، وجمالنا ليس نابعًا منا، بل منه سبحانه. فمن كان هذا فكره، بارك الله له في أعماله، وأصبح بطلَ الآية التي تقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ(إبراهيم:7)، وأفاض الله عليه من نعمه دون انقطاع.

الختام

وفي الختام نستطيع الوصول إلى نتيجة مهمة تتعلق بإيجابية الفكر والحركة، بمعنى عدم الوقوف عند نقد الآخرين وتفنيد سلبياتهم، بل بالاهتمام بطرح الحلول والبدائل التي يمكن تطبيقها، في ظل قيود الواقع ومعطياته الفعلي، ومن هنا اعتمدت الحركة سياسة تقوم على أن تقديم البدائل أهم من انتقاد النواقص، وأن إضافة طريق جديد أجدى من المزاحمة على الطرق القديمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) أرطغرول حكمة، قصة حياة ومسيرة فكر، ترجمة: د. خالد جمال عبد الناصر، دار النيل للطباعة والنشر القاهرة، ط2، 1435ه 2014م، ص7.

(2) محمد فتح الله كولن، دنياي الصغيرة، ص13.

(3) أديب إبراهيم الدباغ، سيرة حياة فتح الله كولن، غير منشور، ص16.

(4) المرجع السابق، نفس الصفحة.

(5) محمد فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط3، 2009م، ص145.

(6) على أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017، ص369.

(7) انظر في هذا الإطار ما كتبه فريد الأنصاري عن الأستاذ كولن في كتابه “عودة الفرسان.. سيرة محمد فتح الله كولن، رائد الفرسان القادمين من وراء الغيب”، ص52. وانظر كذلك البحث الذي قدمه إبراهيم البيومي غانم، في مؤتمر مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، معالم في سيرة “هوجا أفندي: محمد فتح الله البسّام الأناضولي”، ص215-256.

(8) محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013م، طـ1، ص113.

(9) المرجع السابق، نفس الصفحة.

(10) الكلمة الافتتاحية للشيخ كولن، كلمة مكتوبة ألقاها الأستاذ نوزاد صواش المشرف العام على مجلة حراء، في مؤتمر القاهرة الدولي بجامعة الدول العربية ,19/10 /2009م، ونشرت هذه الكلمة في افتتاحية مجلة حراء العدد 23، شهر رجب، لعام 2010م.

(11)  عبد الإله بن مصباح، آفاق اليقينيات العلمية من تجليات رؤى فتح الله كولن الاستشراقية، دار النيل للطباعة والنشر، طـ2، القاهرة، 2013م، ص53.

(12) الكلمة الافتتاحية للشيخ كولن في مؤتمر مستقبل الإصلاح، جامعة الدول العربية، القاهرة، مرجع سابق.

(13) محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، مرجع سابق، ص116.

(14) محمد فتح الله كولن، أسئلة العصر المحيرة، دار النيل للنشر، القاهرة، ط3، 2014م، ص34.

(15) مقابلة شخصية للباحث مع أحد أبناء الحركة في القاهرة بمقر مركز النيل للغات، بتاريخ :4/9/2015م.

(16) النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، عبارة عن جولة مباركة في آفاق السيرة النبوية الشريفة، تأليف الأستاذ محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر.

(17) محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، مرجع سابق، ص117.

(18) محمد فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ3، 2003م، ص277.

(19) مريم آيت أحمد، التعليم أساسًا للإصلاح تجربة كولن وبن عاشور نموذجًا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ2، ص55.

(20) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(21) محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث الحضاري، قراءه في مشروع فتح الله كولن، مرجع سابق، ص122.

(22) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(23) نوزاد صواش، جولة تاريخية في مدارس كولن الإصلاحية، مجلة حراء، عدد11، 2016م، ص62.

(24) ندوة نقاشية دعي إليها الباحث بمركز النيل للطباعة والنشر بالقاهرة بتاريخ 5/3/ 2015م.

(25) المصدر السابق.

(26) محمد أنس أركنة، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ2، 2009م، ص341.

(27) فؤاد البنا، عبقرية فتح الله كولن بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ3، 2014، ص134، بتصرف.

(28) فتح الله كولن، “لدى استكشافنا خط السير”، مجلة حراء، عدد 14، السنة الرابعة، 2008م، ص21 بتصرف.

(29) مريم آيت أحمد، ميادين الإصلاح في مشروع الشيخ كولن، مجلة حراء، العدد 24، 2011م، ص45.

(30) محمد فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، مرجع سابق، ص118.

(31)  نوزاد صواش، أن تكون صفرًا، موقع نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية، 9/ 8/ 2019.