إيجاد النموذج الحضاري الإسلامي الأصيل هو رهان المسلمين اليوم، وامتحانهم الذي يجعلهم حقًّا شهودًا على العالمين. ومواصفات هذا النموذج ومقوماته الروحية والتشريعية والقيمية والمدنية مرسومة فيما قرره القرآن من أسس حدية، وما أرشدت إليه السنة من توجيهات تنويرية، وفيما باتت عليه عقلية رواد الأمة ومصلحيها من تفوُّقٍ وإجادة وإجتهاد.

يتحتم -برأي كولن- على الأمة أن ترادف الجهود، وهي تتوجه إلى المستقبل، فتعمل من جهة، على تصحيح الأضرار التي لحقتها، ليس فقط جراء رقدتها لقرون، ولكن أيضًا مما أصابها لتلوثها الفادح بمفاسد مدنية العصر، لاسيما على الصعيد الروحي؛ إذ دمرت أوبئة المدنية المادية أهم الخصائص الروحية التي غرسها فينا الإسلام، ومكّنتنا منها مسيرة مظفّرة امتدت لقرون، كنا خلالها أساتذة العالم، ومرشديه، قبل انحراف الفطرة القويمة بحَيْدتنا عن توجيهات دستورنا القرآني، وإرشادات سيرة نبينا الكريم.

لقد شذَّت مدنية العصر في مجال المعنويات، إذ أصرت على محو المُثُل الأخلاقية الأصيلة باسم التطور الفكري والحرية الشخصية. فشرَّعت أخلاق التهتك، وأحلََّت ذيوع الإباحية، وأطلقت العنان لفكر الشذوذ.

 ذاتيتنا التي لا تقبل الوصاية:

لقد وضعتنا الفلسفات المادية، تحت هيمنتها، فأذْعنَّا للقهر طويلاً مع أن “القرآن يحرّم علينا الحياة تحت وطأة الوصاية” ؛ ذلك لأننا فقدنا مقوّم القوة الذي لا تقوم لنا بدونه راية، حتى وإن كنا نملك أقدس الكتب وأعظمها ترشيدًا وتنويرًا، والسبب هو أننا هجرنا هذا الكتاب المبين، واتخذناه ظهريًّا.

فبتجهيز روحنا من جديد بمبادئ القرآن وتعاليم السنة، تتهيأ كينونتنا للانبعاث والعطاء والإبداع والبناء. في هذا الإطار، لا مندوحة لنا من العودة إلى الإسلام؛ اكتسابًا للحصانة من الاختراق “الإسلام كحليب الأم، له الدور الأساس في ضمان وتنشئة جهازنا المناعي”. فـ”تفوق الإسلام ناتج عن كونه حقّق نقطة التقاء السعادة البشرية ورضا الله”. والجهد الآخر ينصبّ على تحصيل المعارف العصرية، لاسيما العلوم التجريبية والتكنولوجية، والتطبع من جديد على أساليب التفكير والبحث والاكتشاف، فبذلك نمكّن لقوانا الخاملة واستعداداتنا الضامرة من أن تنبعث بأكثر مما كانت عليه من حيوية وتوثب في الماضي، عندما كنا رادة الحضارة وروادها.

الشرط العلمي والمعرفي المؤهِّل للبناء:

هذا الشرط لا بد أن يَقرن في صلبه البُعدَيْن: الروحي والعقلي، القلبي والمنطقي؛ تجاوزًا للوضع المتفاقم الذي تعرفه مدنية اليوم التي انتهى بها الوهم والجحود والوثوق الأخرق في الذات وفي المادة، إلى الطريق المسدود، من حيث فشلتْ نظمها (المالية والأيديولوجية) في الصمود أمام تحديات الحياة والتاريخ، وكذا من حيث عجز فاعلياتها القيمية والتصورية عن ضبط الاستشراف السديد والتحوط الرشيد للراهن والمستقبل؛ إذ سارت (المدنية المعاصرة) في طريقٍ يرجّح كفة الإيمان بالمحسوس على حساب الإيمان بالله، والامتثال لأوامره، والأخذ في كل تخطيط واستشراف بالبعد الروحي الذي يجعل إرادة الله حاضرة في كل مسعى أو رهان.

بتجهيز روحنا من جديد بمبادئ القرآن وتعاليم السنة، تتهيأ كينونتنا للانبعاث والعطاء والإبداع والبناء.

لقد شذَّت مدنية العصر في مجال المعنويات، إذ أصرت على محو المُثُل الأخلاقية الأصيلة باسم التطور الفكري والحرية الشخصية. فشرَّعت أخلاق التهتك، وأحلََّت ذيوع الإباحية، وأطلقت العنان لفكر الشذوذ، وهدم المقومات الوجودية (تفكيك الأسرة، الزواج المثلي، العهر المدني، وما يشاكل ذلك من كبائر ظلت الديانات تحذّر من مغبتها)، فكان حتمًا أن ننتظر حلول نقمة الله؛ حدًّا لتعاظم هذه البوائق والمفاسق التي نراها تتلاحق اليوم في العالم، منذرةً بما لا بد من وقوعه، سُنة الله في الأرض، ولن تجد لسنته تبديلاً.

وإن الكيفيات التي تأخذها النقم الإلهية لعديدة، وتُناسب حجم الجُرم والغواية، وإننا لا نفتأ نتدرج في اكتشاف صور للهول، ولقد رأينا كيف تُروِّعُ ضربة تسونامي، أهل الأرض جميعًا، وتذكّرهم بما أصاب الأمم الهالكة من تصفية ونسف كما أخبر القرآن، فيذهلون ساعة عن غرورهم، ثم تعاودهم الغفلة، فيمضون في سدرهم وضياعهم؛ ذلك لغياب الضابط الروحي في القلوب.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:199-202.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.