إن تبني الدولة لمشاريع النهضة أمرٌ من صميم اختصاصها؛ إذ لم تنشأ الدول ونُظم الحكم إلا لكي تجتهد وتجنّد هياكلها الإدارية ومؤسساتها المركزية، ووسائلها القاعدية لصرف الجهود العامة، وتثمير المقدرات المتوفرة، أو الاحتيال لتوفيرها في حال شحّها أو نقصها، وتحويل ذلك إلى إنجازات تعمير ومرافق تمدين، تتوسع بها الحياة، ويزدهر المجتمع، ويؤصل من الأسباب والإرادات ما يكفل اطراد خطاه على طريق الرخاء والصلاح. ويحدث هذا عندما تكون الدولة مالكة لأمرها، سيدةً في قرارها، مطلقة اليدين من القيود التي تشلّ الحركة والإرادة. من هنا رأينا الأستاذ “كولن” يجعل من عامل الحرية شرطًا تكتسب الدولة به صفة التأهل لإنجاز النهضة وشقّ الدرب إليها.

 الدولة الحرة هي القادرة على ضبط خططها، ورسم مسيرتها بالشكل الحصيف والاستراتيجي الذي يجنّبها الوقوع في مصائد القوى الاستغلالية.

 وجهات نظر “كولن”:

ينبّه “كُولن” إلى أن القيادات والسياسات حين لا توفّق في سوس الأمم ببصيرة وسداد، تكبّد رعاياها من أنواع العناء ما يعمّق من حطتها، ويزيد من بخسها بين الأمم. ومن المؤكد أن السعد معقود على نواصي القادة.. فمتى ظهر القائد الحازم، المتبصر في خياراته، الألمعي في قراراته، المراهن على غايات تعزّز من شأن قومه، وترسّخ مكانتهم، سارت الأمة بخطوات ثابتة وعزيمة مكينة، ورؤية واضحة نحو هدفها في المدنية والتعمير.

 ينبّه “كُولن” إلى أن القيادات والسياسات حين لا توفّق في سوس الأمم ببصيرة وسداد، تكبّد رعاياها من أنواع العناء ما يعمّق من حطتها، ويزيد من بخسها بين الأمم.

الدولة الحازمة تختزل المسافة إلى المدنية؛ لأنها ترمي بكل ثقلها في اتجاه تحقيق الغايات، فلذا تعوّل على تشبيب روح العنفوان في الإنسان، وتُربّيه على التمرس بقيم المنافحة والتصميم، وإحباط التحديات بالعزيمة والحكمة والدهاء الذي يكفل النجاح. والدولة الحكيمة هي التي تنهض بمسؤوليتها في بناء الإنسان، وتثمير الفرص أمامه، بل وهي التي تعمل بلا كلل على خلق هذه الفرص التي تمضي بالمجتمع على سكة البناء المتين. وإن من أهم ما يتجسد فيه رشد الدولة على صعيد التعمير: استغلال الزمن، واستثمار عامل الوقت؛ إذ إن إهدار الزمن هو عنوان صريح على التخلف، والبعد عن النجابة والصواب.

   إن بناء محاضن النخب وتكثيرها، هو استزراع يحقّقه الأقطاب النورانيون بكدّهم ومرابطتهم في الساحات، يستقطبون إليهم الخيريين من ذوي النفوس المجبولة على البر وحب الفضيلة.

في كل الأحوال تظل مسؤولية النخبة حيال مهمة الإنهاض، مسؤولية لازمة لإيقاد شعلة الصحوة، بل ما أكثر ما انطلقت الشرارة من آحاد الأفراد، فالرموز الصالحة قادة الفكر والروح، هم جذوة يدخرها القدر لبعث الحياة، وتجديد مَطلع الفجر. وإن بناء محاضن النخب وتكثيرها، هو استزراع يحقّقه الأقطاب النورانيون بكدّهم ومرابطتهم في الساحات، يستقطبون إليهم الخيريين من ذوي النفوس المجبولة على البر وحب الفضيلة. وإن كل جمع من الطيبين تراهم تداعوا إلى العمل الجاد، والعطاء المثمر، إنما يكون اجتذبهم إلى رحابه رجلٌ رباني وقف حياته على العمل الصالح، فليست المجَرَّة سوى مجاميع تترامى في الفضاء العالي، متحلقة حول شموس وأقمار، من حيث تستمد الضوء والانتظام والحركة والوظيفة.

————————————————

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 186-188.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.