لقد بينا في حلقات سابقة كيف توسل الكاتب بوسائل مختلف من أجل بلوغ مرامه الذي يهدف من خلاله إلى بيان الصورة البلورية الواعية للقرآن الكريم. وقد استعمل من أجل ذلك وسائل كثيرة حاولنا التركيز على أهمها في نظرنا. فبعد العلم والإنسان نقف في هذه الحلقة لنحاور نصوص الكتاب وفهم أهمية النفس الإنسانية عند صاحبه، في فهم رسالات القرآن من أجل تحقيق العمران.
ولا يفوتني التنويه في البداية إلى قضية غاية في الأهمية بخصوص دلالة ومفهوم النفس في القرآن الكريم، والتي تجاوزت عشرة أوجه، منها القلب والإنسان، والأم والغيب والعقوبة.. الخ[1]
ومعلوم من خلال ما ندرسه في نشأة علم النفس أن هذا العلم، قبل أن يستقل بنفسه كفن مدون، كانت بعض قضاياه حاضرة ضمن المباحث الفلسفية التي تبحث في الروح والنفس الإنسانية وما يتعلق بها. وفي هذا الصدد كانت مساهمات عميقة لكثير من علماء المسلمين في قضايا النفس الإنسانية والروح على امتداد تاريخ الأمة، أمثال الفارابي(339هـ) وابن سينا(427هـ) والغزالي(505هـ) وابن خلدون(808هـ) وغيرهم.
هناك قرائن كثيرة كلها تؤكد توجه المؤلف الفريد في حديثه عن النفس الإنسانية بمنطق ومنهج القرآن، لا بما تناثر هنا وهناك من نظريات في علم النفس.
إن علم النفس الحديث يصنف الناس إلى فئات معينة ويتناولهم في إطار ذلك، فيقول أهله؛ إن الفئة الفلانية هكذا.. والناس الانطوائيون يتصرفون هكذا، والفئة العمرية مواصفاتها كذا… إلخ”، الشيء الذي دفع بعض الباحثين إلى القول بأن أصحاب هذه التصنيفات يُضيِّقون واسعًا..كما قال مؤلف الكتاب الأستاذ فتح الله”… حتى إننا نرى بعضهم في كثير من الأحيان يظل يردد الأفكار نفسها. لكن القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن قد نفذ إلى العالم الروحي والحياة القلبية لبني الإنسان، فكأنه سَلَّط عدساتٍ مكبّرةً على انفعالاتهم ورغباتهم وغرائزهم ونياتهم، وقدَّمَها لنا بخطوطها العريضة واضحةً جلية. أجل، إنه رَسَم لنا كلَّ شخصية وخَطَّ لنا صورتها القلمية وكأنها كونٌ مستقل وكتابٌ آخرُ؛ بمعنى أن القرآن المعجزَ البيانِ قد وضح أكثر المجالات التي عجز عنها علمُ النفس الحديثُ، فحلَّل كل صغيرة وكبيرة منها بأدقِّ تفاصيلها وعرَضَها أمام الأنظار.[2] والأستاذ محمد فتح الله، لا يكتفي بالتعليق، كما سبقت الإشارة في حلقة العلم، بل يناقش ويصوب ويستدرك. فقد يكون اهتامه بموضوع الجانب النفسي في الإنسان راجع إلى معرفته الصوفية، لكني أعتقد أن تكوينه العصامي ومنهجه العلمي، سواء في الفكر أو في الحركة، يدلان على أن للرجل اطلاع واسع على علوم العصر رغم كثرة فروعها. لكن خبرة المؤلف بعلوم الشريعة وخاصة القرآن والسنة، جعلته يسابق كثيرا من النظريات والعلماء في حديثهم عن ذلك العالم المجهول “الإنسان”.
وإذا كان هناك من يضيق واسعا في علم النفس الحديث كما، نبه إليه المؤلف، انسجاما مع مضامين كلام الله تعالى الموصوف بكمال العلم، الذي لانحيط منه إلا بقدر ما يحمله المخيط إذا غرز في ماء البحر، فهذا يعني توسيع الفتق على الراتق، وذلك بادعاء البعض وجود علم جديد سماه “البرمجة الروحية” وأنه سيكون أحد أهم علوم المستقبل، لأن الروح أهم وأول شيء استقبله الانسان من خالقه سبحانه وتعالى. وهو دلالة على دخول البشرية في عصر جديد يمهد لبشارة القرآن الكريم، بنزول سيدنا عيسى عليه السلام، الذي سيقود الناس من جديد؛ بما خصه الله تعالى من معجزات تنسجم مع موضوع البرمجة الروحية.[3]
وشتان بين أن نلوي أعناق آيات الذكر الحكيم لنسند بها آراءنا وبين أن ننساق لمعانيه المنسابة والرقراقة بين جداول سوره العذبة مثل ماء الكوثر؛ مع مراعاة ذلك وتذوقه حتى تغدو آيات القرآن الكريم مشعة بالمعاني التي تتزاحم في عقول من عرفوا سر القرآن الكريم. فتأمل قول المؤلف وهو يتحدث عن توزان نوازع النفس الإنسانية : “إن الفاتحة تبدو وكأنّ محورها “الصراط المستقيم”؛ فهو صراط لا إفراط فيه ولا تفريط، فالنوازع النفسانية في توازن تام مع اللذائذ الروحية، والعقل على خط متوازٍ مع القلب وكأنهما فرسا رهان. فإذا عوّلنا في طلب الهداية إلى الصراط المستقيم على المحاور الثلاثة: (العقيدة، العبادة، الحياة) يكون المعنى: اللهم اهدنا في العقيدة الصراطَ المستقيم، وأرشدنا في عباداتنا إلى الاستقامة، وبصِّرنا بطريق الدين منهجًا لحياتنا.[4]
خلاصة كل مرافعات المؤلف في قضايا النفس الإنسانية، تعد تنبيها الناس إلى عظمة القرآن الكريم، التي تفرض على الجميع بدل الوسع في معرفة حقيقة معانيه، للاستنارة بها في كل العلوم والفنون والتقنيات، وعدم الانجرار وراء خدع الآخرين والاستسلام لابتزازاتهم.
فشتان بين من يستنطق القرآن ومن يستنطقه القرآن. وذلك لأن من خصائص الأسلوب القرآني حينما يُصوِّر القضايا ويعرضها يستخدم أسلوبًا يبعث في نفس المتلقي رغبة فيها أو رهبة منها، فإذا ذكر الذنوب مثلًا حمل النفس على أن تَعَافَها.[5]
هكذا ولفهم البيان القرآني الكريم، المنزل للناس أجمعين، رام المؤلف الجانب النفسي، الذي انتبه إليه غير واحد من مفكري العصركذلك منهم؛ المصري محمد قطب والجزائري مالك نبي نبي رحمهما الله. ولفهم القرآن الكريم، الذي وصفه ملك بن نبي، ب”الظاهرة القرآنية” ، ركز رحمه الله، على الجانب النفسي كذلك، حيث عمل على تحديد أبعاد المشكلة الإنسانية والمجتمعية، والعناصر الأساسية في الإصلاح، ثم عن عوارضها. وكان رحمه الله أول من حدد منهجًا واضحا في بحث مشكلة المسلمين على أساس علم النفس، والاجتماع، وسنة التاريخ. فللقرآن بالنسبة لمالك بن نبي تأثيرات متعددة الوجوه، وإعجاز لا ينتهي، إلا أنه رحمه الله يرى، أن نظرتنا لوجه الإعجاز في القرآن الكريم، ينبغي أن تتغير من جيل إلى جيل. لأن الإعجاز عنده “صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي، وعلى الرغم من ذلك فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب “الإعجاز” لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطرا إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى، فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي، أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقا للتحليل الباطن..”.[6]
إن اهتمام علماء الأمة بالإنسان عموما وبالنفس الإنسانية بوجه خاص، إنما جاء وليد تشربهم لرسالة القرآن وامتياحهم من ينابيعها الصافية. وما سجله المؤلف هنا يعد أحد الصور المشرقة الكثيرة التي آمن بها؛ ليس بخصوص النفس الإنسانية وحدها، بل بكل ما يهم رسالات القرآن الكريم. وكما ناقش وعقب وصوب آراء وأفكارا في مجالات فكرية وعلمية مختلفة، نجده يناقش بعض قضايا النفس الإنسانية، لا كما يروج لها كثير من علماء النفس المعاصرين، بل كما فهمها من القرآن الكريم. ذلك لأن علم النفس في عصرنا قد تحدَّث عن أمور جديدة يقول الأستاذ فتح الله ” لكنه لم ينجح في الإدلاء بتفسير للإنسان بحيث يتناوله بأعماقه الحقيقية، وأقول بكل صراحة إنه من غير الممكن أن يضع علم النفس أسسًا ويتحدث عن قواعد حول الجوانب الروحية للإنسان بحيث يلبي رغبة العقل السليم في هذا المجال. وقد تَعتبرون قولي هذا مجرّد ادّعاء، إلا أنني أقول هذا من منظور شمولية القرآن؛ لأن القرآن كتاب نزل من أجل الإنسان، وهو يقدم في مجال العلوم والفنون والاجتماعيات حضارةً محورُها الإنسان.[7]
إن اهتمام علماء الأمة بالإنسان عموما وبالنفس الإنسانية بوجه خاص، إنما جاء وليد تشربهم لرسالة القرآن وامتياحهم من ينابيعها الصافية.
إن المؤلف وهو يزاحم أهل التخصص بآرائه واستدراكاته، على وعي تام بتساؤلات البعض حول هذه الآراء، إلا أن الرجل يبدو واثقا من نفسه كما يثق في مصادره. لذلك فهو ثابت في آرائه، مستمر على منهجه. فتأمل قوله:” نرى “فرويد” ممثّلًا لتيار آخر يربط كل قضية بالمشاعر الشهوانية ويخوض في البوهيمية بشكل مخْزٍ للإنسان، وحينما يحلّل الإنسانَ ينوط كلَّ ما يتعلق به من الأمور بجانب قبيح بَشِع، كما أننا نرى في جانب آخر أناسًا من أمثال “سارتر” يكادُ معظمُهم لا يرون تشريحات لدنيات الإنسان وعالمه المعنوي، ويتناولونه على غرار سائر الحيوانات، ونلاحظ أن هؤلاء للأسف، يربطون بين أمور بعيدة في حقيقتها عن بعضها البعض، فينظرون إلى الإنسان وكأنه من المخلوقات الغريبة التي غُلّت أعناقُها بأغلال الشهوة. بالله عليكم، هل الإنسان مخلوقٌ عاديٌّ بهذا المستوى؟! صحيح أن هؤلاء كانوا يستخدمون المنهج التحليلي حينما يسردون أفكارهم، إلا أن هذا المنهج يتطلّب أناسًا مؤهّلين، وإني أرى أنه لا أحد من هؤلاء في مستوى الأهلية في هذا الباب.[8]
هذا الحكم الذي قد يعتبره البعض مبالغا فيه، تؤيده قرائن وأدلة كثيرة لا يتسع المقام لبسطها أذكر واحدا منها فقط، ويتعلق الأمر بكلام الطبيب والعالم الفرنسي الكبير صاحب كتاب”الإنسان ذلك المجهول” والذي ذكرناه في حلقة سابقة، إذ يقول:”من الواضح طبعا أنه لا يوجد عالم يستطيع أن يتحكم ويتفوق في جميع الفنون التي لا غنى عنها لدراسة مشكلة واحدة من مشكلات الإنسان. ومن ثم فإن تقدمنا في معرفة أنفسنا يحتاج إلى جهود مختلف الأخصائيين في وقت واحد…”[9]
إنها قرائن كثيرة كلها تؤكد توجه المؤلف الفريد في حديثه عن النفس الإنسانية بمنطق ومنهج القرآن، لا بما تناثر هنا وهناك من نظريات في علم النفس. حيث يقول:”وأريد أن أقولَ مقدمًا: كل هذه المصطلحات المتعددة من “علم النفس” أو “علم الروح”، وما يستعمله الغربيون من تعبير “بسيكولوجي/سيكولوجي” وغيرها لا تكفي للتعبير عن ما يرد في القرآن من “الحديث عن لدنيات الإنسان وتشريح جانبه الروحي”. والمؤلف حين يعقب ويستدرك على بعض الآراء في ما يتعلق بالنفس الإنسانية، إنما ينطلق من خبرته الميدانية، التربوية والصوفية للحديث عن الإنسان وقضاياه التي اعتصرته عبر سنين طويلة. فالرجل يتحدث عن قضايا ميدانية حقيقية كابدها في زحمة الحياة، وعبر جغرافية العالم الفسيحة والعامرة بحضارات شتى، والملونة بثقافات وعادات ومعتقدات شعوب كثيرة . لذا فالرجل يتحدث عن قضايا عايشها ويصف أوضاعا عاركها خلال تجربة ميدانية عامرة بالتفكير العميق والحركة المضنية. فلايستغرب القارئ ثقة المؤلف وهو يناقش، وحرقة وهو يتحدث عن صعوبة الإحاطة بالنفس الإنسانية وادعاء أي كان معرفته بها. أجل، إن علم النفس رغم تطوُّر آليّات عمله بأنظمة عديدة وبحوث منهجية، لم يستطع أن ينفذ إلى أعماق الإنسان على مستوى القرآن، ولم يستطع أن يكتشفه ويعبر عنه على الوجه اللائق، فالخطى التي خَطاها علم النفس في هذا المجال تبقى ضئيلة جدًّا مقارنةً بما قدمه القرآن، وما قدمه علم النفس لا طعم ولا لون له إذا قارناه بما أتى به القرآن.[10]
وخلاصة كل مرافعات المؤلف في قضايا النفس الإنسانية، تعد تنبيها الناس إلى عظمة القرآن الكريم، التي تفرض على الجميع بدل الوسع في معرفة حقيقة معانيه، للاستنارة بها في كل العلوم والفنون والتقنيات، وعدم الانجرار وراء خدع الآخرين والاستسلام لابتزازاتهم. لذا يحسن بنا أن نختم هذه الحلقة التي خصصناها لبيان منهجه في فهم القرآن الكريم من خلال التركيز على النفس الإنسانية، بأحد نصوص هذا الكتاب الشيق، موضوع القراءة، نظرا لما يشكله هذا المجال من أهمية قصوى في توجيه قناعات الإنسان وتحديد اختياراته وتوجهاته. يقول الأستاذ فتح الله في بمناسبة حديثه عن الأنظمة التي تسبح في الفضاء: “… والمُحزِنُ أنَّ إنسانَ عصرنا لم يُشرَح له روحُ الدين وأسرارُ الكتاب المبين وجوهرُ الإسلام، فنشأ قابلًا لابتزاز الآخرين وخداعهم، بل إن الجموع في بعض المناطق انجرفوا إلى مهاوي الإلحاد والطغيان. وعلى الرغم من أن القرآن يتناول هذه المواضيع، ولكن قَلَّ أن تجد مِن الذين يؤمنون به ويَتْلُونه مَن يَطَّلِعون على ما فيه من الإيماءات والإشارات والدلالات المتعلقة بالعلوم والفنون والتقنيات، ولذلك فإنه من الطبيعي أن يكون إنساننا البعيدُ عن القرآن ومعاني القرآن بمنأى عن التطورات العلمية والفنية، فنحن نعيش في عصر يُهمِل فيه حتى رجالُ العلم هذه الحقائقَ، فما بالك بالجموع الجاهلة.”[11]
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : أنظر مثلا معجم قاموس القرآن للدامغاني.
[2] : ص163 من الكتاب.
[3] : مضمون هذه الفكرة لكاتبة إماراتية تدعي أنها أسست لعلم”البرمجة الروحية”.
[4] : ص83 من الكتاب.
[5] : ص 122.
[6] : أنظر الظاهرة القرآنية ص67. ترجمة عبد الصبور شاهين، ط.دار الفكر ، دمشق.2000م.
[7] : ص262.
[8] : ص264.
[9] : أنظر كتابه “الإنسان ذلك المجهول ص44.
[10] : ص267
[11] : أنظر تفصيل ذلك ص357 من الكتاب.