يشكل البحث في محيط الدلالة القرآنية والنبوية، وقراءتها من زاوية سبر البعد المدنيّ التجدديّ، الذي تَشْتَحِنُ به، مَنْشطا مُهِمًّا ومَشْغلا رئيسًا في منهج الأستاذ “كولن”. فطالما استلهم المنظّرون أفكارهم وتصوراتهم من وحي الافتراض والتخيّل، أو استمدّوها من حقل الاقتباس والتركيب، أو أنشأوها من خلال استنطاق التاريخ ومنعطافات المسيرة الجمعية لأممهم.
في رسمه لخطّة المستقبل، يستند “كولن” على أرضية صلبة من المعطيات، تتمثل في مقررات الكتاب والسنّة من جهة، وفي بيانات السجل التاريخي كما عاشتها الأمّة في أطوارها المختلفة.
“كولن”، والاستنباط الفقهي
إن استقراء توجيهات وإيعازات هذه المصادر القدسية والتوثيقية، واستدرار تبصيراتِها وعِبَرِها، هو نوع من الاستنباط الفقهي الدقيق الذي يخصّ مصير الأمّة ورسالتها الربّانية الخالدة. فهو إذن حقل تخريجي من صميم جنس الاجتهاد الشرعي الذي أهاب القرآنُ بالأمّة أن تُفرِّغ له على الدوام مَن يتكفّلُه ويتولّى مراسه: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(التوبة:122).. بل هو ذروة هذا الاجتهاد الشرعي وسنامُه الذي حرضت عليه الآية وأوجبته، لأن المناط فيه مناط جمعي مصيري.. بل إنه تطبيق عملي لدعاء المسلمين المتردد على ألسنتهم وفي قلوبهم مع كل صلاة ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الفَاتِحَة:6)، فاستشراف المنافذ والمصادر والطرق التي تساعد الأمة على الخروج من منسحقها، هو جهد اجتهادي وتمحيصي يهدف -في إخلاص- إلى استنقاذ الأمّة وبيان السبيل الأوفق لها، والجادة الأجدر أن تسلكها.. فهو من هذا الجانب جهاد أكبر، وفقه أكبر، حريٌّ بالأمة أن تلتفت إليه، فتُرسِّمه ضمن معارفها الشرعية الأصيلة.. ذلك لأن هذا الضرب من الترَوِّي الإسنادي قد تعاطته الأمّةُ في عهود مضت، حين تصادمت مع التمدد الصليبِي وجثُوِّهِ على ثغورها. وإن ما كتبه الغزالي مثلا، هو بعض ما حاول النيّرون من مفكّري الأمة أن يتصدوا به للعدوان آنئذ. غير أن الأمة وإن واجهت الاعتداء غداتئذ بالجهاد وبثقافة الانكفاء، إلا أنّها لم توفّق إلى تنمية فقه الاستنهاض والاستقواء.. لأن مضاعفات التراجع كانت من الفداحة بحيث تقلّصت الرؤية وانحصرت -أجل انحصرت- في مطلب البقاء الأعزل، بعد أن تدهورت الهمّة واقتصرت على الرضى بالكفاف.
إن الاشتغال الفكري الذي يواظب عليه الأستاذ كولن اليوم، هو قمّة الحدب والتكفل الذي تمليه على الأكرمين روحُ الاحتساب والمبرة والمرحمة حيال أمّتهم ودينهم وإنسانيّتهم.
مواصلة اجتهادات أرباب الفكر الفقهي
إن الاشتغال الفكري الذي يواظب عليه الأستاذ “كولن” اليوم إنما هو اشتغال موصول باجتهادات أرباب الفكر الفقهي ممن عاشوا وأفئدتهم مشرَّعة تحتضن الأمّة، وتقيل عثارها في مواطن الزلل. فحين يستنبط المفكّر ورجل المدَنية “كولن” مفاتيح فلسفته من صلب معطيات ماضيه، وصميم تجارب أمسه، فإنه يسترفد التاريخ الذي كتبت الأمة صحائفه بدَمِها، ويسترشد الحضارة التي شادت الأجيال معالمها بعرقها، ولا يكون “كولن” في كل ذلك -قطعا- عالةً على ذلك الماضي، ولا هو منتكص صوبه لدواعي العجز والكلال، كلا، إنما الذي يحمله على القيام بمثل ذلك الاستئناس هو الرغبة القويّة في أن يستوثق للأشواط حتى لا تحيد، وللرمية حتى لا تخطئ.
داعي الأصالة والتأصيل يلحّ علي “كولن” فيزداد استمْساكًا بالأرضيّة والجذور.
لقد علّمته دروس التاريخ أنّ مسار الحضارات آيل إلى طريق الانسداد ما لم تدر عجَلته على دعامة الرّوح.. بل لقد علّمه التاريخ أنه حتى المدَنيات ذات البعد الروحي والشرعي، مآلها إلى السقوط ما أن تنحرف عن الخطّ الأخلاقي، وتحيد عن النهج الالتزامي.. وإن مصير الحضارة الإسلامية في شوطها المنصرم لَناطق بهذه الحقيقة، ومؤكّد لاطرادية قاعدتها. من هنا كان الحرص على استحضار البيانات والمعطيات والاسترشاد بها في رسم الطريق إلى النهضة.
——————————————–
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 112 -114.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.