قال تعالى: “قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ” (آل عمران: 40)

قال زكريا هذا مع أنه كان قد دعا ربه من قبل “قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً” (آل عمران: 38). وعندما تلقى بشرى قبول دعوته قال بمزيج من الفرحة والدهشة: ” أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ”. ومع أنه قد تبدو هناك في النظرة مفارقة بين الحالين، إلا أن مثل هذه المفارقة غير موجودة. ذلك لأن زكريا عليه السلام عندما توجه إلى ربه بكل كيانه بالدعاء كان في حالة روحية عميقة، لذا لم تخطر على باله دائرة الأسباب، فتجاوز الأسباب كان يقتضيه مقام الدعاء. كما كان الدعاء يتناول أمرًا أخرويًّا متعلقًا بميراث منتظر للنبوة. ولكنه عندما عاد إلى عالم اليقظة-إن جاز التعبير-ودخل إلى عالم الأسباب وتطلع إلى المسألة من خلاله فرح وذهل فقال: ” أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ”.

مقام الدهشة

هناك أمر آخر مهم يجب الإشارة إليه في هذا المقام وهو أن العديد من كتب التفاسير التقليدية يُفسّر قول زكريا عليه السلام “أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ” بأنه صيغة تعجب، بينما أرى أنه صيغة تقدير مع تحير من القدرة الإلهية. فإن أدركنا بأن هذه الحيرة والتعجب لا يكون منافيًا لمقام النبوة. أجل! قام نبي بلغ من الكبر عتيًّا وامرأته عاقر بإبداء دهشة ممزوجة بمعرفته النبوية بالله تعالى، ثم إظهار مشاعر التقدير والإعجاب والمنة للقدرة الإلهية، والتعبير عن هذه الدهشة والتقدير والمنة بقوالب من الألفاظ المناسبة لمشاعرنا وعواطفنا.

بالنسبة إلينا فليس من السنن الإلهية حمل امرأة بلغت سن اليأس وانقطعت عنها العادة الشهرية فأصبحت عاقرًا. لذا فظهور مثل هذه الحادثة غير الطبيعية وخلاف العادة الجارية كان بمثابة إشارة تنبيه ممزوجة بالدهشة في روح نبي يقدر الآلاء الإلهية حق التقدير … شعور تقدير يتقدم على شعور الفرح. وهذا شيء طبيعي ويوافق منصب النبوة.

ثم كان التعقيب بآية “كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ”(آل عمران: 40) للإيماء بأن حوادث عدة متعلقة بمريم وعيسى عليهما السلام ستقع وستظهر. أي أنه إلى جانب الحوادث الواقعة حسب دائرة الأسباب والمسببات وحسب السنن الإلهية المطردة تقع حوادث لا ترتبط بالأسباب المنظورة، لكي تتم الإشارة إلى المشيئة الحرة على الدوام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ6، 2012م، صـ98/ 99.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع